أوراق مختارة من سجل العلاقات العراقية – الإيرانية/ 10‏

رعـد البيدر

( بُروّز الوجود التُركي وانعِكاساتِه على تَدَهوّر خِلافَة الدولة العباسية )

اتضَّحَ من خلاصة مقالاتِنا السابقة أن الفُرس قد ساهموا بقيام الدولة العباسية، وكان من الطبيعي أن يكون لهم دور في تلك الدولة - حيث أضفوا على الكثير من مؤسساتها وتنظيماتها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية صِبغَة فارسية - ساعدَهُم بذلك نقلُ عاصمة الخلافة إلى بغداد في زمن المنصور ؛ فازدادت قُرباً من بلاد فارس ، ونقلوا الكثير من سلوكيات وقوانين المُلك الفارسية إليها، منها تقسيم الخاصة والعامة إلى طبقاتٍ اجتماعيةٍ تبعاً للفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يُمارسها الأفراد ، وادخلوا نظرية الحق الإلهي والحكم المُطلَّق للحاكم - تقوم النظرية على أن الحاكم هو ظل الله في الأرض ، وهي أفكار مُستوحاة من عصر التبشير المسيحي في بداياته الأولى عندما بشّر بها عيسى عليه السلام ‘ وحاول اليهود إحراجه أمام القيصر؛ فقال :أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله ، وتلك واقعة لا يستوعِبُها حَيِّز المقال... تسبَبت المقولة بظهور " نظرية السيفين " وتعني أن يتوَّزع الحكم بين رجال الكنيسة والملوك، واستمر تطبيق تلك النظرية قائماً في أوربا إلى قيام الثورة الفرنسية في 14 تموز / يوليو 1789. من أجل ما سبَّق قال الجاحظ " أن دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان  ويقصد " بني أُمية " عربية أعرابية ". 

 

 

ليسَ من الإنصافِ أن يتناول أي كاتبٍ الدور السلبي للفُرس بمعزلٍ عن الدور الإيجابي لهم ، رغم أن الموازنة القومية – الدينية قَلِقة بين الدورين وفي المجالين . على سبيل المثال وليسَ الحصر فأن الأدب الفارسي يحوي صورتين مختلفتين للشخصية العربية : إحداها سلبية تُظهِرُ حقداً قَلَّ نَظيرُه على العرب - بعضُ من عَبَّر عنها " أبو قاسم الفردوسي" و"سوزني السمرقندي " وآخرون . أما الصورة الأخرى فإنها إيجابية الأبعاد إذ يُشيرُ فيها رجال دين أو أدباء أو شعراء إيرانيون يتفهمون أن كلمة العربي توحي: بأصل الدين وفضل العرب في نشره، ولغة القرآن، ولغة أهل الجنة، وبالحكمة، والتقوى، وإكرام الضيف، والشجاعة، والوفاء بالعهد، ويقرنون أسماء شخصيات عربية بصفات اشتُهروا بها كنماذج إنسانية مُميزة.

نُنَوِّهُ بأننا من السطور التالية وفي مقالات لاحقة - سنَضطَّرُ لاستخدامِ كلماتٍ نتقاطع معها فكرياً، لكن الوضوح يستوجبُ تسميتها بمسمياتها المعروفة بها؛ لذا سنَضَعُها بين "هلاليين" ؛ لكونها مفاهيم طائفية تُشَّكِلُ مسببات تفَرُّق إسلامي أكثر من كونها مُوجبات توَّحُد – منها :

( التشَّيُع )( الشيعة)( الشيعية)( السُنَّة)(السُنيّة) ولن نُعيد التنويه عنها في مقالٍ لاحق.

بعدما اتضَّح للفُرس بأن العباسيين قد نقضوا وعودهم السابقة فيما يتعلق بمَنحِهم حُكماً مُستقلاً ، وأكتفوا بمَنحِهم مناصب الوزارة فقط ؛ بدأت النزعة العِرقية تتحركُ في نفوسِ الفُرس بشكلٍ أكبر وأسرع ؛ فتشكلَّت التجمعات الفارسية والتركية ذات الطابع السري . وبقدر تعَّلُق الأمر بالفُرس ( الإيرانيين ) كموضوعٍ للبحث وفقاً للعنوان الرئيسي لمقالاتنا المُتعاقبة ؛ لذا فقد أرتبط معه للضرورة التوضيحية الظهور التركي المُتأخر بعض الشيء ؛ حين بدأ التفكير الجدي الفارسي لتطبيق (التشَّيُع) لآل البيت كمذهبٍ ديني يستوجِبُ العمل من أجلهِ لزيادة أعداد الأشخاص المعتقدين بالمذهب ( الشيعي). وهكذا بدأ ( التَشَّيُع ) السياسي- الديني مَشروعاً قومياً فارسياً أكثر من كونهِ مشروعاً ومُعتقداً دينياً .    

الثابت تاريخياً وفق ما أشار إليه " أحمد أمين" في كتابه" فجر الإسلام" الصادر عام 1929 أن الفُرسَ والأتراك قد نَفَذوا إلى المجتمع العربي الإسلامي كأسرى حروب؛ فكانوا يُستَّرَقونَ ويوَّزَعونَ رجالاً ونساءً وذَراريُّ على العرب من الجيش الإسلامي الفاتح. والذَراريُّ كلمة جمع تعني( الذُرِّيَّة ) وهي نَسَّلُ الذين تم استرقاقهم؛ ثم تزايدت أعدادهم مع مرور الزمن .

مما تجدر الإشارة إليه أن كلمة الأتراك لا يُقصَدُ منها سكان تركيا الحالية وفق ما يتصوره البعض خطأً ؛ إنما الأتراك قومية مُنتشرة في آسيا الوسطى كانوا يسكنون في مناطق صحراوية على شكل قبائل مُبعثرة بحالة خلافات ومنازعات دائمة ، ليس لهم تماثل سياسي وفكري يُنَّظِمَهُم كدولة موَّحدة. وقد تميزوا بكفاءتهم بالقتال، وقدرتهم على تحَّمُل المشاق والصِعاب، وتحولوا من دياناتهم السابقة إلى الإسلام من خلال الفتوحات الإسلامية، وتأثروا بالثقافة الفارسية. بدأ استجلاب الأتراك كعبيدٍ في عهد الدولة الأموية، واستُقدِموا كعبيدٍ وكجنود في عهد الدولة العباسية بضمنها ما قبل وخلال خلافة المأمون إذ استخدم منهم عدد غير قليل في قتاله مع أخيه الأمين ، قبل أن ينتصر عليه ويتولى الخلافة من بعده .

 بدأ ظهور الوجود التركي في المجتمع العربي منذ عهد الدولة الأموية على إثر الفتوحات الإسلامية لبلاد ما وراء النهر في" آسيا الوسطى" وتزايدَ وجودهُم في العهد العباسي لا سيما في عهد الخليفة العباسي الثامن " المُعتصم بالله " منذ أن كان ولياً للعهد ، وازداد استقدامُهُم في فترة خلافته . للمقارنة - ينبغي الانتباه إلى أن ظاهرة الفُرس كوجودٍ مؤثر - ترافق مع قيام وبداية حكم الدولة العباسية وفق ما أوضَّحناه في مقالٍ سابق . أما الوجود التركي فلَّم يكُن له أي تأثير سياسي في المجتمع العربي الإسلامي، إلا أن الأتراك ظهروا على مسرح الأحداث في بغداد ظهوراً واضحاً منذ خلافة المأمون الذي استخدمهم ضمن تشكيلات الجيش؛ لكي يحقق بوجودهم توازناً نوعياً بين العنصرين السائدين آنذاك : العربي والفارسي.

توفي المأمون متأثراً بحمى شديد أصابته في آخر غزواته بالقرب من مدينة "طرسوس" الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوب تركيا عام ( 833 ) م ، وكان قد أوصى بالخلافة إلى أخيه المعتصم . تحدث المأمون مع المعتصم قبل موته - ناصحاً إياه بأفضل كيفية لإدارة الدولة كخليفة سيعقبه في تسلسل خلفاء بني العباس. الثابت وفق معظم المصادر التاريخية وجود اختلاف بين تفكير ونهج الأخَوَّين عن بعضهما؛ فالمأمون يميل للعلم، راعياً للعلماء – حكيماً بالسياسة، في حين كان المعتصم ميالاً للقتال وفنون الحرب.

بدأت خلافة المُعتصم بالله بوجود اضطرابات وفِتَّن اشتدَّت في أواخر حكم المأمون ، كان على المُعتصم معالجتها كأسبقية أولى لتوطيد أركان الخلافة الجديدة . وفي ظل تلك الظروف الصعبة  كان هناك صراعاً مُستَعِراً بين الكتلة العربية التي تسعى بما تتمكن لكي لا يتفوق الدَّور الفارسي على الدَّور العربي ، لا سيما أن الفُرس قد حظوا بعطفِ المأمون خلال السنوات الأولى من خلافتهِ ؛ فأدى ذلك الاهتمام إلى اختلال التوازنات بين العناصر القريبة من مصدر اتخاذ القرار في الدولة العباسية. وبقدر ما كانت العلاقات حميمية بين المأمون والفُرس ؛ فقد ساءت العلاقات بين العباسيين والخراسانيين مُنذُ انتقال المأمون من " مرو" إلى " بغداد " ، وظهرت حركات مناهضة للدولة ذات خلفيات فارسية – خصوصاً بعدَ إبعاد بنى سهل الذين كانوا اكثر الفرس قُرباً من المأمون . إن إبعاد بني سهل يُعيدنا إلى شيءٍ من التشابهِ الذي قام به هارون الرشيد مع البرامكة ؛ لكنه أقل وضوحاً ، وأخَفُ شِدَّة .

خلاصة ما أنعكس من نتائج في بداية خلافة المُعتصم – هو استحالة التوفيق بين تطلعات الفُرس الخراسانيين ومصالح العباسيين؛ فَضَعُفَت ثقة المعتصم بالفُرس؛ وصار مُلزَماً بالبحث عن عُنصرٍ بَديلٍ . ومن الجانب الآخر فقد أتعَّضَ المُعتصم من تجربة خلافتي أخوية " الأمين والمأمون " فلَّم يَعُد يَثِقُ بالعنصر العربي؛ بسبب اضطرابهم، وكثرة تقلباتهم مع أو ضد الخلفاء، بالإضافة إلى أن الكتلة العربية المُتنافسة مع الكتلة الفارسية قد فقدَت الكثير من مقومات قوتها السياسية، وقدرتها العسكرية؛ فأصبحت أقل خطورة على تحقيق ما تريد .

 وكمحصلة نتائج عن تلك المعطيات من التناقض قرَّرَ المعتصم أن يوَّكِل شؤون حمايته الشخصية إلى مجموعة من الجُند الأتراك - رُبما بسببِ توافق انطباعاتهِ النفسيةِ ، وصفاتهِ الجسديةِ مع صفاتِ أخواله الأتراك من حيث القوة والشجاعة، كأُمَّةٍ عنيفةٍ مُحاربةٍ شديدة البأس، وبالتالي أضحى للعُنصر التركي الأثر الكبير في الحياة السياسية والاجتماعية والشأن العسكري ؛ فأصبحَ الحرس الشخصي التركي للخليفة يُمثلُ دعامة من دعائم الخلافة أيام حُكم المُعتصم من الصعوبة تحديها أو اختراقها .

استشعَرَ المُعتصم العَصبية التركية كقوميةٍ جديدةٍ قد بدأ نموها وتأثيرها في المجتمع ؛ فاستغَلَ مواهبها القتالية للحفاظ على هيبة دولتهِ ، والإبقاء على خلافتهِ، في ظل الصراع العربي – الفارسي ؛ فقرر استخدم الأتراك في الجيش على نطاقٍ واسعٍ، وجِعلهُم تحتَ إمرة قادة أتراك أيضاً ، وآنذاك سدَدَ ضربة عنيفة باتجاهين مختلفين للقادة والجند العرب ، و للقادة والجند الفرس في الجيش العباسي، متجاوزاً الأسلوب التقليدي الذي أعتُمِدَ مُنذ عهد جَدِه الخليفة المنصور لتحقيق وحفظ التوازن في الجيش بين الفِرَّق الأعجمية، والفِرَّق العربية؛ لكون العباسيين والفُرس شركاء منذ بدايات الصراع الذي أسقَطَ الدولة الأموية .

 أما مصادر الحصول على الأتراك الذين أستقدَمَهُم المُعتصم ، فكانت من أقاليم ما وراء النهر: خوارزم وسمرقند وفرغانة وأشروسنة ........؛ وتمثلت أساليب جَلبِهم إما عن طريق النخاسة ( الشراء ) أو عن طريق الأَسر في الحروب، وإما كهدايا كان يُقدمها ولاة تلك الأقاليم على شكلِ رقيقٍ إلى الخليفة ..... عندها أصبحت بلاد ما وراء النهر مَصدراً مُهماً للرقيق التُركي. ووفقاً للثوابت التاريخية فقد مكَّنَ المُعتصم الأتراك في خلافته، وقَرَبِهُم إليه، وخصَّهم بالنفوذ، ومِنَحَهُم مناصبِ قياديةٍ عُليا في الجيش، وجعلَ لهم مراكزاً مهمةٍ في مجالِ السياسةِ، واختارِ لهم مدينة سامراء ( سُرَّ مِنْ رأى ) شمال بغداد حوالي (100) كم . أسكنَهُم فيها ، وجعلها عاصمة الخلافة . استمَّرت سامراء عاصمة الخلافة العباسية مُنذُ خلافة المُعتصم و(8) خلفاء من أبناءه وأحفاده - حكموا من بعده ، ولم تؤثر كثيراً على الحياة العامة ببغداد العاصمة السابقة للعباسيين ؛ حيث استمرت مركزاً علمياً وتجارياً ودينياً . إلا أن الظاهرة الجديدة تكمُن بالسُرعة التي بَرَّزَ فيها للأتراك، وأصبحَ لهُم من القوةِ وقدرة التحَّكُم ما جَعِلهُم يهيمنون على قرار الخلافة، فأصبحوا مُتحَكِمين بعزلِ الخلفاءِ وتوليتهم.

كيف أخمَّدَ المُعتصم الفتن التي وَرَّثها عن خلافة المأمون ؟. متى ظهَرَت بوادِر التدهور في الحُكم العباسي ؟. من هو الوزير الفارسي الذي خانَ أمانته الوزارية وأسهَّمَ في سقوط بغداد حاضرة الخلافة العباسية ؟. هل كوفِئَ الوزير على خيانَتهِ أمْ عُوقِبَ كما يُعاقبُ كل خائنٍ ؟.

أجوبة الأسئلة أعلاه وتوضيحات أُخرى .... ستكون محاور مقالنا القادم بمشيئة الله .

 

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,622,423

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"