هذه الدعوة لإخلاء شمال سيناء من السكان، التي انطلقت في كل أجهزة الاعلام في نَفَسٍ واحدِ، بعد دقائق معدودة من الجريمة الارهابية البشعة "المتكررة" هناك، والتي أدت الى استشهاد 30 من جنودنا، هي دعوة خطيرة ومرفوضة.
1) فهي أساساً مشروع صهيوني قديم، طلبته (إسرائيل) وأمريكا من الادارات المصرية المتعاقبة منذ عدة سنوات، وأجمعت جميعها على رفضه.
وخلاصة المشروع هو ان يتم انشاء منطقة عازلة أو حزام أمني بعرض من 5 الى 10 كيلومترات بموازاة الحدود الدولية بين مصر والكيان الغاصب، وعلى الأخص بين مصر وقطاع غزة.
على أن يحظر على المدنيين التواجد فيها، وتقتصر على القوات المصرية بالإضافة الى قواتMFO، وهي القوات الأجنبية الموجودة في سيناء لمراقبتنا والتي تخضع للإدارة الأميركية وليس للأمم المتحدة، وآخر مدير لها كان هو السفير ديفيد ساترفيلد الذي تولى منصب القائم بأعمال السفارة الأميركية بعد آن باترسون.
ولقد أشارت بعض الدراسات المصرية و(الإسرائيلية) القديمة لهذا الشريط العازل باسم "الطريق الأميركي"، نسبة الى ما أشيع من تولى سلاح المهندسين بالجيش الامريكى لأعمال الدراسة والتصميم والاعداد للمشروع.
***
2) ان (إسرائيل) التي تعتبر سيناء منذ عقود طويلة منطقة عازلة بينها وبين مصر وليست جزءاً من مصر، لم تكتفِ، في اتفاقيات كامب ديفيد، بإكراه النظام المصري وإجباره على تجريد ثلثي سيناء من السلاح والقوات، بل تطالب اليوم بإخلاء الحدود من السكان، بذريعة حماية أمنها.
***
3) ورغم أن البيانات الرسمية تحدثت فقط عن اخلاء الشريط الحدودي الموازي لقطاع غزة، الا ان الحملة الاعلامية لإخلاء كل شمال سيناء التي بدأت بعد دقائق معدودة وبلسان واحد من كافة القنوات الفضائية بمشاركة كل هذا العدد من الخبراء العسكريين والاستراتيجيين، يؤكد على انها حملة موجهة من السلطة، لتمهيد الرأي العام لهذه الاجراءات الخطيرة، التي ستبدأ بالشريط الحدودي ثم قد تتسع حسب الاحوال والظروف.
***
4) ان تعداد محافظة شمال سيناء لا يتعدى 400 ألف نسمة، بينما كان في مقدور مشروعات التنمية "المحظورة" زيادة هذا العدد الى ثلاثة مليون نسمة. وهو العدد الذي حدده مناحم بيغين عام 1979، حين سألوه عن سبب خروجه من سيناء، فأجاب ((سنضطر إلى الإنسحاب من سيناء لعدم توافر طاقة بشرية قادرة على الاحتفاظ بهذه المساحة المترامية الأطراف، سيناء تحتاج إلى ثلاثة ملايين يهودى على الأقل لاستيطانها والدفاع عنها، وعندما يهاجر مثل هذا العدد من الإتحاد السوفيتي أو الأميركتين إلى إسرائيل سنعود إليها وستجدونها في حوزتنا)).
هذه هي العقلية الصهيونية، التي ترى في سيناء منطقة خالية عازلة ومعزولة، تحتاج لمن يستوطنها، فنأتي نحن اليوم وبدلا من تعميرها ندعو الى اخلائها من السكان!
ان موازين القوى العسكرية تستطيع ان تهزم الجيوش، ولكنها لا تملك الاستيلاء على الاراضي واستيطانها لو كانت عامرة بالسكان، انظروا كيف انسحبت جيش العدو من جنوب لبنان ومن غزة، وتذكروا كيف تصدى أهالى السويس للعدوان الصهيوني في 1973 وقبلهم اهالى بورسعيد للعدوان الثلاثي في 1956.
ان الشعب والسكان والاهالي، سواء كانوا حضرا أو بدوا هم خط الدفاع الحاسم والأخير عن الأوطان حين تنهزم الجيوش او تتقهقر أو تختل موازين القوى الاقليمية والدولية.
***
5) ان القوى الوطنية المصرية طالما طالبت النظام منذ عقود طويلة بضرورة تحرير سيناء من قيود كامب ديفيد، وحذرت من ان بقاء هذا الوضع سيعرضها الى كافة انواع الاخطار والشرور والأشرار، بدءا بالاختراق الصهيوني والإرهاب والتهريب وتجارة العبيد والأعضاء البشرية...الخ، وكررت مطالبها بعد قتل العدو للجنود المصريين في اغسطس 2011 وفي اعتداءات 2012 و2013 ، ولكن لا حياة لمن تنادي!
وحتى حين دفعت مصر بقوات اضافية الى سيناء في الشهور الاخيرة، فانها تفعل ذلك بعد استئذان (إسرائيل) وموافقتها على عدد القوات وعتادها وتسليحها ومهماتها ومدة تواجها وموعد انسحابها.
ان "لعنة سيناء" هي كامب ديفيد وقيودها، وطالما بقيت مكبلة مقيدة وناقصة السيادة، ستظل محرومة من الامن والاستقرار والتنمية، فأى تنمية أو تعمير هذا الذي يمكن ان يتم بدون حماية كاملة من الدولة وقواتها المسلحة على غرار ما يتم في باقي محافظات مصر.
***
6) كما ان الدعوة الى هذا الاخلاء الجزئي او الكلي لشمال سيناء، فيما ظهر بأنه تلبية واستجابة للمطلب الصهيوني الذي طالما رفضناه، أثارت الشك لدى الكثيرين، من أن تكون الجريمة الارهابية الأخيرة وكل ما سبقها تم بتخطيط ودعم أو باختراق (إسرائيلي)، وفقا لقاعدة ابحث عن المستفيد.
***
7) كما ان انطلاق هذه الدعوة من فرضية ان مصدر الخطر هم الفلسطينيين في غزة التي لا تتعدى حدودنا المشتركة معها 14 كيلومتر، في حين ان حدودنا المشتركة مع الكيان الغاصب هي اكثر من 200 كيلومتر، وهي صاحبة التاريخ الطويل من العدوان والاختراق والتجسس والتآمر. هذا بالإضافة الى أن الفلسطيننين يخضعون الى قيود صارمة لدخول مصر من معبر رفح المغلق معظم الوقت او الانفاق التي تم هدم غالبيتها مؤخرا، أما الصهاينة الذين يدخلون سيناء بالمئات يوميا من معبر طابا، بدون تأشيرة، وفقا لاتفاقية طابا الموقعة بين مصر و(إسرائيل) عام 1989. فمن الأولى بالشك والتصدى، اخوتنا الفلسطينيين أم اعدائنا من الصهاينة الإسرائيليين؟!
***
8) وهم يدافعون عن دعوتهم بالإخلاء، بأن له سابقة في 1967 حين تم تهجير اهالي مدن القناة. وهو تشبيه باطل ومخل، فالتهجير حينها تم لحماية المدنيين من اعتداءات الطائرات الصهيونية في غياب كامل لسلاح الدفاع الجوي المصري، اما اخلاء سيناء من سكانها فيتم بافتراض انهم انفسهم مصدر الخطر.
والتعامل مع اهالينا في سيناء على انهم مصدر خطر على الامن القومي، وانهم حاضنة طبيعية للارهاب، هو ادانة للدولة والنظام المصري اكثر منه ادانة للأهالي، لانه يحمل النظام مسئولية ايصالهم الى هذه الدرجة من العداء للدولة المصرية، بانتهاجها سياسات التهميش والتفقير والاضطهاد الامني.
ولكنهم والحمد لله ليسوا كذلك، فهم لا يقلون وطنية على اي محافظة اخرى، بل ان دورهم في مواجهة الاحتلال الصهيوني 1967 ــ 1973 مشهود له من الجميع.
***
9) ان تجنب وتجاهل الحل الوحيد القادر على انقاذ سيناء، المتمثل في تحرير مصر من قيود كامب ديفيد، واللجوء بدلا من ذلك الى الحل الإسرائيلي بتهجير واخلاء السكان من شمال سيناء جزئيا أو كليا، يكشف عن الفرق المهين والمؤلم بين النظام الذي يخشى (إسرائيل) ويعمل لها 1000 حساب، وبين ذات النظام الذي يستخف بشعبه فيفعل به ما يشاء بما فيها تهجيره قسريا.
***
10) ولو أصرَّت الدولة على اللجوء الى هذا الحل، فستنقل مواجهتها مع بضعة مئات من الارهابيين الى مواجهة مع مئات الآلاف من الاهالي والتي قد تتحول الى عداء تاريخي تتوارثه الاجيال يمثل ابلغ الخطر على قضايا الولاء والانتماء والهوية والأمن القومي في سيناء.
***
11) وأخيرا وليس آخرا، فان لدى الذاكرة الوطنية المصرية جرحا غائرا، من كوارث انفراد الدولة بإدارة ملف الامن القومي في سيناء والصراع ضد إسرائيل، بدءا بهزيمة 1967، وانتهاءً بفاجعة كامب ديفيد التي سرقت النصر العسكري وانتهت بالاعتراف بـ (إسرائيل) وتجريد ثلثي سيناء من السلاح، والعجز عن التحرر من قيودها على امتداد 35 سنة، والتي هي السبب الحقيقي وراء سقوط كل هؤلاء الشهداء هناك، بالإضافة الى انحيازها للعدو في حصاره واعتدائاته المستمرة على الفلسطينيين، وبالتالي فإن احدا لن يستطيع أن يعطي بعد اليوم تفويضا على بياض لأى نظام في ملف سيناء او في غيره.