قراءة في استراتيجية واشنطن الجديدة في الشرق الأوسط

مثنى عبد الله

قبل 10 أعوام وقف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على مسرح جامعة القاهرة، معلنا استراتيجية واشنطن للشرق الأوسط. كان الخطاب موجها للعالمين العربي والإسلامي، دعا فيه إلى إطلاق الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، والتأكيد على الديمقراطية كأسلوب حكم ناجع لهذه المنطقة. أيضا كانت فيه دعوة للانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة والانتقال إلى آسيا والمحيط الهادئ، لكن بعد تنفيذ خطة إدماج إيران في نظام إقليمي جديد في المنطقة، من خلال توقيع اتفاق يحد من طموحاتها النووية. وثبت في ما بعد بأن الأخيرة استفادت من هذا الاتفاق ماديا لتعزيز نفوذها في المنطقة.

قبل أيام قلائل وفي القاهرة أيضا، لكن هذه المرة في الجامعة الأميركية، يقف وزير الخارجية الأميركي معلنا عن استراتيجية واشنطن الجديدة في المنطقة، التي يتبين من خلال خطابه بأنها تقوم على إصلاح ما أفسده الرئيس السابق أوباما أولا، والتخلي عن سياسة التردد تجاه الأعداء والمخاطر الظاهرة والباطنة ثانيا، وأن إيران هي العدو المشترك الأول لدول المنطقة ثالثا، ودعم عملية السلام بين الفلسطينيين و(الاسرائيليين) رابعا، ودعم وتعزيز التقارب الحاصل بين دول الخليج العربية و(إسرائيل) خامسا. ثم يلخص الدور الاميركي بجملة واحدة فيقول «إنها قوة من أجل الخير في الشرق الاوسط».
ولو أمعنا النظر بصورة تفصيلية في الخطاب سنجد أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة اعتمدت أدوارا واضحة للانظمة العربية، تقوم على تكليفها بإنهاء الصراع العربي (الاسرائيلي). فهو يشير إلى أنه «حان الوقت لإنهاء الخصومات القديمة»، وينتقل فجأة ويقول «من كان يُصدّق أن يزور رئيس الوزراء (الإسرائيلي) مسقط»، ثم يُعرّج إلى التذكير بعزف النشيد الوطني (الإسرائيلي) في الإمارات. وهذه كلها إشارات واضحة إلى التكليف الجديد للأنظمة، وهو اتخاذ الخطوات الاخرى اللازمة للتطبيع النهائي مع (إسرائيل). لكن إنجاز هذا العمل لن يكون بدون ثواب الراعي الأميركي لهذه الأنظمة، ففي الخطاب تركيز واضح وطمأنة لا لبس فيها لهم، وهي أن المصلحة الاميركية اليوم تتطلب عدم التذكير بالديمقراطية المطلوبة في المنطقة، والتخلي عن شعارات حقوق الإنسان التي كانت تؤكد عليها، وأنها تقبل وتسعى إلى سياسة الاستقرار في ظل أنظمة استبدادية، وعدم الاعتماد على القوى الفاعلة في المجتمعات العربية في هز عروش الأنظمة العربية. ولزيادة حالة الاطمئنان هذه تقول الاستراتيجية الاميركية الجديدة «نحن الصديق الوفي والقديم في هذه المنطقة، ونحن قوة خير، ونحن نفي بوعودنا».
أما التكليف الآخر المطلوب تنفيذه، الذي جاء في الاستراتيجية الجديدة على لسان وزير الخارجية الأميركي، فهو أن «إدارة الرئيس ترمب تعمل على تأسيس تحالف استراتيجي شرق أوسطي. هدفه مجابهة الأخطار الأكثر جدية في المنطقة. وتعزيز التعاون في مجال الطاقة والاقتصاد. وهذا الجهد يجمع بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن. ونطلب من جميع الدول اتخاذ الخطوة التالية لمساعدتنا في تعزيز هذا التحالف». الملاحظ هنا هو أن التحالف شرق أوسطي وليس عربيا، لكنه يذكر أسماء دول عربية فقط، في حين كان يفترض أن يقول إنه تحالف عربي. وقد يضن البعض بأن هنالك تناقضا في الموضوع، لكن الحقيقة هو أنه ربط بين قيام هذا التحالف وإنهاء الخصومات القديمة، واتخاذ الخطوات اللازمة للمساعدة في تعزيز التحالف، أي أنه أراد عدم الإشارة بوضوح إلى أن التحالف المطلوب سيكون بوجود (إسرائيل) أيضا، لذلك وردت الإشارة إليها ضمنيا. وهنا عندما يعلن الرئيس الأميركي عن انسحاب القوات الأميركية، فإن معنى ذلك هو أنه يعد العدة كي يأخذ هذا التحالف الشرق أوسطي مكان القوات الاميركية المنسحبة من المنطقة، لأن الخطاب الأميركي في القاهرة، يشير إلى دعوة ملحة إلى بقاء الولايات المتحدة فيها. لكن هذا التحالف لن تكتب له الحياة لأن أي تحالف يحتاج إلى دول ذات مصالح مشتركة، وأن الخط البياني لخلافاتها في أوطأ نقطة ممكنة، وهذا ما لا نجده حتى بين دول مجلس التعاون الخليجي التي تشترك في روابط كثيرة.

إن من أهم الأشياء التي يجب التذكير بها، هو أن الاستراتيجية الاميركية الخاصة بوضع قواتها في العالم قائمة على أساس مناطق الثروة والطاقة، وأن المنطقة العربية تكاد تكون أهم هذه المناطق. فهم يعلمون جيدا أن خروجهم يعني فقدان حصصهم في هذه الثروات، كما أن روسيا والصين ستكونان في وضع أكثر تأثيرا في المنطقة، لذلك ورغم إعلان الرئيس الانسحاب من المنطقة، نجد أن خطاب الاستراتيجية من القاهرة كان يحمل في ثناياه دعوة ملحة إلى بقاء الولايات المتحدة، وأن عدم بقائها يعني الفوضى. هنا ليس هنالك تناقض في الامر، بل يشير وبوضوح إلى أن المؤسسات الأميركية العميقة تحاول تصحيح توجه الرئيس، الذي اتخذ قرار الانسحاب بناء على حسابات انتخابية، بهدف إرضاء قاعدته الشعبية، التي أتت به إلى البيت الابيض. وهذه المؤسسات اليوم تركز على البقاء بشكل اخر أكثر تركيزا من قبل، وأن ينحصر الاهتمام العسكري الأميركي بنقاط جوهرية مهمة، بدلا من تشتيت القوات والجهود. ويبرز في هذا المجال فريق أميركي من ضمنهم مستشار الامن القومي، وكذلك وزير الخارجية، الذين يحاولون الحفاظ قدر الامكان، في ظل تخبط ترمب، على ما يمكن المحافظة عليه من تحالفات في المنطقة، من أجل تطويق إيران وإيقاف تمددها.
الخطاب الاميركي الاخير من القاهرة يشير وبوضوح إلى محاولات أميركية لتغيير العلاقات والمعادلات القائمة في الشرق الاوسط. أولها معادلة الصراع العربي (الاسرائيلي). فهم يسعون اليوم إلى جر الشعب العربي من صف العداء ل(اسرائيل) إلى صف التطبيع معها، وكانت هذه المحاولة واضحة جدا في الخطاب من خلال سحب (إسرائيل) من قمة قائمة الاعداء، والتثقيف بأنها ليست العدو الاول للامة العربية، بل إن إيران هي العدو الأول. وهنا استثمر الخطاب في السياسات الايرانية الاجرامية التي سلكتها طهران ضد الدول العربية، والتي أضرت بها وبجيرانها.
إن الولايات المتحدة الاميركية ليست معنية بمشاكلنا، بل هي تسعى جاهدة وعلى الدوام للإمساك بكل الأزمات والمشاكل في المنطقة، لإدارتها فيما يصب في مصالحها وليس في مصالح المنطقة. يساعدها في ذلك عدم وجود رؤية خاصة بكل دولة، كما لا توجد رؤية عامة تشترك فيها الدول العربية جميعها كي تواجه التحديات التي تعصف بالاقليم. لذلك نجد أقطارنا تتعرض إلى أكبر عملية ابتزاز دولية فتسرق أموالها وثرواتها بحجة توفير الحماية. إذن الخطاب لا يشير إلى جديد، بل هو تأكيد من المؤسسة الاميركية بأن البقاء مهم، وأن الخروج معناه الإضرار بالمصالح الأميركية.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,616,621

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"