كشف مصدر في مستشفى الطب الذري/فرع نينوى عن أرقام وإحصاءات صادمة لعدد المصابين بمرض السرطان بمختلف أنواعه في عموم محافظة نينوى، معلّلاً ذلك بالأسلحة الممنوعة دوليا التي استُخدمت خلال معارك بدعوى استعادة المدينة، ولعدم رفع الجثث من المنطقة القديمة إلا بعد مرور سنة ونصف على انتهاء المعارك، ما أدى لانتشار الأمراض من الجثث المتفسّخة والغازات المنبعثة منها، فضلا عن الخوف والرعب من آلة الحرب وما تُسَبِّبُهُ من تحفيز للخلايا السرطانية.
وأضاف المصدر أنه “لوحظ مؤخرا ارتفاع أعداد من تم تشخيص إصابتهم بمرض السرطان بعد أن راجعوا المؤسسات الصحية نتيجة آلام شعروا بها، ثم صُدِموا بالنتائج بعد الفحوصات المختبرية” وتابع “إن المصابين هم من كلا الجنسين وبمختلف الأعمار، وهم في حاجة ماسّة إلى مضادات حيوية خاصة، وتداخلات جراحية فورية، وجُرَع كيميائية، ومعالجة ذرّية” وأوضح أن “أغلب هذه الوسائل العلاجية غير متوفرة في مركزنا، لذلك نضطر لإرسالهم إلى محافظات أخرى كبغداد وأربيل”. وأردف: “يصعب بإمكاناتنا الحالية عمل مسح دقيق لأعداد المصابين بالمرض وأسبابها، لكن النتيجة تضاعفت بما يقارب 19 مرّة عن العام 2013. وقد سُجِّلَ في مركزنا فقط أكثر من 1000 مراجع مصاب بنوع سرطاني خلال الشهر الأول من العام 2019 وكانت هذه الأعداد مخيفة بالنسبة لنا”.
مختصون يقولون أن مسبّبات هذا الداء العضال ضاعفتها الحرب وأسلحتها وأهوالها، فيرى الدكتور عيسى الشيخ أن “أبرز أسباب ارتفاع نِسَب الإصابة بالسرطان هو استخدام أسلحة إشعاعية خلال المعارك ذات قدرة على اختراق التحصينات وحرق من في داخلها، والتلوث الكبير الذي سبّبته آلة الحرب، وكذلك انبعاث الغازات من آلاف الجثث المتحلّلة التي ما زال بعضها تحت أنقاض المباني التي دمّرتها الحرب، بالإضافة إلى أصوات الانفجارات والخوف المسؤولة أحيانا عن تحفيز الخلايا السرطانية، فضلا عن أسبابه المعروفة كالتدخين والتلوث والاستعداد الوراثي”. بينما رأت الدكتورة سعاد حبيب المختصة في المعالجة الكيميائية أن “الأسلحة المصمّمة لاختراق الأبنية والجدران السميكة ربما تكون هي المسؤولة عن تحفيز الخلايا السرطانية وتسريع نشاطها وانتشارها” لكنها أشارت أنهم “لا يملكون لحد اللحظة دليلا موثقا يُثبت هذه الشكوك” وحذّرت من “الطفرات الجينية محتملة الحدوث للمواليد الجدد وإمكانية زيادة التشوهات الخلقية والإعاقات الولادية” وأضافت أنهم لاحظوا “ازديادا في أعداد الإصابات بأورام الدماغ لدى الرجال وسرطان الثدي لدى النساء”.
وسائل تواصل تداولت مؤخرا أخبارا عن إصابات بالسرطان تعرّض لها أفراد من القوات الأمنية شاركوا بعمليات (التحرير)، وكان أبرز تلك الحالات هي للمنتسب واثق العقرب الذي عانى من السرطان حتى نهاية حياته. وقد وثّق العقرب جميع مراحل مرضه على مدار العامين المنصرمين من خلاله صفحته على موقع فيسبوك، وذكر في أحد منشوراته أن الدكتور أبلغه في بداية تشخيص مرضه أن سببه ربما يكون تعرّضه لكميات إشعاع عالية منبعثة من الأسلحة المستخدمة خلال المعارك ضد تنظيم الدولة، وأضاف في منشور آخر أن 3 من زملائه الذين يعرفهم تعرّضوا للمرض نفسه بشكل مفاجئ.
وتحدّث أيضاً عن الإهمال الحكومي الذي تعرّض له، حيث نشر صوراً لمراسلات أجراها مع نواب عن نينوى فلاح الزيدان وأحمد الجبوري، يتوسلهم مساعدته في توفير مبلغ مالي لغرض الذهاب إلى تركيا من أجل العلاج، لكنّه لم يتلقَ أي رد من النائبين. هذه القصة لاقت تفاعلا كبيرا بين الناس الذين تحدثوا عن الإهمال الصحي الذي يتعرض له المرضى في مستشفيات الموصل وخارجها، ومدى تجاهل المسؤولين الذين انتخبهم الناس لمعاناتهم، وعدم تلبية احتياجاتهم.
حملة إجراء فحص طبي
ولغرض التشخيص المبكّر والتوعية بالمرض، أطلقت صفحات موصلية وسماً على وسائل التواصل تحت عنوان “#روح_افحص” يدعو كل من حضر ما يُسمّى عمليات (التحرير) لمراجعة المراكز الصحية بهدف إجراء فحوصات، وبرّرت ذلك بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان الناتج عن الأسلحة المستخدمة خلال معارك الموصل، وقد تلقّت صفحة “يردلي” التي أطلقت الحملة تفاعلا قويا من أهالي الموصل، حيث أيَّدَ كثيرون ما ذكرته بهذا الشأن، وذكر بعضهم مشاهداته لهذه الحالة في محيطه الاجتماعي.
نجمة عبدالله 51 عاماً من أهالي حي الجوسق أيمن الموصل، أصيبت بالسرطان بعد سيطرة القوات العراقية على الموصل، قالت عن تجربتها مع المرض: “اكتشفت أنني مصابة بمرض السرطان بعد فحوصات عملتها بسبب أوجاع عانيت منها. حدّد لي الطبيب طريقة العلاج بالكيميائي، فأخذت نوعية من الجرع في الموصل، ثم كتب لي الطبيب جرعة أخرى للمرحلة الثانية لم أجدها إلا في أربيل، وكنت أدفع 1000 دولار عن كل جلسة، وكانت 4 جلسات شهريا” وأضافت أنها رأت امرأة كتبَ لها الطبيب الجُرَع الكيميائية نفسها للمرحلة الثانية، فقالت: سأذهب لأموت في بيتي، من أين لي بالمبلغ؟ الأمر نفسه أكَّدهُ محمود اللهيبي صاحب مذخر أدوية أيسر الموصل، مبيناً أن مذاخرهم تشهد طلبيات كثيرة لكافة أنواع الأدوية والجُرَع الخاصة بمعالجة السرطان، “لكننا نجد صعوبات بالغة في توفيرها، وغلاء أسعارها إن وُجدت”.
وعلى الرغم أن محافظة نينوى تأتي على قائمة الأعلى بين المحافظات في معدلات المصابين بالسرطان، فإنها تعاني من نقص حاد بالجرع الكيميائية والذرية. تقول الاختصاصية سعاد كنان، أن “صحة نينوى لم تتسلم سوى حصة قليلة جدا من تلك الجرع، وهي لا تتناسب مع أعداد المصابين بالسرطان، في وقت سجلت صحة نينوى عام 2018 وفاة 76 حالة، أغلبها من النساء اللائي لم يحصلن على جرع كافية للشفاء”. وفي السياق نفسه قال الاختصاصي ذنون يونس: “أن هناك أكثر من عشرين نوعاً من السرطان، وكل نوع يحتاج لعلاج معين سواء بالجُرَع الكيميائية أو بالإشعاع الذرّي، وهذا يتطلب تحليلات وفحوصات مختبرية دقيقة من أجل إعطاء المريض الكمية المناسبة من الجرعة وفي الوقت المناسب حسب حالته، وهذا غير متوفر في مراكزنا”.
أم محمد تحمّل الحكومة العراقية مسؤولية وفاة ابنها محمد، وكان قد طُلِب منها أن تعالجه بالإشعاع الذري حيث لا تتوفر هذه الإمكانات في الموصل، وقالت أم محمد وهي تذرف الدموع: “لقد بِعتُ كل شيء ووفرت له ثمن علاج عدد من الجُرع، لكنّ إحالتنا خارج الموصل جعلتنا عاجزين عن فعل شيء لابننا الذي كان يموت أمام أعيننا” وأكدت أنها “طرقت أبواب صحة نينوى وحكومتها المحلية لمساعدتها، لكني رجعت صفر اليدين، ولم أجد آذانا صاغية”.
نقص في الأدوية
وفي السياق ذاته، يشير الدكتور خضير النعيمي إلى أن6 مراكز علاجية متخصصة دُمّرت خلال حرب استعادة المدينة من تنظيم “الدولة” بفعل العمليات العسكرية، وهي علاج مرضى الكلى، ومركز علاج الأورام السرطانية، والسكر، والأسنان، وغيرها، لافتا إلى أن “القطاع الصحي لم يخسر أبنية وأجهزة فقط، بل خسر كوادر ومختصين هجروا أماكنهم طوعاً وكرهاً خلال سنين الحرب”. معاون مدير صحة نينوى أوس الحمداني صرّح قبل فترة أن نسبة الدمار في المراكز والمستشفيات داخل المحافظة بلغت نسبة 80%، مؤكداً “وجود نقص كبير بأدوية الأمراض المزمنة، وأن مدينة الموصل تعاني من عدم وجود أجهزة الفحص الطبيّة، كالرنين المغناطيسي والمفراس والأجهزة الأخرى المتطورة، ما يستدعي المريض بالسفر إلى أربيل وبغداد”.
يقول متابعون أن وزارة الصحة العراقية تتجنب ذكر أعداد مرضى السرطان الحقيقية، وتكتفي بذكر المواقع التي تحوي مواد مُسرطِنة، وذكرت من ضمنها كثير من المواقع داخل الموصل. ورغم أن العلاج ليس مجانيا داخل المستشفيات الحكومية، لكنه قليل جداً ولا يكفي لنسبة بسيطة من المرضى، وهو ما يضطر كثيرين للسفر خارج العراق لتلقي العلاج. يُذكر أن صحة نينوى على وجه الخصوص تلقت تبرّعات بملايين الدولارات من ميسوري الحال والمنظمات المدنية والدولية، لكن هذه المبالغ لم تنعكس واقعا على القطاع الصحي في المدينة، وعزا مراقبون سبب ذلك إلى حيتان الفساد التي تنتظر الأموال لتضعها في جيوبها وتترك المرضى يواجهون أوجاعهم وآلامهم في ظل الواقع البائس.
التقارير من المنظمات الدولية العاملة في الموصل تحدثت في ملخّصها عن ارتفاع في معدلات الإصابة بالمرض، لكنّها لم تتطرّق إلى أسباب هذا الارتفاع ولا الأعداد الحقيقية للمصابين به. “لا يمكن عمل إحصاءات دقيقة لمعرفة الأرقام الحقيقية، وذلك لضعف الإمكانات وصعوبة التحرّي والوصول للبيانات الطبية، كون الحكومة العراقية لا تتعاون بهذا الصدد خشية الهلع والضجّة، لكننا نعتمد على أرقام تقريبية نحصل عليها من مصادر داخل المراكز والمنظمات العاملة في العراق” سكوت رايفز من منظمة دولية عاملة في الموصل في تصريح لصحيفة محلية.
أطباء ومرضى وجّهوا مناشدات إلى الحكومة العراقية من أجل توفير الأدوية اللازمة لإنقاذ الأرواح التي تَئِنُّ في الظلام وهي تنتظر وصول الجُرَع قبل فوات الأوان، وأن ينظروا بعين الرحمة لأولئك الذين لا يملكون ثمن العلاج.