تم الكشف عن أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أرسل أربع رسائل سرية ذات مضامين سياسية في محاولة دؤوبة لا تعرف الكلل أو الشعور بالكرامة الشخصية أو الوطنية أو الحياء لاستدراج دولة الولي الفقيه إلى خلوة غير شرعية.
ومع أن الإنسان البسيط "وعلى نياته" لا يقبل أن توجه له إهانة التجاهل البروتوكولي التام، عندما لا يرد المرسَل إليه على البادئ بالتحية، برسالة جوابية ولو بكلمة شكر أو إشعار بالاستلام تشعر المرسِل بأنه محل احترام من الجهة التي بعث لها بخطاب بصرف عن النظر عن قيمته، فإن ذلك ينم عن استهانة بالمقابل من حيث الشكل وليس المضمون، ولكن أوباما يواصل كتابة قصائد الغزل التي لا تدانيها قصائد سعدي أو حافظ الشيرازي، أننا نعرف كم تتهالك إيران على فتح كوة صغيرة في جدار العلاقات الأمريكية الإيرانية، ولكنها تتظاهر بالتمنع والعفة، ولا تظهر لهاثها وراء تحقيق خرق داخل واشنطن، كي تصور الأمر وكأنه جري من أكبر دولة في العالم وراء دولة الولي الفقيه التي تسعى لتسويق نفسها كطرف متمسك بالقيم الشعارات المرفوعة في شوارع المدن الإيرانية وساحاتها العامة.
الولايات المتحدة توصلت ومنذ زمن طويل إلى استنتاج مفاده أن استمرار حالة الشد في العلاقة بين واشنطن وأي بلد من بلدان العالم الثالث وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، لن يؤدي إلى تحقيق الأهداف الأمريكية في سحب النظام السياسي فيه إلى أجواء المرونة ونبذ التشدد، وأن نزع الثياب الخاكي ووقف المارشات الحربية، والركون إلى لغة الشعر وإرسال العبارات العاطفية، وخاصة مع إيران ودغدغة كبريائها المزعوم، هو الطريق الأقصر للوصول إلى مكتب الولي الفقيه هذا في حال لم تزرع أمريكا وكيلا سريا لها في مكتب خامنئي.
غير أن الصراعات الداخلية بين المتشددين الأصوليين مدعومين من سلطة الولي الفقيه والحرس الثوري من جهة، والمعتدلين الذين يرون أن بلادهم أدخلت نفسها في نزاعات خارجية أفقدت الاقتصاد الإيراني القدرة على النمو بالنسب المقبولة لبلد يمتلك ثروة العصر أي النفط والغاز، فالمواجهة مع العالم بشأن برنامج نووي عسكري مع تنمية برامج الصواريخ، لم يكن تعبيرا عن حاجات دفاعية إيرانية، بقدر ما كان بمثابة رسائل للخارج، وخاصة المحيط العربي المجاور بأن إيران قوة لا يستطيع أحد الوقوف بوجهها، وأردفت طهران خططها النووية والصاروخية بتوسيع هائل لتدخلاتها في معظم الساحات العربية والإسلامية عبر أذرع عسكرية عقائدية.
ثم إن الصراع السياسي ليس بين المتشددين والمعتدلين فقط داخل الزعامة الإيرانية، بل هو صراع متعدد المحاور، فالمتشددون عندما يدخلون في مواجهة مع المعتدلين يراهم المراقب وكأنهم كتلة واحدة مثل سبيكة متماسكة، وكذلك الحال بالنسبة للمعتدلين، غير أن المشهد الإيراني يقدم قراءة أخرى، فالمتشددون يعيشون داخل كتلتهم صراعات ربما هي أقوى بكثير من صراعهم مع المعتدلين، وكذلك حال المعتدلين، وتعود هذه الأشكال المتعددة من النزاعات في إيران إلى أن البلاد في حالة مخاض عسير وولادة قيصرية ربما لن تضيف إلى المشهد إلا مزيدا من الصراعات البينية والتي ستبحث لها عن متنفس خارجي تفرغ في ساحاته شحناتها السالبة.
ويرى المراقب أن مساعي الولايات المتحدة وقصائد الغزل التي ألقاها الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما في حضرة الولي الفقيه علي خامنئي كانت تخفق في تحقيق كل أهدافها، لأن منطق المزايدة بين مئات العمائم السوداء والبيضاء والماراثونات بين الطامحين في خلافة خامنئي في منصبه المغري بسبب الصلاحيات المطلقة، وهو الذي يشكو من عدة أمراض لا يرجى منها الشفاء، هي محركات لمواقف معلنة يطلقها هذا الطرف أو ذاك في قطع حبال الود مع الشيطان الكبير والشياطين الصغار في العالم، ولكن أحاديث السهرة التي تنتهي بأناشيد الحرب والموت لأمريكا، سرعان ما تستيقظ على أحاديث براغماتية لا تفكر إلا بكيفية رفع العقوبات التي خنقت الاقتصاد الإيراني وكادت أن تحول إيران إلى دولة فاشلة داخليا مهما حاولت أن تضع على وجهها من مساحيق التجميل، ومهما حاولت الظهور بمظهر المتماسك سياسيا.
لكن واقع الحال يؤكد لنا أن التنسيق الأمريكي الإيراني عسكريا وسياسيا لم يتوقف منذ زيارة روبرت ماكفرلين مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عام 1986 في ذروة الحرب العراقية الإيرانية وتحولت الأحاديث إلى أسلحة وصواريخ أمريكية لإيران في ذلك الوقت، على الرغم من أن قبضات الإيرانيين في العروض الصباحية كانت ترتفع وتنخفض مع أعلى الأصوات بشعار الموت لأمريكا، ولا أظن أننا بحاجة إلى العودة كثيرا إلى الوراء، ويكفينا أن نراقب التنسيق بين طهران وواشنطن وعلى أعلى المستويات في سوريا، إذ لم تنتفض الإدارة الأمريكية غضبا على وجود عشرات الآلاف من المتطوعين من أفغانستان وإيران وباكستان والعراق للقتال جنبا إلى جنب مع حزب الله اللبناني في نصرة النظام السوري الذي يقتل ويدمر ويهجّر الشعب السوري، في حين تجند الولايات المتحدة كل ما في طاقتها لنصرة أكراد مدينة عين العرب السورية، تماما كما تتواطأ معمليشيات الحشد الشعبي والتي تخفي تحت عباءتها كل القتلة من عناصر سوات وفيلق بدر وعصائب أهل الحق وكتائب السلام وجيش المهدي وعشرات العناوين من مليشيات القتل الطائفي تحت لافتة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، وكأن سكان محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، يريدون عن قناعة ويقين استبدال تنظيم الدولة الإسلامية،باعتباره تنظيما إرهابيا، بفرق تتبع منظمات حقوقية وإنسانية، وليست مليشيات القتل والتهجير وانتهاك الأعراض والاستيلاء على الممتلكات وبيعها كغنائم حربية والمجربة عبر أكثر من إحدى عشرة سنة من شلال الدم المتدفق.
كما أن ما يحصل من تنسيق سياسي وميداني بين الحوثيين والطائرات الأمريكية من دون طيار، يلخص حقيقة الموقف الأمريكي بأن الولايات المتحدة اختارت حلفاءها من الأقليات العرقية والطائفية كي تفتك بالأغلبية السكانية الساحقة.
رسائل أوباما هي تأطير لنوعية التحالفات الجديدة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، ونحن لا نسعى لفرض وجهات نظرنا على أي طرف إقليمي أو دولي، كما أننا لا نستجدي ود أحد أو دعمه على حساب الكرامة الوطنية والدينية، لأننا نعي جيدا أن الدول هي التي ترسم حدود مصالحها، ولأننا في العراق لم نعرف منذ الاحتلال منظومة للدولة الوطنية التي تدافع عن مصالح العراق وسيادته، فإن من المحزن أن من يقدم نفسه ممثلا للمكون السني لم يعرف حتى اليوم ماذا يريد وكيف يصل إلى ما يريد أن كان يعرف هدفه الحقيقي، ونستدل على ذلك من أن الذين يرفعون أصواتهم مطالبين بدعم حكومي من أجل "تحرير" المدن التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وارتفعت الأصوات مرحبة بالمليشيات الإيرانية لتخوض معارك محافظتي الأنبار وصلاح الدين كما فعلت في ديالى وبابل، وكأن هؤلاء "الزعماء" أو "الشيوخ" نسوا الدروس المعمدة بالدم لجرائم المليشيات الطائفية والتي راح ضحيتها مئات الألوف من سكان نفس المدن المهددة اليوم بتقدم "القوات الحكومية" التي لا تزيد ولا تنقص عن كونها مليشيات حاقدة ترتدي اللباس العسكري وتحمل أسلحة حكومية وتتسلم رواتبها من ميزانية الدولة.
إن من يتحمل مسؤولية الدماء التي ستسفك على أيدي المليشيات، ليست المليشيات نفسها وإنما من تمزقت أوتار حباله الصوتية وهو يطالب بدعمها لتحرير مدن يزعم بأنه ينتمي إليها.