رعد البيدر
العلاقات التي سنتناولها في الورقة الخامسة هي علاقات عربية - فارسية أو إسلامية مجوسية أكثر من كونها علاقات عراقية - فارسية ؛ لكن ارتباط هذه العلاقة بالعراق اكثر وضوحاً - تأثيراً وتأثُراً – قديماً وحديثاً ؛ لكون معظمها قد تشكلَّت ومرَّت من على ارض العراق كأسبابٍ وكنتائج. تبدأ العلاقة موضوع عرضنا من إرغام إيران على دخول الإسلام إلى نهاية الخلافة الراشدة بمقتل الأمام على بن أبي طالب .... نوجزها بالسطور التالية :
بعد فتح مكة باشر النبي صلى الله عليه سلم بمكاتبة الأباطرة والملوك دعاهم في رسائله للإسلام أو الجزية أو القتال . امتعض " كسرى " من رسالة النبي صلى الله عليه سلم - أسلوباً ونصاً ، واعتبرها تطاولاً من العرب على ملك الفرس؛ فمزَّق الرسالة النبوية أمام حاملها واستهان به. من الثابت تاريخياً أن الإسلام لم يتوسع خارج شبه الجزيرة العربية في حياة النبي صلى الله عليه سلم. وأن قمع المرتدين عن الإسلام والمراحل الأولى لتحرير العراق من الهيمنة الفارسية قد بدأت في عهد الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق .
نوهنا في الورقة السابقة إلى أن السيطرة الفارسية على العراق قد ضَعُفَت نتيجة هزيمة الفرس في معركة ذي قار. واستثماراً لتلك النتيجة أستأذن " المثنى بن حارثة الشيباني" خليفة المسلمين " أبو بكر " بأن يسمح له بتنفيذ غارات على تجمعات المواقع العسكرية والأسواق الفارسية ؛ فوافق " الصدّيق " على طلبه. وللتوضيح نُبَينُ أن مفهوم الغارة في المصطلحات العسكرية يعني" فعالية قتالية تعرُضيه (هجومية) ، تُنفَّذُ بعدد قليل من المقاتلين ولوقت قصير من الزمن ، يستهدف منفذوها إرباك تجمعات العدو والتأثير على معنويات القادة والجنود، كتدمير منشآته أو خطف أسرى من جنوده. يخطط للغارة وتنفذ بحيطة وحذر وكتمان عاليين. ومن مقومات نجاحها أن لا يتأخر تواجد المنفذون في منطقة الهدف بل ينسحبون بأسرع ما يمكن بعد تحقيق الغاية، دون انتظار؛ خشية وقوعهم تحث تأثير رد فعل سريع من العدو، فيما لو تمكن من إعادة ترتيباته بسرعة غير متوقعة " .
نشطت غارات " قطبة بن قتادة السدوسي " في الإبلَّة وما يجاورها – وهي مناطق مركز محافظة البصرة وما يجاورها حالياً . ونشطت أيضاً غارات " دعفل العجلي " في السماوة . إلا أن أكثر الغارات نشاطاً وتأثيراً على الفرس كانت تلك الغارات التي قادها " المثنى بن حارثة " في منطقة الحيرة. أظهرت نتائج الغارات ارتباكاً واضحاً ، وانكساراً معنوياً مميزاً على الفرس، فتشجع المثنى على طلب المدد والتعزيز من خليفة المسلمين؛ لاستثمار النتائج الإيجابية ولتطوير أساليب التعَّرُض بعمليات أواسع نطاقاً وأشدُ تأثيراً.
شهدت أرض العراق في بداية خلافة عمر بن الخطاب انتصار المسلمون بقيادة " أبو عبيدة الثقفي" على الفرس في المعارك الثلاث الأولى ، لكنهم خسروا المعركة الرابعة التي سُميَّت " معركة الجسر" والتي أستشهد فيها قائد الجيش الإسلامي ، ثم تمكن المثنى بن حارثة الذي كان قائداً بديلاً من استعادة السيطرة على الموقف بقتال تراجعي ناجح الأسلوب ؛ فإعادة الثقة إلى نفسية المقاتل العربي ، وتمكن من الانتصار على الفرس في معركة " البويب ".
كُلِّفَ " سعد بن أبي وقاص" بقيادة جيوش المسلمين في العراق ؛ ونجح في هزيمة الفرس وأنهاء قوتهم العسكرية الرئيسية في العراق بمعركة القادسية في 19 شباط (636) م . تسبب انتصار القادسية بانهيار معنويات الفرس في المعارك اللاحقة التي أعقبتها، وترتب عليه فتوحات: المدائن، وجلولاء، وتكريت، والموصل (637) م ونهاوند التي سُمِيَّت بمعركة " فتح الفتوح" (642) م ، وأن الانتصارات المتوالية قد مَهَّدت لسيطرة الدولة الإسلامية على بلاد فارس؛ فأنهت وجود الدولة الساسانيية عام (651) م . مما يعني أن قتال المسلمين بضمنهم عرب العراق لتحرير أراضيهم من سيطرة الفرس، ولنشر دين الإسلام كان طيلة خلافة عمر بن الخطاب، وقد استمر أكثر من (15) عام منذ معركة القادسية إلى يوم أسقاط الدولة الساسانية، رغم وجود معارك سبقتها وفق ما بيناه سلفاً .
بما أن انهيار دولة الفرس وكَسر كبريائهم قد حصل في فترة خلافة الراشد الثاني عمر بن الخطاب ؛ لذا تنامى عليه حقد الفرس ؛ فدبروا عملية اغتياله بجهد فردي ملموس نُسِبَ إلى القاتل الفعلي. بينما يشير منطق التفسير إلى أن الاغتيال لم يكن حادثًاً فردياً عابراً بل كان مؤامرة سياسة واسعة اشتركت فيها قوى متعددة - أُضيرَت من الإسلام وحقَدَت عليه حقداً دفيناً - ممثلة في ( الهُرمزان، وأبو لؤلؤةفيروز المجوسي، وجُفينة النصراني ). كان الهرمزان: من أمراء الجيش الفارسي في معركة القادسية وقد هرب بعد اندحار الفرس في تلك المعركة ؛ فاتجه إلى جنوب فارس، ثم قاد بقايا فلول الفرس التي حاربت جيوش الفتح الإسلامي هناك ، وكان شخصاً مخادعاً ؛ إذا عَقدَ معاهدتان مع المسلمين ثم نكثهما . أُلقي القبض علية عند فتح مدينة " تستر" الفارسية ، وأعلن إسلامه ظاهرياً لكي لا يُقتَّل، ثم طلب مقابلة الخليفة عمر بن الخطاب ؛ واستُجيبَ لطلبه ؛ فأُرسلَ إلى المدينة المنورة .
تشير دلائل المدوَّنات التاريخية أن الهرمزان قد أشترك في مؤامرة قتل الخليفة عمر بن الخطاب؛ وبسببها تم قتله من قبل عبيد الله بن عمر قصاصاً منه لمقتل أبيه - استناداً إلى القرائن ( الأدلة ) الواضحة لمشاركة الفعلية في مؤامرة القتل . أما أبو لؤلؤة فيروز: فهو مجوسي الديانة، رومي الدار، من سبي نهاوند ، كان عبداً للمغيرة بن شُعبة - يجيد أكثر من صنعة (حِرفَة) ؛ فأرسله المغيرة إلى المدينة للاستفادة منه هناك ؛ فخطط للكيفية التي قُتِلَ فيها أمير المؤمنين ، ثم قتل نفسه. وثالث ثلاثة الإجرام هو جفينة النصراني- من نصارى الحيرة جاء به سعد بن أبي وقاص إلى المدينة ليُعَلِمَ أهلها الكتابة - قتله عبيد الله بن عمر أيضاً ؛ لذات السبب الذي قتل من أجله الهرمزان- بموجب شهادة محمد بن أبي بكر التي قال فيها : أنه شاهد الثلاثة مجتمعين في مكان قد مر به بنفس الليلة التي قُتِلَ فيها الخليفة عمر، وحين تفاجئوا برؤية محمد بن أبي بكر غير المتوقعة سقط من يد فيروز المجوسي نفس الخنجر الذي طُعِن به عمر بن الخطاب ؛ لكنه لم يكن يعلم في حينها خُبثَ نواياهم .
يُلاحظُ أن الأول والثاني من الذين اشتركوا في عملية اغتيال عمر بن الخطاب كانا فارسيان، وكان الثالث رومياً. والثابت تاريخياً أن كراهية الفرس للخليفة الراشد الثاني قد بدأت في حياته ، واستمرت شتيمته والتنكيل به بافتراء الأكاذيب عنه منذ وفاته حتى الوقت الحاضر مخالفين بذلك قول المصطفى صلى عليه وسلم : " لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ " . وإمعاناً بكراهية الفرس لعمر بن الخطاب ؛ فقد عظَّموا شأن قاتله أبو لؤلؤة فيروز المجوسي وأقاموا للقاتل مزاراً رمزياً يتباركون به. ومن سلوكيات من يدخل لذلك المزار أن يبدأ بسُباب ولعن وشتيمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في دالةٍ على عمق كراهيتهم له ؛ لكون عهد خلافته كانت سبباً في فقدان هيبتهم وإسقاط دولتهم العنصرية . والسؤال هنا : من ذا الذي يختلف مع شجاعة ورجولة عمر بن الخطاب وتطبيقه لعدالة الشريعة غير منقوص العقيدة والدين ، ومنقوص الضمير في التقييم، والجاحد الذي لا يخشى خوف الله ؟.
بعد استشهاد الخليفة عمر بن الخطاب تمرَّدت بعض المدن الفارسية؛ فأُعيدَ إخضاعها في خلافة عثمان بن عفان، ثم اتسعَّت الفتوحات الإسلامية شرقاً. إلا أن ظهور بوادر الفِتَن والانشقاق بين المسلمين كانت أسباباً مفتعلة أدت إلى مقتل ثالث الخلفاء الراشدين.
تزايدت الاضطرابات في خلافة الراشد الرابع الأمام علي بن أبي طالب وأزداد انشقاق المسلمين ؛ لأسباب لم يكن الفرس بعيدين عن دوافعها. ومن الجدير بالذكر أن الأمام علي نقل مركز الخلافة الإسلامية من المدينة المنورة إلى مدينة الكوفة بالعراق مع بداية خلافته ؛ فأصبحت أقرب إلى الفرس - جغرافياً . ثم أصدر قراراً بتبديل جميع الولاة المعينين على الولايات الخاضعة للحكم الإسلامي ؛ فتسبب بأزداد الشقاق بينه وبين والي الشام "معاوية بن أبي سفيان" الذي كان يطالب آنذاك بالقصاص من قتلة "عثمان بن عفان" لأنه أموي النسب؛ باعتباره ولي دم ٍبمقتله لكون معاوية كان من أبرز وجوه بني أمية آنذاك . ودون الخوض في تفاصيل تتناولها المصادر بمغالطات وتزوير حقائق تخفي أغراضاً ( سياسية طائفية) انتهت تلك الفتن والاضطرابات بمقتل الأمام علي بن أبي طالب – شهيداً ثالثاً من أربعة خلفاء راشدين ، وبدأت أزمة جديدة على تولي حكم المسلمين من بعده - بين معاوية بن أبي سفيان والحسن بن علي بن أبي طالب ؛ سنوضحها في الورقة السادسة بمشيئة الله .
نستخلص من الفترة التي أوجزناها دون توسع أربع دلالات هي:
-
تضاعفت أحقاد الفرس على العرب عامة وعلى العراق خاصة - بعد أن كُسِرَت شوكتهم في معركة القادسية - أعقبها هزيمتهم في نهاوند " فتح الفتوح " التي تسببت بإخضاع بلاد فارس لدين الإسلام بقوة السيف؛ فأنهَت الدولة الساسانيية الفارسية - عندها تغيرت صيغة المعادلة السياسية التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام ؛ فأصبح العرب المسلمون هم المتحكمون بالشأن الفارسي بعد أن كانت هضبة فارس هي التي تتحكم بسهل وادي الرافدين.
-
تعامل العرب المسلمون مع الفرس بمقتضى الشريعة الإسلامية بالصفح عن سوء تصرفات ما قبل الإسلام والتسامح والعدالة، وليس بردة فعل انتقامية لأسلوب التعامل الفارسي السابق معهم ؛ فانقلبَ الخضوع العربي إلى سيادة ، والسيادة الفارسية إلى خضوع .
-
بعد أن فقَّدَ الفرس هيبتهم برزَّت أحقادهم الثأرية، وأظهروا صيغاً انتقامية مختلفة تبدلَّت أساليبها مع الزمن لكن غاياتهم لم تتبدل ، وظلت تتمحور في كراهية العرب.
-
ما تراه كثير من الآراء بأن نهاية الخلفاء الراشدين الثلاثة - قتلاً ؛ ليست ببعيدة عن الفعل أو الاشتراك الفارسي، ولعل افتخار الفرس وتمجيدهم " أبو لؤلؤة فيروز المجوسي" مُغتال الفاروق عمر بن الخطاب دليلاً لا التباس فيه على صحة الرأي .





