في الأول من الشهر الجاري أصدرت السلطات العراقية قرارا بإغلاق مقار ميليشيات الحشد الشعبي، التي تعمل خارج إطار القوات المسلحة في المدن العراقية. وقد منحت التعليمات الصادرة المجاميع المسلحة فترة ثلاثين يوما لتنفيذ القرار، والانضمام ضمن هيئة الحشد الشعبي التابع لرئيس الوزراء، التي تشكلت بعد تشريع برلماني بضم الميليشيات إلى الجيش العراقي في عام 2016.
والحشد الشعبي هو عناصر مسلحة انبثقت بفتوى الجهاد الكفائي التي أعلنها مرجع الشيعة الاعلى، بعد سقوط ثلث مساحة العراق بيد عناصر تنظيم «الدولة» في حزيران/يونيو عام 2014. لكن أغلب قيادات ورموز هذا التشكيل كانت أصلا موجودة في المشهد السياسي قبل الفتوى، ولديها فصائل مسلحة تمارس الترهيب والابتزاز، إضافة إلى العمل السياسي. وعندما يتم الحديث عن هذه الهيئة فلا يعني ذلك تشكيلا مسلحا تتوفر فيه وحدة البناء والتوجه والولاء والحاضنة، بل حتى الاتجاه العقائدي فيه اختلاف بين الفصائل المنظوية فيه. فهنالك من يؤمن بولاية الفقيه ويُقلّد المرشد الأعلى الإيراني، وآخرون لا يؤمنون بها ويُقلّدون مراجع دينية أخرى، سواء في إيران أو من داخل العراق. ولأن صانع القرار السياسي الإيراني اعتقد أن سيطرة تنظيم «الدولة» على مساحات شاسعة من العراق الهدف منه إسقاط النظام السياسي القائم في بغداد، وبالتالي سحب ورقة مهمة من يده في المساومات الجارية في المنطقة. وعليه فإنه حشّد كل إمكاناته السياسية والعسكرية والخبراتية في هذا التشكيل الجديد، كي يدافع به عن نفسه، بل إنه قام بتصدير الكثير من الفصائل المنظوية فيه إلى سوريا لتثبيت وجوده بهم على الارض السورية. إذن نحن أمام فصائل مسلحة هي المحركات الرئيسية للنفوذ الإيراني في العراق والمنطقة. آخذين بنظر الاعتبار أن الرئيسية منها هي في الاصل تشكلت وتدربت وتسلحت في إيران، بل حتى إنها قاتلت العراقيين إلى جانب الجيش الايراني أثناء حرب الثماني سنوات من القرن الماضي. إن الإشكالية الكبرى في العراق ليست بإصدار القرارات، بل بالقدرة على تنفيذها وجعلها أمرا واقعا. وفعل ذلك ليس أمرا يسهل القيام به في واقع سياسي معقد تتشابك فيه المصالح الدولية والإقليمية، في ظل انعدام تام للرؤية الوطنية المحددة للمحرمات التي تمس المصالح العراقية. فالحقائق الملموسة تشير إلى وجود فاعل أساسي على الأرض العراقية، بينما الفاعل الذي يريد أن يشكل الدولة العراقية بكل ما يعنيه معنى الدولة غير موجود، لذلك رأينا عندما أنذر رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي الميليشيات المسلحة في الشهر الماضي، وحذرها من القيام بعمليات مسلحة، قد واجهت إنذاره بتحد سافر، وقامت بإطلاق صواريخ على مواقع في محافظتي الموصل والبصرة، بعد يوم واحد من بيانه. وعندما أمرها بالخروج من الموصل وسهل نينوى في آيار/مايو الماضي رفضت الامتثال لأوامره علنا. هذه الإشكالية تشير وبوضوح تام إلى أن هنالك هشاشة سياسية في معنى وماهية المناصب في السلطة العراقية الحالية. كما أن هنالك فراغا سلطويا كبيرا نتيجة حالة الصراع المستديمة القائمة في الواقع السياسي، فكانت فرصة سانحة لقوى الفوضى أن تستغله، لذلك بقي شعار حصر السلاح بيد الدولة مجرد لافتة رفعتها كل الحكومات المتعاقبة، بينما عجز الجميع عن أن يجعلوا من هذا الشعار واقعا ملموسا. يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بوجوب توفر عنصرين كي نصف الكيان بأنه دولة. الأول أن يكون هو محتكرا استخدام القوة. وثانيا أن يكون هذا الاستخدام شرعيا. والشرعية هنا تأتي من إقناع الدولة مواطنيها بأنها دولتهم كي تفرض القانون. كما أن شرعية الدولة من شرعية النظام السياسي القائم فيها. ولو طبقنا هذا القانون السياسي على العراق نجد بأن عناصر الدولة غير موجودة فيه، كما أن شرعية النظام السياسي القائم حاليا غير مُتفق عليها، وبالتالي فإن شرعية الدولة هي كذلك. هذا المسرح السياسي بهذا الشكل والمواصفات يكون مرتعا خصبا لقوى اللادولة، لذلك تشكلت فصائل الحشد الشعبي بفتوى من خارج إطار الدولة.
وعندما يأتي التبرير بأن الجيش والأجهزة الشرطية أثبتت فشلها في التصدي أثناء سقوط ثلث مساحة العراق، وبالتالي لا بد من إنشاء قوى موازية من خارج الهياكل الرسمية المتعارف عليها، هو إقرار واضح بعدم وجود دولة، لأن السياقات العسكرية في الدولة الحقيقية تقضي بإعادة هيكلة الوحدات العسكرية المهزومة وليس تشكيل قوى موازية. إن إصدار القرارات بضرورة انضواء كل الفصائل المسلحة تحت هيئة الحشد الشعبي، غير كاف إن لم يكن قرارها وحركتها وتصوراتها منطلقة من المصلحة الوطنية وبقرار عراقي خالص. ومن قال إن قانون إنشاء هيئة الحشد الشعبي هو نفسه قانوني. من وجهة نظر قانونية ثابتة أن كل جهة مسلحة هي ميليشيا، وإن تم تقنينها بقانون، حينئذ سيكون القانون متأخرا عنها وهي متقدمة عليه. بمعنى إنها هي التي صنعت القانون على مقاسها. وكيف يمكن أن تنصاع للقانون وتخضع للدولة التي لا ترتبط بها لا عقائديا ولا تدريبيا ولا تسليحيا ولا من حيث النشأة والتكوين؟ أما إذا كان الموضوع مجرد حركة مسرحية لارضاء الجانب الاميركي الذي ضغط للحد من نشاط الميليشيات، وإنه جزء من استحقاقات المواجهة الاميركية الايرانية الاخيرة، فهو رهان خاسر. إن الفاعل الايراني الذي يعيش ظروفا صعبة على كافة الأصعدة، التي يمكن تلمسها من كثرة الصراخ والتهديد اليومي من كل المستويات السياسية، لن يسمح لأي كان، سواء كانوا أحزابا أو شخصيات محسوبة على الإسلام السياسي الشيعي أو غيرهم، أن يتعاملوا مع أذرعه المسلحة وفق مقتضيات التناغم بين المصلحة العراقية والمصلحة الأميركية. فالمرحلة الحالية بالنسبة له تتطلب التلاعب بسيناريو الصراع مع الولايات المتحدة بالقوى المسلحة الهجينة، لأن القوى المسلحة النظامية تجر إلى حرب لا يريدها هو ويعرف نتائجها الكارثية عليه. ومع ذلك يبقى صانع القرار السياسي في طهران مطمئنا على أذرعه، لأنه يعرف أن إصدار القرارات شيء وتطبيقها على أرض الواقع شيء آخر. فإجبار الميليشيات المسلحة على الانصياع للاوامر الصادرة من السلطات المحلية، يتطلب وجود قطاع أمني وطني تابع للدولة حصرا، وكذلك وجود إجماع من القوى السياسية الفاعلة، ولأن هذين العنصرين غائبين تماما في الحالة العراقية، لذا فإن أستمرار انفراد الميليشيات بقراراتها من حيث تحديد من هو العدو ومن هو الصديق، وأين تكون ساحة القتال وحدود السلام، ستبقى حالة مستديمة.