جهاد بشير
لم تكن الهجمة الطائفية التي اجتاحت مدينة جلولاء بمحافظة ديالى شرقي العراق، وأصبحت حديث القاصي والداني باستثناء رهط السياسيين، مجرد حادث عابر أفرزته الأحداث الأخيرة باعتبارها ردود أفعال "غير منضبطة" كما يتوهم البعض.
كما لم يكن تشريد الآلاف من أهل هذه البلدة ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والأهم من ذلك كله، تهديم وحرق أكثر من ثلاثة أرباع مساجدهم، أمراً مقتصراً على "عمل لا مسؤول" مارسته فئة لا تلتزم بمعايير "الجهاد الكفائي" الذي رفعت المرجعيات الدينية رايته وهي تصدر للسياسيين فتاوى جاهزة لتبرر فيها الأعمال الميليشياوية التي تتلقى منهجيتها من طهران.
ليس ذلك أبدًا هو ما جرى في جلولاء ديالى، إذ أن ما حدث يأتي في سياق مختلف تماماً عمّا هو ظاهر أمام الناس وأمام من يراقب المشهد عن بعد نظرًا لانشغالهم بهول الأحداث واشتداد المعارك على أكثر من جبهة، إنّه سياق التاريخ المليء بالحقائق والوقائع ذات التأثر الواضح على مساره والتي غيَّرت وجهة العالم ورجحت كفة على حساب أخرى في مراحل كثيرة.
لا يعد المشروع السياسي الإيراني في أثوابه جميعًا وعلى امتداد تاريخنا المعاصر، إلا أنموذجًا للانتقام وأخذ الثأر من المسلمين أولاً والعرب في المقام الثاني، لا سيما وأن إيران باتجاهها السياسي تستغل الدين والانتماء المذهبي للترويج لهذه الفكرة، التي تأتي ضمن حسابات تتعلق بانهيار الإمبراطورية الفارسية على أيدي المجاهدين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم أجمعين، وخاصة في أيّام خلافة الفاروق عمر رضوان الله عليه، فضلاً عمّا كان للعرب من دور في إلحاق الأذى بالفرس قبل الإسلام مرات عدّة، ولعل يوم (ذي قار) الشهير ليس ببعيد عن الأذهان والثقافات، على بساطتها.
تمثل العديد من مناطق العراق ذكريات سيئة للفرس، بالنظر لما أصابهم فيها من ويلات وثبور، فالقادسية والمدائن والأنبار وحتى تكريت والموصل، وقعت فيها من الأحداث الجسام التي رافقت فتوحات العراق الشيء الكثير، ولقد خسر الفرس حينما تحرر العراق منهم ما لم تخسره أمة سبقتها بهذا الشكل، فالتفوق العددي على مستوى الجند، والتميز بالسلاح وطرق المكر في الحرب، والحصون المتينة وطبيعة الأرض التي لم يألفها المسلمون، كلها عوامل من شأنها أن تعيق عمليات الفتح والتحرير، لكنها لم تصمد طويلاً أمام الجيش الإسلامي التقليدي الذي حارب الفرس كما حارب الروم ومن قبلهما المشركين بطرقه المألوفة المعروفة.
ومن أهم الوقائع التي هزَّت عرش كسرى في العام السادس عشر من الهجرة، (وقعة جلولاء)، التي اكتسبت المنطقة تسميتها كما يقول الطبري (ت 310 هـ) بما جلل الله أرضها بجثث الفرس، ممن كانوا قد تحصنوا فيها بعدما لاحقتهم الهزائم في القادسية، وكان قائدهم فيها (يزدجرد بن كسرى)، فضلاً عمّن كان فيها من أصناف الفرس ذوي الأهمية بالنسبة لمملكتهم، يقول المؤرخون "كان أشقى أهل فارس بجلولاء أهل الري، كانوا بها حماة أهل فارس، ففنى أهل الري يوم جلولاء"، وينقل الحافظ الذهبي (ت 748 هـ) عن سبب آخر لتسمية المنطقة بجلولاء، عن بعض أصحاب التاريخ "سمِّيت جلولاء لما تجلّلها من الشر"، يعني من كان يسكنها حينذاك من الفرس الأعاجم، ولعل رواية الطبري آنفة الذكر عن سبب التسمية هي الأكثر رجحانًا بعدما أجمع عليها المؤرخون، إلا أنه لا ضير من الجمع بينهما لاسيما وأن التعارض بينهما معدوم، في أنها سميت كذلك للشر الذي كان يطغى فيها، ثم لما زال بجهاد المسلمين، صارت جثث الفرس سببًا وجيهًا لبقاء التسمية رغم اختلاف المقصدين، والله أعلم.
وقد اكتسبت الموقعة أهمية لدى المسلمين في أن الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو من خطط لها بنفسه، فقد روى الطبري في تاريخه، أن الفاروق كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ما نصه ".. سرِّح (هاشم بْن عتبة) إلى جلولاء في اثني عشر ألفًا، واجعل على مقدمته (القعقاع بن عمرو)، وعلى ميمنته (سعر بن مالك)، وعلى ميسرته (عمرو بن مالك بن عتبة)، واجعل على ساقته (عمرو بن مرة الجهني)"، ومن يتأمل المشهد ليجد كباراً من قادة المسلمين وتكتيكاً يضعه الخليفة بنفسه، يدرك جيداً أهمية المعركة وتأثيرها على المستويين الاستراتجي في حينه والتاريخي على امتداده، وحجم القوة التي كانت لدى الفرس فيها وكيف أن انكسارهم على إثرها وما أصابهم من كبد وخذلان كان بداية النهاية لانهيار الامبراطورية بأسرها.
تروي كتب التاريخ عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي (ت 74 هـ)، وهو من كبار التابعين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لم يره، وكان أحد المجاهدين في فتوحات العراق، يتحدث عن الفرس فيقول "هزمناهم ـ يعنى يوم القادسية ـ حتى انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه، فهزمناهم، حتى انتهوا إلى (الصراة) فقاتلونا عليها، فهزمناهم، حتى انتهوا إلى (المدائن) فدخلوها ونزل المسلمون (دير السباع)، فجعلنا نغاديهم فنقاتلهم، فقال المسلمون: هؤلاء فى البيوت ونحن فى الصحراء، اعبروا إليهم، فعبرنا إليهم فحصرناهم فى الجانب الشرقي حتى أكلوا الكلاب والسنانير (القِطط)، فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا (جلولاء) الوقيعة، وتبعناهم فقاتلوا بها قتالاً شديداً.. وهزم الله المشركين"، ويقول ابن حبّان البستي (ت 254 هـ) "وهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها من الغنائم أكثر مما أصابوا بالقادسية".
ثم يصف الطبري مشهدًا في غاية التأثير لهذه المعركة التي هيأ الفرس فيها لأنفسهم طرقًا آمنة يمرون فيها بعد استدارج المسلمين إلى كمائن أعدوها لهم ".. وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين، فعقرت دوابهم، وعادوا رجالة، وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يُعد، وقتل منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم، فهي جلولاء الوقيعة... وكان جند جلولاء اثني عشر ألفا من المسلمين، على مقدمتهم القعقاع بْن عمرو.."، وللقارئ أن يتصور عظمة اسم القعقاع رضي الله عنه ودوي صوته، وكيف ارتعد فرائص الفرس من سطوته، وانهارت قواهم من بأسه.
ولم تكن خسارة الفرس في جلولاء مقتصرة على فقدهم 100 ألف، وتضييعهم لأرض تمثل موقعًا استراتيجياً مهماً ومتيناً، أو حتى ما أصاب أسرة كسرى ـ بشكل خاص ـ الذي تقول بعض الروايات إن ابنته وتدعى (مجانة) أصيبت بجروح فيها، فضلاً عمّا حل بيزدجر الذي تقهقر واندثر، أو ما أصاب عموم الفرس بما جاء في كتاب (الأخبار الطوال) لأبي حنيفة الدينوري (ت 282 هـ)، من أن "المسلمين أصابوا يوم جلولاء غنيمة لم يغنموا مثلها قط، وسبوا سبيا كثيرًا من بنات أحرار فارس"، بل بالنظر إلى الجانب الإقتصادي، فإن ما جناه المسلمون منها شيء مهول يعيد حسابات ميزانية الدولة كلّها آنذاك، يقول الحافظ ابن كثير (774 هـ) في كتابه الشهير (البداية والنهاية) "كان المال المتحصل من وقعة جلولاء ثلاثين ألف ألف، فكان خُمُسُه، ستة آلاف ألف، وقيل: كان الذي أصاب كل فارس (من فرسان المسلمين) يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن - يعني اثني عشر ألفا لكل فارس - وقيل أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب.. وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله، سلمان الفارسي رضي الله عنه"، وليتأمل القارئ عظمة هذا الدين الذي تنهار أمام الانتماء له القوميات والمذهبيات والطوائف، حينما يتولى سلمان رضي الله عنه أمراً كهذا، هو من جهته يحبه ويشعر بالنصر والظفر أن الإسلام لم يزل يكرمه منذ أن دخل فيه، فيما يصيب ذلك الأمر الفرس بمقتل، لتتجلى بذلك الآثار المادية والنفسية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، فضلاً عن التاريخية التي ألمَّت جميعها ببلاد الفرس في يوم واحد ومشهد واحد له ما بعده.
إن آثار هذه الموقعة أكبر من التصور المجرد حينما يطالع المرء الأحداث التاريخية المتسلسلة لها، ففي كل نواحي الحياة كانت لها بصمتان، بقدر إيجابية الأولى للمسلمين، تكون سلبية الثانية على الفرس، ولعل أبيات أبي نجيد التميمي، رضي الله عنه، أحد أبطال هذا الفتح، تجسد ذلك بصورة لا تعرف الغشاوة:
ويومُ جَلُولَاءَ الوقيعَةِ أَصبَحَتْ .. كتائِبُنَا تَرْدِي بِأسْدٍ عَوَابِسِ
فَضَضْتُ جُموعَ الفُرسِ ثُمَّ أَنَمتُهُمْ * فَتَبًّا لأجسادِ المَجُوسِ النَّجَائِسِ
وأفلتَهُنَّ الفَيرُزَانُ بِجَرعَةٍ * ومِهرَانُ أَردَتْ يومَ حَزِّ القَوانِسِ
أقامُوا بدارٍ للمَنيَّة موعِدُ * وللتُّربِ تحثُوها خَجُوجُ الرَّوامِسِ
وكيف لا تكون إيجابية هنا وسلبية هناك، ومن يقرأ التاريخ يجد وصف خليفة ابن خيّاط (ت 240 هـ) لموقعة جلولاء بأنها (فتح الفتوح)، لما تبعها من فتح سائر مناطق العراق، ولعل من المفيد أن نذكر في هذا المقام، ما سبق أو رافق أو تلى هذا الفتح العظيم من وقائع تجعل من تاريخها مشكاة ساطعة ومدعاة للافتخار، فحين يذكر المؤرخون أن السنة السادسة عشرة للهجرة شهدت فتح الأهواز والمدائن، وفيها أقيمت أول جمعة في العراق وفي باحة إيوان كسرى أقامها سعد ابن وقاص، رضي الله عنه، ثم فتحت تكريت على إثرها، وتزامنت هذه الانتصارات في العام نفسه الذي فتح الفاروق عمر، رضي الله عنه بيت المقدس، فشاء الله في ذلك الموسم أن يكبت أعداء الإسلام من صليبيين ومجوس، كانوا أشد الناس عداوة للمسلمين، تماماً كما هم اليوم.
وإذ نؤمن بسنة الله في خلقه، فإنا على موعد مع تجدد التاريخ، وفتح لجلولاء وشقيقاتها ثأراً لمساجدها وقراها وأهلها كما فتحها الأولون.
وبعد هذا الاستعراض السريع تنكشف كثير من الحقائق حول طبيعة المعركة الجارية على أرض العراق في زماننا هذا، فلقد بذلت إيران كل جهد وسعها بعد احتلال العراق لتفرض سطوتها عليه، ولطالما سجّل التاريخ تحالفات بين الصليبيين والفرس، أو بين الفرس ويهود، لا لشيء سوى أن الإسلام هو الخصم، وإن هذه التحالفات تتجدد باستمرار تحت مسميّات شتى، ولعل أبرز توصيف يمكن أن يبلغ الذهن أن الروم والفرس في عالم اليوم يتحالفون مجددًا، بمواثيق ظاهرها العداء المغشوش ـ رغم انكشافه وعدم استطاعة طرفيه الاحتفاظ بمزيد من السرية فيه ـ وباطنها التواد والتقارب والأهداف المشتركة، وربط ذلك بتقاسم الأدوار في كل من العراق وسورية.
وتتجلى الصورة أكثر بما يجري من مباحثات بشأن الملف النووي الإيراني وتحالف (خمسة زائد واحد) الغربي وأكذوبة العقوبات الدولية على طهران التي رغم كونها عقوبات إلا أنها منحتها امتيازات انعكست على أدائها في المنطقة التي باتت تفرض عليها طوقًا يمتد من مناطق الكيان الصهيوني ـ الحليف الدائم ـ شمالاً ومروراً بالخليج العربي شرقاً وانتهاءً بباب المندب جنوب الغرب، وفي ظل النظام الانقلابي الحالي في مصر، فإن المنطقة برمّتها خاضعة لاحتلال فارسي رومي لا يقبل العقل إنكاره.
هذه الامتيازات التي وجدت طهران نفسها غارقة فيها، جعلتها تسارع في ممارسة جرائم الانتقام التاريخي، ولنا في العراق وسورية أمثلة حيّة وشواهد لا يقول بنكرانها إلا ساذج بعيد عن الواقع، أو نفعي يبتغي من المشروع الصفوي مآرب ومغانم، كما هو حال السياسيين السنة المشاركين في العملية السياسية العراقية، ومن تلك الشواهد مأساة جلولاء، وفداحة ما ارتكبته ميليشيات إيران فيها.
إن تخصيص جلولاء، بالحديث لا يعني إقصاء بقية البلدات والمدن ذوات الشأن المماثل، فهذه جرف الصخر، وتلك سامراء، إلى جانب قرى ونواحي عديدة في محافظة ديالى نفسها ومحافظات التأميم وصلاح الدين وبغداد والأنبار، شهدت من الخطوب ما تشيب له الولدان، ولكن إفراد جلولاء طيبة الذكر هنا، نظراً لوضوح عمليات الانتقام التي مارستها إيران تجاه البلدة بأساليب اسودت لها صفحات التاريخ وهي تلعنها.