دبابيس الشك بين اعتذار القرني ومنشور السويدان

ديما مصطفى سكران

لا أدري من حول عبارة ديكارت الجادة "أنا أشك إذن أنا موجود" للنكتة السمجة "أنا أشك إذن أنا دبوس"!

وعلى الرغم من أن هذه النكتة لم تعد مضحكة على الإطلاق، إلا أننا إذا نظرنا إليها في ضوء المعطيات الحالية، سنجد أنها منطبقة على الواقع الآن أكثر من عبارة ديكارت نفسها.

إنها موضةُ هذه الأيام، موضة الشك في كل شيء له علاقة بالدين، والذي يتحول بالفعل إلى دبابيس تفترش مضاجع الناس، وتخلف وراءها انفجارات فكرية مدوية.

وهذه الشكوك، وتسونامي السؤال عن الحكمة من وراء كل حكم شرعي، والمحاكمات التي تُنصب للفتاوى والأحاديث النبوية، والنظر بعين الريبة لكل شخصية تاريخية إسلامية مقدرة، أمور متوقعة في سياق ثورةِ وسائل التواصل الاجتماعي، وسقوطِ كثير من الرموز الدينية في امتحان الربيع العربي، والسجاجيدِ الحمراء التي تفرش في المنابر الإعلامية لكل صاحب صوت نشاز، فكلُّ هذه الأمور ساهمت في خلق المناخ الملائم لتفريخ الشكوك لدى الناس، والتي طالت كل شيء، بدءا من وجود الله سبحانه، وانتهاء بالشك بأصغر الأحكام الدينية. وليس اعتذارُ عائض القرني الأخير أمام الكاميرا، إلا صبا لدفقة كبيرة من الزيت على هذه النار المشتعلة.

وكإجراء وقائي ضد هذه الصدمات، التي تهز إيمان الناس بمسلماتهم الدينية، تعلو الدعوات الثورية للانتصار للعقل، فقد جاء في منشور الدكتور طارق السويدان، على حسابه على فيس بوك بعد اعتذار القرني الأخير:

" لا تبع عقلك لأحد إن لم يقنعك بالدليل والبرهان، لا تبعه لشيخ، ولا حزب، ولا حاكم، ولا والِدَين،  ولا حتى لأحد من السلف"

يبدو الكلام جذابا ومقنعا، لكن في قلب هذا المنشور الذي يبدو نصيرا للعقل بعدٌ كبير عن العقلانية نفسها، لأن فيه إطلاقات في غير مكانها، ودعوات لغير أهلها، في نصٍ قصيرٍ جداً، يفتقدُ الكثير من التفصيل والتوضيح في موضعٍ يتطلب أكثر ما يتطلبُ الكثيرَ من التفصيل والتوضيح، فدعوةُ كلِّ الناس على اختلاف اختصاصاتهم العلمية وقدراتهم الذهنية لإعمال عقلهم في الدين كُلِّه أمر خطير جدا!

فكيف سيأتي بالدليل لابن الخامسة عشر الذي يشكك في صحيح البخاري، ولرجلٍ يتلعثم في القرآن يريد أن يفسره على هواه، ولامرأة قررت فجأة نسف الفقه كله وهي خريجة أدب إنجليزي؟!

وأي برهانٍ لمن لا يفرِّق بين ما هو محل خلاف وما لا يصح معه الاجتهاد، وبين المتواتر والحسن، وبين الحقائق التاريخية المؤكدة بالوثائق وادعاءات المتحذلقين؟

نعم، إن "المقلد لا دين له"، لكن ذلك قد يخص أصول العقائد وأصول الدين، التي جاء الأمر الصريح في القرآن بإعمال العقل فيها، المفضي للإيمان على بصيرة بالله وصفاته ونبوة نبيه وصحة كتابه، أما التقليد في الفروع فهو أمر لا بد منه ولا بديل عنه لغير المختصين.

لكن الناس الذين يستجيبون لدعوات "عدم بيع العقل لأحد" لا يفرقون كثيرا بين هذين الأمرين، ليتجاوزَ إعمالُ العقل عندهم حدَّه الصحيح إلى الخوض في مسائل التاريخ الإسلامي، وصحة تواتر القرآن، وتفسير آياته، والتشكيك بالسنة النبوية، وأحكام الحجاب والجهاد والطهارة، وغيرها..

إن الموقف النقدي الفاحص تجاه كل معلومة جديدة أو قديمة، هو جزء أصيل من منهج فكري دعا له ديكارت بالفعل، يدعى الشك المنهجي، لأن ديكارت رأى أن العلم يجب أن يبنى على أرضية من حقائق يقينية، يُستخدم الشك ابتداءً لاختبار صحتها.

أما الموقف النقدي المشكك الذي يتبناه غير المختصين تجاه العلوم الإسلامية، من حديث وتفسير وفقه وتاريخ وغيرها، فهو ليس شكا منهجيا محمودا كالذي دعا إليه ديكارت، لأنهم إنما يبدؤون بالشك ثم ينتهون إليه، غير قادرين على المضي قدما في اختبارِ الحقائق العلمية والتحقق من صحتها، لأنهم لا يملكون أدوات هذا العلوم.

فمن منا سيترك أشغاله وأعماله وأسرته وتخصصه في الهندسة مثلا، ليبدأ بدراسة علم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلوم السند والمتن، فقط لأنه راعه أن حديثا ضعيفا ما عُلِّم له يوما على أنه حديث صحيح؟

ومن منا سيترك دنياه ويسخر ليله ونهاره لدراسة فقه اللغة والنحو والصرف وعلم البيان والقراءات وأسباب النزول وغيرها، لأن تفسيرا ما للآية الفلانية لم يقنعه؟

ومن منا سيفني نور عينيه في قراءة مجلدات التاريخ ويشد الرحال للاطلاع على مخطوطاته المحفوظة في المتاحف، لأن شخصية تاريخية إسلامية مقدرة ما، نُسب إليها ما صدمه وهز كيانه؟

ومن منا سيمضي عمره في تعلم علوم القرآن وتفسيره، ودرجات الحديث وآلية الحكم عليه، ومقاصد الشريعة وأصول الفقه ومذاهب الفقهاء، ليجتهد فيفتي لنفسه بما يشتهي أن يفتي له به المفتون؟

بالتأكيد لن يكون الشخص العادي قادرا ولا حتى راغبا ببذل كل هذا الجهد، للسيرِ في الطريق الطويل للشك المنهجي، ولكنه سيختار واحدا من طريقين ممهدين قصيرين، أولهما أن يظل متمسكا بشكه تجاه كل أمر، ويظل معملاً عقله في كل مسألة، كالمحرك الذي يدور بلا توقف في سيارة لا عجلات لها، وثانيهما أنه سيصغي لأولئك الذين يقدمون أنفسهم بدلاء عن العلماء التقليدين، ويجيئون للناس بأفهام جديدة، وينسفون المسلمات، ويفسرون الآيات وفق الأهواء، فيتنقل في الاتباع بين شخص وآخر، وفهمٍ وآخر، ليجد نفسه يهوي من تقليدٍ إلى تقليدٍ آخر مقنَّعٍ هذه المرة بقناع "إعمال العقل"!

ففي النهاية لا أحد يفتح كتب التاريخ ليتحقق مما قاله يوسف زيدان عن صلاح الدين، أو مما ادعاه عدنان ابراهيم بحق الصّحابة، ولا أحد يعود إلى معاجم اللغة ليتحقق من دلالة حرف الجر في تفسير جديد أتى به علي الكيالي أو ابتدعه محمد شحرور!

إن الدعوة إلى إعمال العقل وعدم بيعه لأحد، هي دعوة محقة إذا توجهت لطلاب العلم في سياق اختصاصاتهم، وأثناء كتاباتهم لأطروحات التخرج والدكتوراه، فهناك يكون الشك محمودا، لأنه يفضي إلى اليقين القائم على أسس علمية، فالعلم الحق يُحصَّل في مجالس العلم الحقيقيّة، وفي حرم الجامعات وبين رفوف مكتباتها ووفق مناهجها المُحكمة، ولأجله يبذل الوقت والمال والجهد ونور العيون، ولكنه لا يأتي ونحن نحتسي كؤوس الشاي باسترخاء متصفحين منشورات "المثقفين الموسوعيين" في فيس بوك، أو متمددين أمام قنوات يوتيوب، أو متابعين للبرامج الحوارية الممولة من إعلانات الشوكولاته، والمسجلة مع "المثيرين للجدل".

إن علوم التاريخ والحديث والتفسير والفقه هي صروح علمية شاهقة، بنيت لبنة فوق لبنة خلال عمر الأمة الإسلامية، وبُذل في سبيلها الكثير من العقول والجهود. نعم، هي تحتاج بالطبع للترميم بإتقان هنا أو هناك، وللتجديد بأيد خبيرة ماهرة هنا أو هناك، ولكن لا يجب بحال أن يُسمح لغير الأكفاء والمتمكنين والمختصين بأن يقتحموا حرمتها بأحزمة الشك الناسفة، التي تتفجر بها فتهدمها عن آخرها، لأن نسف هذه الصروح هو تفريغ لمخ الأمة الإسلامية، يتلوه وقوف على الفراغ.

إن على الأسئلة الطارئة والشكوك الملحة أن تجري مجراها الصحيح بأن توجه للمختصين، وعلى المرء أن يكون واعيا بما فيه الكفاية ليفهم أن الادعاءَ في أي شأن أمرٌ سهل للغاية، وما أسرع ما تنتشر الادعاءات الجذابة على منصات التواصل وشاشات التلفاز، لكنها لن تصمد دقيقة واحدة في رواق مؤسسة علمية مختصة، لذا يجب التفكير ألف مرة قبل تصديق أي متحذلق يظهر على الشاشات، مهما بدا طرحه جذابا، وإلا سيتحول الدين إلى أفهام متضاربة مائعة، لا يدري المرء أي منها هو الإسلام الصحيح.

كما أن على المؤسسات الدينية أن تستعيد ثقة الناس، بأن تشكل فلترا علميا صارما في وجه هذه الفوضى، يمر من خلاله أي ادعاء جديد مثير للجدل، ليتم فحصه من قبل المختصين بشكل منهجي، فحصا ينتهي بإطلاق حكم علمي واضح عليه، يقدم للناس، لا سيما الشباب منهم، بقالب بعيدٍ عن النمطية المملولة والاستعلائيّة المنفّرة، فيكون مُصدقا لديهم، وقادرا على نزع دبابيس الشك وحصاه المدببة، التي تقض مضاجعهم.

 نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,618,272

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"