أوراق مختارة من سجل العلاقات العراقية– الإيرانية 7

رعد البيدر

مرحلة التحول من الوعي السلبي الفارسي إلى الفاعلية في صناعة قرار الخلافة العباسية

في نهاية الورقة السادسة وعدنا القارئ بتوضيح ما تعنيه "مرحلة الوعي السلبي الفارسي" وفق وصف المؤرخ الإيراني عبد الحسين زرين كوب بكونها تلخيصاً بارزاً حول حقيقة ظاهرة الوجود الفارسي في القرنين الهجريين الأوليين، وقد أسماها بالفارسية (دو قرن سكوت) وما يقابل هذا المعنى بالعربية "مرحلة قرنان من السكوت".

إن هذا التلخيص ليس تقييم المؤرخ عبد الحسين زرين كوب لوحده، وإنما يشاطره بهذا الوصف والشعور مؤرخين إيرانيين آخرين ، يتوحدون على وجود إقصاء وتهميش ظاهر ومميز للفرس منذ بداية فترة الحكم الأموي حتى بداية خلافة هارون الرشيد 170هـ / 788 م ، التي يعتبرونها انتهاء مرحلة السكوت الفارسي في إطار دول الخلافة العباسية - التي دشنت مرحلة علاقات جديدة اختلفت بملامحها ونتائجها عن السابق، وأنصبت في مصلحة الفرس.

نحن لا ننفي أو لا نؤيد أن الفرس قد هُمشوا بتلك الفترة ، فالكثير من أحداث التاريخ مُتلاعبٌ بمسبباتها وبنتائجها ، وتخفي ورائها مقاصد تنصب بمصالح طرف وتسيء إلى طرفٍ آخر، لكننا سنناقش الفترة التي حددها الكاتب  بحسابات الأرقام البسيطة والمجردة ، ففترة القرنين التي قصدها المؤرخ الإيراني من المفترض أن تكون ( 200) عام - قابلة للزيادة والنقصان بحدود المقبول من سنوات الزيادة والنقص ،  سنوضحها بالأرقام التالية:

امتدت فترة حكم الدولة الأموية (89) سنة محصورة بين عامي ( 661 –  750 ) م.

استلم هارون الرشيد الحكم بعد (38) سنة من قيام الدولة العباسية ( 750 – 788 ) م.

بجمع الرقمين 89 + 38 = 127 وهذه المدة تُقارب قرن وربع ، وليس قرنان.

ولنذهب إلى مزيد من الافتراض الأبعد ، ونعتبر البداية التي استند عليها الكاتب أُسيء فهمها ، ونعتبرها منذ سقوط الدولة الساسانية عام (651) عندها تكون الحسابات كالتالي :

788 – 651 = 137 وهذه المدة أيضاً لا ينطبق عليها حتى مفهوم القرن ونصف ، فما هو سر هذه التسمية بقرنين من الزمن ؟ هل هي ظاهرة عزف ( المظلومية) على أسماع من لا يتعمق بالنص ليطرب على أنغام " السيگاه ، والماهوري" ( بآلة السنطور الإيراني )! لا نجد جواباً مُقنعاً أكثر من أن يطابق القارئ بنفسه حقيقة الأرقام السابقة ، ويقيناً أن جوابها عند الكاتب حين سماها قرنيين يستهدف منه(التظَّلُم) والاستخفاف بذهنية المُتلَّقي ليس إلا  .

 

  بالتقييم العام لظواهر تكوّن وتدهوّر الدولتين الأموية والعباسية ، فأن أسلوب قيام وإدارة الدولة العباسية قد تأسس على مواقع ضعف وأخطاء الدولة الأموية . إذ كان أكثر نُصراء العباسيين من الموالي الفرس إضافة إلى آل البيت . ولقد أرتكب العباسيون خطأ باستبعاد مناصريهم من آل البيت بينما قربوا إليهم الموالي بسبب كثرتهم ليكونوا عوناً للخلافة الفتية .

 

 وبما أن أعراق الموالي الذين ناصروا بني العباس كانت متعددة ، لذا صار على العباسيين أن يحددوا اختيار فئة من بين المناصرين لتكن أكثر قُرباً من قصر الخلافة ، وليتجنبوا الاعتماد على فئات متعددة ، خشية التناحر والانشقاقات. وهكذا أخطأ العباسيون باختيار الموالي الفرس في بداية نشوء دولتهم ، فقدموهم ورفعوا شأنهم وأصبح لهم نفوذاً ومراكز قوة حساسة ومؤثرة – كمركز القوة والتأثير الذي حظيَّ به أبي مسلم الخراساني في زمن الخليفة أبو جعفر المنصور، وعلى شاكلته تمتع البرامكة بوضع أكثر تميزاً من القدرة والتأثير وامتلاك القرار والأموال في زمن " هارون الرشيد " .

 

رُبَّ سائل يسأل من هم البرامكة ؟.  فنُجيب أنهم عائلة فارسية ترجع أصولها إلى " برمك المجوسي " يُسَموَّن بالفارسية (برمكيان)، صارت لهم منزلة عالية واستحوذوا على الكثير من المناصب المهمة في المراحل المبكرة من عهد الدولة العباسية ، وكان لهم حضوراً مؤثراً في صنع القرار ببلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد - لم يكن يحظى بما حضوا به حتى بعض أمراء بني العباس . أن أهم مسببات المزايا التي تمتع بها البرامكة كانت بسبب  رضاعة زوجة يحيى البرمكي للخليفة هارون الرشيد مع ولدها الفضل بن يحيى البرمكي فصار للرشيد أم وأخ بالرضاعة من البرامكة ، إضافة إلى تولي البرامكة مهمة الإشراف على تربية ولَّدي الرشيد : المأمون والأمين في طفولتهما .

 سعى البرامكة بالتأثير على هارون الرشيد للحصول على قبول بيعته لأبنه الأكبر " عبد الله المأمون" المولود من أُمٍ فارسية ، ليصبح خليفة من بعده ، لكن أمراء بني العباس بذلوا ما بوسعهم لإقناع الرشيد بأن يجعل البيعة لولده الثاني" محمد الأمين " أبن زوجته " زبيدة "  لكي يكون خليفة بني العباس من بعده نقي النسب - عربياً من أبوين هاشميين . أن السبب الذي تأججت من أجله رغبة أمراء بني العباس لبيعة الأمين هو كراهيتهم للبرامكة الذين استأثروا بالرشيد، ونالوا عنده حظوة ومكانة كبيرتين، فصاروا يفعلون ما يريدون وقتما يريدون ، وتلك الظاهرة التي يعتبرها المؤرخون الإيرانيون نهاية مرحلة الوعي السلبي التي اشرنا لها في بداية المقال.

 يُفسَّرُ قبول الرشيد لتولية الأمين من حيث تقييم ظواهر العلاقات العباسية – الفارسية أن العباسيين قد حققوا نصراً سياسياً ومعنوياً عربياً ، يقابله هزيمة وانكسار فارسي في مساعي البرامكة وطموحاتهم . ولكي لا تختلط الحقيقة على البعض وفق ما حصل ببيعة الأمين ، فأن البرامكة لم يعارضوا الرشيد بصورة علنية بإسناد الولاية لأبنه الأمين ، لكي لا يتزعزع نفوذهم في مسألة أرادها الخليفة، أو تجاوب بها مع أمراء قصر الخلافة العباسي .

 لكن البرامكة ما لبثوا أن شعروا بالندامة على سكوتهم في حينها ، وقبولهم بما حصل دون أن يؤثروا على الرشيد ليَعدِلَ عن رأي تقبَّله ،  وقراراً أتخذهُ  - خصوصًا عندما أصبح الأمين شابًّا يافعًا وبدت عليه مظاهر المهابة ولياقة الخلافة القادمة ، يضاف لذلك استقواء ونفوذ أمه " زبيدة " ودعمها وتوجيهها لأبنها الخليفة المُرتقب ، لا سيما أنها لم تكن راضية عن ما أمسى عليه حال البرامكة من نفوذ وسلطان وقدرة على التلاعب بصيغة قرارات الخلافة. ودليلنا أن السطوة والتحكم الفارسي كان لهما الأثر الواضح في قرارات قصر الخلافة هو تمَّكُن البرامكة من إقناع الرشيد بأن يأمر ببيعة المأمون  بعد  أخيه  الأمين.

هل سارت الأمور وفق ما قرر الخليفة هارون الرشيد في بيعتيه لأبنائه، بأن يتولى الحكم الأبن الأصغر قبل الأكبر؟ وهل انتقلت الخلافة من الأمين إلى المأمون بطريقة سلمية ؟

 أمْ قد سارت وفق مكائد خَطَطَ لها البرامكة ونفذوها، لأن الثاني يعنيهم بعِرق الأم الفارسية؟

هل بقي البرامكة ذوي جاه ونفوذ وسلطان في زمن الرشيد وأبناءه من بعده أمْ تغيَّر حالهم ؟

 تلك هي خلاصة الحقائق التي سنسلط الضوء عليها في الورقة القادمة .... بمشيئة الله .

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,615,986

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"