لا تبدو الخمسة وعشرين عاما التي مرت على انهيار جدار برلين كافية لتبريد حكاية هذا التاريخ أو لجعله حدثا انقضى وطوينا صفحته. فالحياة التي كانت خلف هذا الجدار والتي انقلبت بعده لا تزال تحفّز الخيال وتستخلص معان وأفكار وهو ما تبرزه الروايات والكتب والمذكرات التي لا تزال تقدم زوايا غير مطروقة لحكاية الجدار.
ونحن وفي غمرة انشغالنا بموتنا وتشرذمنا وأفقنا المقفل هنا في المنطقة يبدو التأمل في الاحتفاء الألماني والأوروبي بمرور 25 عاما على انهيار المعسكر الاشتراكي واستعادة دولة لوحدتها وحريتها بعد كل الموت والدم الذي غرقت فيه أمرا يبعث على شيء من الأمل. فألمانيا تملك خصوصية تاريخية في علاقتها مع جدارها، فهي كانت الدولة المحور في إشعال حربين عالميتين والبلد الأول الذي يشهد إقامة جدار عازل وأول من هدمه. ورغم هذا التاريخ الثقيل والدموي هاهي ألمانيا حيث هي اليوم دولة مركز في أوروبا ذات ثقل اقتصادي وسياسي هائل.
أكثر جدراننا شهرة هي جدران السجون والمعتقلات التي لا تزال حاضرة بقوة لكن ليست تلك وحدها ما يطوقنا.
رغم أننا في المرحلة الأسوأ قياسا بالتجربة الألمانية لكن من حقنا الأمل بأننا قد نصل يوما إلى أن يكون راهننا ماضيا نتذكره في مستقبل يفترض أن يكون أفضل. وبناء الجدران وسيلة قديمة اعتمدها الإنسان ليحمي كيانه وحياته. وجدار برلين نفسه تمت فلسفته بأنه ليحمي النقاء الشيوعي الاشتراكي من غزو الرأسمالية وسمومها الفكرية. لكننا اليوم انزلقنا نحو العيش وسط الجدران خصوصا تلك التي وظيفتها منع العبور أو الفرار أو التواصل.
لعل أكثر جدراننا شهرة هي جدران السجون والمعتقلات التي لا تزال حاضرة بقوة لكن ليست تلك وحدها ما يطوقنا. هناك الكثير من الجدران غير المرئية حولنا معتقدين أنها تحمينا غير آبهين بكم من الوهم تحمل هذه الجدران وكم باتت سجنا لنا..
هناك مناطق انفصلت سياسيا وعسكريا بفعل الوضع في سوريا والعراق، وهناك مجموعات ضعف التواصل بينها بسبب السعار المذهبي حتى بات الانتقال من ضفة مذهبية إلى أخرى أخطر من عبور جدار العزل (الإسرائيلي)..
الجدران التي نرفعها هذه الأيام باختيارنا بناها الخوف من ذواتنا ومن الآخر..
هذه الجدران وذاك الخوف ولد من رحم فشل الأنظمة وأتت قوى الإسلام المتطرف لتستثمر في هذا الخوف وتضاعف من ثقله. فأخبارنا ليست سوى سيل من المجازر والموت والقمع والسجن وتدهور لقيمة الإنسان وهذا ما يدفعنا أكثر نحو بناء أسوار نتوهم أنها سبيلنا نحو الحماية فنجد أنفسنا قد سجنا في غيتوهات..
في بيروت، حيث أعيش، اخترت طواعية العيش في منطقة اعتقد أنها أكثر أمنا. أتجنب مناطق بعينها.. احتاط من رؤية أناس لا أرغب في الجدال معهم.. أبتعد عن مناطق فيها احتمالات اشتباك أمني ..
أليست تلك جدران؟!
في شرقنا الأوسط وبسبب ذلك الاختلاف الذي ينتج الكثير من الصدام لا حياة إلا إذا سورنا أنفسنا بجدران. ثم أن للجدران في أوضاعنا البائسة وظائف قد تكون ضرورية. فداعش هدمت جدار سجن الموصل لتقتل 1000 سجين فيها.. هنا كان الجدار ضروريا بعدما أتينا بما هو أسوأ منه.
وجدار النار بين منطقتي الكرخ والرصافة في بغداد وظيفته أيضا تأمين نقاء طائفي يجنب الناس النزعات الثأرية.. في ليبيا ينشأ جدار بين الشرق والغرب لم تتحدد ملامحه بعد. المنطقة العازلة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية الناشئة بعد أحداث سيناء الأخيرة أيضا جدار عازل جديد.
برلين أنشأت الجدار قبل أن تعاود هدمه، وهدمه هذا تم طواعية. فهل ننتظر الوقت الذي انتظره أهل المدينة على ضفتي الجدار لكي نهدم الجدران الجديدة التي تحاصر حياتنا؟!