لماذا في واشنطن؟ لماذا ليس في واشنطن؟

مصطفى كامل

لا يختلف إثنان على أن إدارة المجرم جورج بوش الأميركية هي من غَزَتْ العراق واحتلته ودمّرته وقتلت شعبه وأسقطت نظامه الوطني، وسلّمته، هي وإدارة باراك أوباما التالية لها، إلى إيران، في خطوات ممنهجة متفق عليها منذ مرحلة ما قبل الغزو، لتعيث به ميليشيات نظام الولي الفقيه الإرهابية خراباً وفساداً وقتلاً وتدميراً.

 

ولا يختلف إثنان على أن العراق شهد مآسيَ لا حصر لها، جراء الاحتلال الأميركي الذي أهلك الحرث والنسل، ودمّر البلاد ونهب ثروات العباد.

ولا يختلف إثنان على أن شعب العراق ما يزال يعاني جراء هذا الاحتلال، وجراء التغوّل الهائل لعصابات إيران الوحشية التي استباحت كل شيء في هذا البلد، وتجاوزت جرائمها حدود الخيال.

لكن هذه المسلّمات التي لا يختلف عاقلان عليها، لا يمكن أن تجعل من العراقيين أسارى لحظة تاريخية، مهما كانت، وكأن الزمن توقف عندها، أو أن تَحولَ بينهم وبين استثمار فرصة جدية وحقيقية قد تلوح هنا أو هناك لإحداث تغيير لصالحهم، مهما كان جزئياً.

لقد أثبتت القوى الوطنية العراقية قدرة هائلة على إبداع الوسائل والأدوات في كفاحها لتحرير العراق واستعادة حريته وسيادته وعافيته. حيث تصدَّت لقوات الغزو والاحتلال في مقاومة وطنية شرسة مجيدة مباركة أرغمت المحتلين على تغيير خططهم وأجبرتهم على انسحاب مخزٍ من البلاد، كما استنزفتهم اقتصادياً وسياسياً، فضلاً عن الاستنزاف العسكري، وفضحت وحشيتهم وزيف ادعاءاتهم بالديمقراطية والحرية وضمان حقوق الانسان.

كما جرّب العراقيون فعاليات سلمية شتى، فانتظموا في سلسلة من الاعتصامات السلمية والمظاهرات الشعبية الحاشدة، على مدى خارطة الوطن للمطالبة بحقوقهم، ونظموا فعاليات إعلامية في أنحاء متفرقة من العالم، وكتبوا آلاف المقالات ونشروا آلاف الأفلام والصور لإيصال صوتهم وشرح معاناتهم جراء الغزو والاحتلال، وجراء ما ترتّب على الإجراءات السياسية القسرية التي ارتكبتها إدارتا بوش/ أوباما، أو سمحت للعملاء بارتكابها، مثل حلِّ الجيش والأجهزة الأمنية وإجراءات الاجتثاث الظالمة، وتسييس القضاء وجعله أداة للعقاب الجماعي وإرهاب الشعب، والاعتقالات الظالمة لأسباب طائفية وسياسية، وقوانين العقاب الجماعي التي اتخذتها سلطة العملاء في بغداد على سبيل مصادرة الأملاك ومنع الرواتب التقاعدية لمئات آلاف العراقيين، والدستور الذي تم وضعه ليكون بمثابة قنبلة موقوتة تمزّق العراقيين وتشتّتهم بدل أن يكون وثيقة تجمعهم وتوحّدهم، وجرائم الفساد الهائل الذي ينتشر في كل مكان وسرقات النفط والثروات الأخرى، وانتشار المخدرات، وغير ذلك من الاجراءات والممارسات التي حصلت بسبب جريمتي الغزو والاحتلال.

واليوم تلوح في الأفق فرصة نوعية لا يمكن أن تفوّتها القوى الوطنية العراقية، وذلك لنقل حجم ومدى تأثير هذه الفعاليات السياسية إلى مستويات يؤمل أن تكون أعمق وأوسع تأثيراً.

فقد صمم عدد من المواطنين العراقيين، الوطنيين النشامى، على عقد مؤتمرٍ في واشنطن، وعلى بعد ميل واحد من البيت الأبيض، يوم 13 آذار/ مارس الجاري وذلك بعد أن عقدوا مؤتمراً في ولاية مشيغن يوم 5 كانون الثاني/ يناير الماضي. والهدف هو طرح ما يجري في العراق الذي تعرض وما يزال يتعرض، بعد أن غَزَتهُ واشنطن واحتلَّته، لأخطر تهديد لوجوده تحت احتلال ايران وهيمنة النظام الدكتاتوري الفاشي الفاسد لعصاباتها الطائفية المتطرفة، ولتوصيل ما يمكن إيصاله من هذه الحقائق إلى الإوساط السياسية الأميركية. حتى إذا لاحت في الأفق هذه الفرصة لطرح صوت شعب العراق في عاصمة الولايات المتحدة كَثُرَ اللّغط حولها، وظهر المشكِّكون والمخوِّنون والطّعانون، واستيقظ من كان صوت شخيره يصمُّ الآذان طيلة 16 عاماً، ليشككوا بهذا الجهد الوطني العراقي الخالص ويطعنوا به وبمن يجهد لعقده، عن قلة وعي من قبل الأكثرية، وعن غرضٍ غير نزيهٍ ومشبوهٍ من آخرين.

لكن الفئة الأولى، وهي ما يهمّنا هنا، فاتتها جملة من الحقائق التي لا يجوز أن تغيب عن أذهان المشتغلين في العمل الوطني، ومن بينها ما يأتي:

أولاً:

إن هذا المؤتمر ليس موجّهاً للعراقيين، وإنما مصمم لمخاطبة الأوساط السياسية الأميركية وإبلاغها صوت القوى الوطنية العراقية ورؤيتها بشأن مخاطر الاحتلال الإيراني للعراق، ليس على وجود العراق فحسب، بل أيضاً على الأمن والسلام والاستقرار في منطقتي الخليج العربي والشرق الأوسط بل والعالم أجمع، وعلى مصالح أميركا والعالم الغربي بالذات. وهذا ما يستلزم تكييفاً للخطاب الوطني بما يناسب المتلقي المختلف كلياً عن المتلقي العراقي من حيث المعرفة بالموضوع أو التأثر المادي والوجداني بالحدث، وهذا ألف باء المتخصصين بالإعلام والاتصال، أي توظيف لغة أخرى غير تلك التي يستخدمها المناهضون للاحتلال وعمليته السياسية في حديثهم مع شعب العراق، أو مع المنتظمين في تنظيماتهم الحزبية أو مؤسساتهم السياسية. 

ثانياً:

إن هذا المؤتمر يقوم به مواطنون عراقيون، ينتمون إلى تيارات سياسية وطنية عراقية شتى، وينحدرون من كل ألوان الطيف العراقي. فبينهم بعثيون ويساريون وقوميون ومستقلون، وبينهم مسلمون ومسيحيون وصابئيون، وبينهم عرب وأكراد وتركمان، وليس ثمة جهة وطنية عراقية واحدة، حزبية أو غيرها، اعلنت أنها الجهة المنظّمة  لهذا المؤتمر.

ثالثاً:

إنها الفرصة الأولى التي تسنح، خلال السنوات الستة عشرة الفائتة، أمام الوطنيين العراقيين، أفراداً وجماعات، على إقامة نشاط سياسي لهم في الولايات المتحدة، وهذا سيفتح الباب أمام إقامة نشاطات مماثلة في دول أخرى لنصرة قضية شعب العراق الوطنية وطرح قضيته العادلة التي يعمل كثيرون على طمرها وراء ركام من الأحداث والقضايا الأخرى في العالم. وهو خطوة متقدمة في توضيح حقيقة ما يجري في العراق، التي يحاول إعلام السلطة العميلة ومن يتعاون معه إخفاءها وتزويرها وتضليل العالم بشأنها.

رابعاً:

إن هذا المؤتمر نشاط سياسي وإعلامي لصالح العراق في الإطار المعلن له، وليس مفاوضات بين عراقيين والادارة الأميركية، ولم يتم بطلب قدّمته قوة وطنية عراقية لسفارة أميركية ولا بطلب قدمه المنظمون للسلطات الأميركية. ولم يتم بتمويل من هذه الدولة أو هذه الجهة الثرية أو هذا الجهاز الاستخباري أو ذاك، إنما من تبرعات العراقيين المشاركين في عقده. فهو، بحق، جهد وطني عراقي خالص. 

خامساً:

 ورغم الحقائق المبينة في رابعاً أعلاه، إلا إن هذا التساؤل يفرض نفسه:  متى كان مبدأ اللقاء مع العدو والتفاوض معه مبدأ مرفوضاً في العمل السياسي؟

فعلى مرِّ التاريخ كانت حركات التحرر وقوى المقاومة في العالم تعقد اللقاءات مع أعدائها وتتفاوض معهم على أفضل السبل الممكنة للتحرر والاستقلال، فقد تفاوض الثوار الجزائريون والتونسيون مع المحتل الفرنسي وتفاوض الثوار الفيتناميون مع الغزاة الأميركان وتفاوض الهنود مع المحتلين البريطانيين، كما تفاوض غيرهم، وها هي حركة طالبان تتفاوض مع الإدارة الأميركية، وتتفاوض فصائل فلسطينية مقاومة مع العدو الصهيوني، مباشرة أو بشكل غير مباشر، على ترتيبات جزئية مرحلية لتخفيف الضرر عن الشعب الفلسطيني. ولما كانت لنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد تفاوض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع رموز الشرك من قريش، على أرضهم، وعقد معهم صلح الحديبية الذي كان مفتاح الطريق لفتح مكة وانطلاق رسالة الاسلام إلى كل الجزيرة العربية وإلى خارجها، والمفتاح لبناء الدولة العربية الاسلامية تالياً.

بل أن كل القوى العراقية المناهضة للاحتلال، وفصائل مهمة من المقاومة الوطنية المسلحة عقدت سلسلة من اللقاءات والاتصالات مع الولايات المتحدة خلال السنوات الست عشرة الماضية.

سادساً:

إن منظمي المؤتمر، ونكرّر القول إنهم مواطنون عراقيون وليسوا جهة أو حزباً عراقياً، وليسوا مؤسسة أجنبية أو أميركية تحديداً، ينطلقون في سعيهم لتنظيم هذا المؤتمر من الرغبة في استثمار أية فرصة وأية ثغرة لتعزيز المسعى الوطني لإضعاف وإزاحة الاحتلال الإيراني، وهم يعتقدون أن ثمة فرصة مهمة تبرز الآن وهي الموقف الأميركي الضاغط على نظام طهران.

سابعاً:

إن من أول بديهيات العمل السياسي والدبلوماسي هو اقتناص المعني للتحولات في السياسات الدولية لإحداث اختراق لصالح قضيته، حتى لو كان هذا الاختراق بقدر خُرم إبرة، ولا يخفى على أحد أن هناك تحولاً واضحاً في لغة وإجراءات الإدارة الأميركية الحالية أزاء نظام الولي الفقيه في إيران، قياساً بلغة وإجراءات إدارتي بوش/ أوباما السابقتين، ليس بقدر تعلق الأمر بالعراق فحسب، بل في عموم المنطقة، الأمر الذي يُوجب العمل على استثمار هذا التحول السياسي وتطويره والدفع به بما يحقق هدف شعب العراق الصابر والملايين من العرب والمسلمين في الخلاص من الإرهاب الميليشياوي الإيراني الذي يعرف الجميع مدى إجرامه وخسّته.

ثامناً:

إن المناضل في الحركات الثورية يعتمد الخطاب المبدئي  في داخل تنظيمه بقصد تعزيز بنيته التنظيمية وترصين حصانة زملائه، بينما يستخدم في عمله السياسي لغة خطاب آخر قد لا تتطابق مع خطابه المبدئي لكنها بالتأكيد، تخدم في النهاية، مبادئه وأهدافه البعيدة المدى، وهي جزء من سياسات وإستراتيجيات مرحلية تتسم بقدرٍ كبيرٍ من المرونة واتساع الأفق في التحرك والتصور لاقتناص فرصة الممكن، وذلك عملاً بالقول المعروف "السياسة فن الممكن". وبالتأكيد السياسة ليست فن الأمنيات التي تبقى في الإطار المبدئي بعيد المدى.

تاسعاً:

إن العمل السياسي يسمح لأي حركة سياسية باتفاقات مرحلية، مع أطراف أخرى تختلف معها في نقاط أخرى. وتتمحور هذه الاتفاقات حول قضية واحدة، أو أكثر، من بين جملة من القضايا المتصلة بمعطيات المرحلة المعنية.

وهنا تكمن براعة الحركة السياسية في التقاط قضية، أو أكثر، من بين الأكثر إلحاحاً، وتأجيل النظر في القضايا الأخرى وفق أولويات معينة تقدّرها الحركة السياسية بحسب الظروف الذاتية والموضوعية.

عاشراً:

سيكون مؤتمر واشنطن منصة مهمة لاطلاع الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية على حقيقة الدور الخطير الذي يؤديه النظام العميل في العراق في دعم قدرات النظام الإيراني على تحدي الولايات المتحدة والعالم الغربي، سواء في إفشال العقوبات المفروضة عليه، أو في التهديدات الإرهابية التي تُصدّرها إيران عبر العراق إلى عموم منطقة الشرق الأوسط ومنها إلى أوروبا وأميركا والعالم أجمع، مستهدفةً المصالح الغربية والأميركية بالدرجة الأولى .

أحد عشر:

ثم أن هذا المؤتمر ليس نهاية المطاف في العمل من أجل العراق، بل هو بداية التحرك السياسي الوطني العراقي الجاد المناهض للاحتلال الإيراني في أهم ساحة دولية، وهو أول نشاط سياسي وطني في الساحة الأميركية التي  كانت محرَّمة على القوى الوطنية العراقية منذ الاحتلال.

ثاني عشر:

يعلم المتابع مقدار الخوف الذي تسبب به مؤتمر مشيغن الأخير لدى نظام المنطقة الخضراء العميل المتهاوي والمهتز، وأسيادهم في طهران المحاصرين من شعبهم في الداخل ومن دول عديدة من الخارج. وبالتأكيد فإنَّ مؤتمر واشنطن سيتسبب في مزيد من الهلع والذعر في صفوف الطغمة المتحكّمة بالعراق.

ثالث عشر:

ويبقى هدف إعطاء جرعة أمل قوية لشعبنا المكافح ضد الاحتلال الإيراني، هدفاً نبيلاً، خصوصاً أن ذلك سيتحقق من خلال عمل سياسي نوعي غير مسبوق خلال السنوات الستة عشرة الماضية.

رابع عشر:

من المؤكد أن ثمة أهدافاً أخرى ستتحقق من خلال هذا المسعى، في مقدمتها إبراز قدرة القوى والشخصيات الوطنية المناهضة للغزو والاحتلال على تنظيم نشاط سياسي بهذا المستوى في الولايات المتحدة، الأمر الذي يمثل نقلة نوعية ينبغي تعزيزها واستثمارها لتنظيم نشاطات أخرى في دول أوروبا وغيرها.

وبهذا نأمل أن نكون قد أجبنا على سؤالينا: لماذا في واشنطن؟ ولماذا ليس في واشنطن؟


comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,028,127

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"