أوراق مختارة من سجل العلاقات العراقية – الإيرانية / 9

رعـد البيدر

(انعكاسات الصراع العربي – الفارسي على تقاتُل الأمين والمأمون)

من نافلة القول التذكير بأننا سننتقي من الموروث التاريخي والسياسي - أحداثاً ، نربِط من خلالها ما يتصل بعنوان وغاية المقال، لذا يصعب تحقيق التوازن بين مزيدٍ من التوَّسُع، وبين مساحة كتابة محدودة تُسمى "مقالاً" . 

نعود لنُذَّكِر بما انتهينا إليه في مقال الورقة الثامنة بوفاة هارون الرشيد واستلام الخلافة من قبل ولده الأمين الذي امتدت خلافته بين عامي (809 - 813) م . كانت تلك السنوات الأربع مليئة بالفتن وأحداث الشغب واقتتال الأخوين الأمين والمأمون في ما بينهما ، وكان لكل واحدٍ منهما جيشه ومستشاريه وقواده.

 تعود جذور الخلاف بين الأمين والمأمون إلى فترة صِباهُما عندما جَعَلَ الرشيد الخلافة من بعده إلى الأمين أبن زبيدة - زوجته الهاشمية النسب والحبيبة إلى قلبه – والأمين هو الأصغر سِناً من أخيه المأمون أبن الفارسية " مراجل " ، فصار أحدهما يضمر الكراهية والنقمة على الآخر . ومما زاد من مظاهر كراهيتهما لبعضهما خضوع كلِ منهما لإشراف وتوجيهه (مُرَّبي) من نفس قومية أمه . فنشأ المأمون في صباه بتوجيه " جعفر البرمكي" ، وفي مراحل شبابه ووجوده في خراسان بمشوَّرَة كاتبه " الفضل بن سهل " الذي حضيَّ بقناعة المأمون ، بمعنى أن مُربي المأمون ، وكاتبه  في مرحلة الصراع - كانا فارسيان .

تشير بعض المصادر التاريخية إلى ( تَشَيُّع ) جعفر البرمكي والفضل بن سهل ، وأن تشيُعِهما قد عَكَسَ مُعتقداتهما على قناعات المأمون في أمور منها ما لم يكن مألوفاً في العائلة العباسية ، إذ تمكن الفضل بن سهل الذي يمثل العنصرية الفارسية في الإدارة العباسية من توجيه المأمون بما يخدم ترسيخ الوجود الفارسي بالقرب من مُتَخِذ القرار .

وبالمقابل قام "الفضل بن الربيع" الذي كان يمثِّل التطلعات العربية بتوجيه تحركات الأمين وشَّدَ أزره بمساندة الكتلة العربية من أجل إضعاف النفوذ الفارسي ، لذا بدأت ملامح دور التنافس السياسي المُتعارض بينهما قبل وفاة الرشيد بشكل خاص ، لأن ما سيترتب على الوفاة هو تنفيذ تعهدهما لبعضهما بموجب وصية الرشيد التي عَلَّقها في أستار الكعبة - بأن يلتزم ولديه بما جاء فيها – بمعنى أن يكون الأصغر خليفة والأكبر والياً على بلاد المشرق.

كان الرشيد يَعرِفُ عُمق الخلاف بين ولديه ، لذا فقد اصطحب ولده الأكبر المأمون معه في آخر غزواته ، تجنباً لما لا يُحمد عقباه في حالة غيابه وبقاء الأخوين معاَ ببغداد ، وقد توفي ودُفن في مدينة طوس (مشهد الحالية في شمال شرق إيران) وفق ما بيناه في المقال السابق، ظل المأمون ماكثاً في خرسان رغم عودة الجيش إلى بغداد بطلبٍ من الأمين .

برغم طلب الخليفة الأمين من المأمون العودة إلى بغداد ، لكن المأمون أمتنع من العودة وفضَّل البقاء في خراسان ، ليس برغبته وإنما بمشورة الفضل بن سهل الذي لطَّف الأمر للمأمون ، وحفزَّهُ على محاربة الأمين - قائلا له : قاتل الأمين الذي يُريدُ بك شراً بمعونة أخوالك (يقصد الفرس) وبيعتك كخليفة في أعناقهم، فاصبر قليلاً وأنا أضمن لك الخلافة .

يتضِّح أن بن سهل - هو الذي شجَّيع المأمون على البقاء في خراسان، وسانده في تكتل أهالي خراسان معه . أن رفض المأمون طلب الخليفة الأمين بالعودة إلى بغداد يعني تمرداً مدفوعاً بمطامع عنصرية، وشخصية منها : تأمُل الفرس بأن تكون (مرو) عاصمةً للخلافة بدلاً من بغداد، وأن تعود لخراسان هيبتها التي كانت عليها قبل الفتح الإسلامي لبلاد فارس.

بُنيَّت مواقف أهالي خراسان ( الفُرس) المساندة للمأمون على رفض التهميش ، وعدم ارتضاء العودة إلى الظل بعد الذي حصل للبرامكة في زمن الرشيد ، فتمسكوا بالمأمون كقائدٍ مُرتجى ليحقق تطلعاتهم ، فالتفَّت حوله الخراسانية الجديدة ، متأملين أن يهزمَ أخاه الأمين فيعتلي عرش الخلافة، عندها يعود الفُرس إلى دائرة الضوء مُجدداً- بتشابهٍ مع كيفية ظهورهم بعد إسقاط الدولة الأموية واعتلاء الشأن الفارسي في بدايات الدولة العباسية  .

من الجدير بالذكر أن الأمين قد عفى عن سائر البرامكة بعد أن تولى الخلافة ، حين إذ عادوا إلى ساحة الصراع العربي – الفارسي بمزيدٍ من الحقد ، لكن بمستوى أقل من التأثير الذي كانوا عليه . وبقدر تعلق المقال بعنوانه ، فقد ظهر البديل الجديد (التكتل الخراساني) الذي لا تتقاطع تطلعاته مع الطموح لأي من العوائل المنتمية للقومية الفارسية .

دون التوَّسع في عُمق النزاع بين الأمين والمأمون فقد مَرَّ بمرحلتين رئيسيتين هما : مرحلة المفاوضات السلمية التي امتدت بين عامي ( 809 - 811) م . ومرحلة الحسم العسكري ، وسنشير إلى نهايتها فقط - إذا حوصرت بغداد ، وتمكنت قوة فارسية - خراسانية من دخول بغداد وأسرَّت الأمين ، وأعلنت خلعِه عن الخلافة ، ورداً على ذلك قامت العناصر العربية بهجوم مقابل فتمكَّنَت من إطلاق سراح الخليفة، وأخرَجَت الخراسانيين من بغداد .

ونتيجة لضغط حصار جيش المأمون ذو الأغلبية الخراسانية على بغداد، ضَعُفَت مقاومة الأمين، وانهارت معنويات جُنده ، فتسبب بدخول الجيش الغازي إلى المدينة بالقوة . عندها شَعَرَ الخليفة أنه أمام خيارين لا ثالث لهما : إما القيام بمحاولة أخيرة لاختراق صفوف الجيش الخراساني بهجوم مقابل يمكنه من طردهم خارج بغداد وتحريرها ، وإما الاستسلام للجيش الغازي ، وطلب الأمان والحماية له ولأسرته من القائد الأعلى لذلك الجيش .

 توصل الأمين إلى نتيجة مَفادُها - عدم وجود عددٍ كافٍ من الرجال الذين يمكن الاعتماد عليهم لمقاتلة الغُزاة . عندها لَّم يبق له بُداً يُمَّكِنُه من الصمود والمقاومة، إلا بُد الاستسلام لقائد الجيش الغازي ، فقرر الاستسلام ، وأُدخِلَ السجن ، لكن عدد من الجنود الخراسانيين اقتحموا السجن وقتلوا الأمين يوم 24 أيلول/ سبتمبر 813 م، فصار المأمون خليفةً بالقوة أو بموجب وصية الرشيد ، والحالتان لا تغيران مما حصل شيئاً ، بكونه الخليفة الجديد .

حكم المأمون (20) عاماً - قضى ما يقارب نصف فترة حكمه الأولى في (مرو) بخراسان كمقر للخلافة ، وقد شجعه الفرس المقربون منه على البقاء فيها . شهدت أوائل فترة حكمه فتن واضطرابات - خصوصاً في بغداد لأسباب متعددة لا تتحملها سِعَّة المقال ، ثم استقرت الأمور وعاشت بغداد بعدها فترة من أزهى فترات الحكم العباسي .

بالعودة إلى وجود المأمون في خراسان ، فقد خالف العُرف الذي سار عليه الخلفاء الأموين والعباسيين بتولية الخلافة لمن بعدهم ، حينما اختيار لولاية العهد من بعده " علي بن موسى بن جعفر الصادق " ، وأسماه ( الرضا ) في دلالة على أن يرضى عنه آل محمد  صلى الله عليه وسلم ، و" الرضا " هو أحد النسل المُنحدِر من آل بيت علي بن أبي طالب. واستبدل المأمون (قيافة) الجيش من الثياب السوداء التي كانت شعار العباسيين منذ الصراع العباسي مع الأموين - بثيابٍ خضراء كشعار جديد للدولة العباسية .

يُستنتج من تحليل تغير نهج الوصاية بالولاية خارج الأسرة العباسية ،  بولاية العهد للرضا كان من تدبير الفضل بن سهل وهو فارسي الأصل كما سبق بيانه، وأن مسببات التأثير على قناعة المأمون وقبوله بتلك الولاية ترتكز على معتقد فارسي يرى أن الأحقية في إمامة المسلمين ( الحاكم ) لا بد أن يكون علويًا . ليس هناك إجماع عن دوافع منح ولاية العهد للرضا . فهل كانت عن قناعة اعتقاد من المأمون أو مناورة سياسية لكسب ود أكثر ما يمكن من الفرس الخراسانيين بجانبه ؟... ثم أن الرضا قد مات مسموماً وأصابع الاتهام تشير نحو مجهول . الاستفهام بمقتل الرضا يعيدُ للأذهان قصة مقتل أبيه موسى بن جعفر  في خلافة الرشيد - التي قال فيها العلامة مصطفى جواد : إن السبب الحقيقي وراء قضاء هارون الرشيد على البرامكة ، هو تدبيرهم لقتل " موسى بن جعفر" وهذا الرأي لم نتطرق له في مقال سابق ركَّزنا فيه على خلافة الرشيد والإشكالات التي تسبب بها البرامكة ، من أجل الربط بين الدوافع وتوخي النتائج – التي تثير النقمة على العرب ( بغطاء طائفي ) .   

أتَعَّضَ المأمون من فشل تجربة الرشيد مع البرامكة ، إضافة إلى تجربته في ( مرو) بخراسان قبل عودته إلى بغداد - بما لَمِس فيهم من تناقضات ، وسعيهم للحصول على منافع ، وما ترتب عنها من معوقات في إدارة الدولة ، فَلَّمْ يمنح أحد وزرائه صلاحيات واسعة ، بل كان يتابع معظم الشؤون المهمة بنفسه ، وكان شديد التدقيق باختيار وزرائه .

امتد عصر الدولة العباسية أكثر من خمسة قرون – حكم خلالها (37) خليفة - كان من أشهرهم ثلاثة هم : المنصور والرشيد والمأمون ...... جميعهم تعاملوا مع وجود ونفوذ فارسي له مستويات متباينة من التأثير على مسيرة حكم الدولة ، لكن المأمون كان متميزاً بمواهبه القيادية ، وحكيماً في نهجه السياسي ، وله ادراك واسع بفهم النفوس البشرية وتحليل سلوكياتها ، مع ما يقتضي من إخضاعها للظرف الذي يقرر عليه بنفسه ، وحين يتطلب الظرف الآني كان المأمون يناور بتغير النهج بين اللين والشدة، والرغبة والترهيب.

بنهاية خلافة المأمون عام 833 م بدأت  خلافة  " المُعتصم بالله " الأبن الثالث لهارون الرشيد . فهل أستمر تأثير الفرس في عهد المعتصم بالله وما بعده - فعالاً ؟. هل هناك قومية جديدة دخلت الحَلَبَة العباسية بصراع  جديد مع العرب والفرس ؟. فأصبح واقع حال الدولة العباسية تحت تنافس صراع ثلاثي الأطراف .......

في المقال القادم بمشيئة الله سنُجيبُ على ما افترضناه من أسئلة ، وسنرَّكز على تأثير انعكاسات الصراعات الجديدة على وجود وهيبَة دولة عُظمى حَكَمَّت مساحة جغرافية امتدت من المشرق إلى المغرب ، من سعة الدولة آنذاك - نظر الرشيد يوماً إلى سحابةٍ  في السماء فقال عبارته المشهورة (أينما تمطري سيأتيني خراجك) .

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,057,908

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"