مغالطات إعلامية في المشهد العراقي‎..‎

جهاد بشير

لم يشهد المسرح السياسي نفاقًا كالذي يمارسه الإعلام الغربي تجاه القضية العراقية، وهو ناتج بطبيعة الحال عن السياسات التي يتبناها صانعو القرار هناك، فضلاً عن نظيره المحلي العشوائي الذي ما انفكت التناقضات تؤطر حلّته الكاذبة حين يرتديها فترسم ضحكات غاضبة على وجوه العراقيين المتعبة، لما في نشرات الأخبار ـ الرسمية أو تلك التي تتبناها قنوات أحزاب العملية السياسية وحتى الأخرى ذات التبعية الإقليمية ـ من تلفيقات غير متقنة واصطناع أحداث ومشاهد لا تمت إلى الواقع بصلة، واسألوا قناة العربية عن بهتانها تجاه نساء الفلوجة.

 

قد يبدو من الطبيعي أن تنحاز شبكة (سي أن أن) الأمريكية و(بي بي سي) البريطانية إلى جانب العملية السياسية، فتروّج الأخبار من زاوية واحدة بعيدة كل البعد عن المصداقية والحرفية المهنية التي هي من أخلاقيات الصحافة، ولكن لا يُلقى لها بالاً حينما يتعلق الأمر بالمصالح السياسية للدول العظمى كونها أسست العملية السياسية وتبنّتها وتسعى بكل الحيل إلى أن تُظهرها للعالم أنها واحدة من نجاحات المشروع الجديد في المنطقة، ولكن من غير المنطق أن تتحدث رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية وحتى أسوشيتدبرس وطائفة أخرى من القنوات التلفازية والوكالات العربية عن الحيادية الإعلامية ـ قناة العربية مثلاً ـ فيما توظف في مكاتبها بالعراق أشخاصاً طائفيين ليست لهم مصادر إخبارية سوى مرآة الوزارات الحكومية، وآراء شاذة لا تراعي التوازن في النقل ولا تتحدث بمصداقية ما يجري على الأرض، أو على أقل تقدير لا تنقل من الأحداث إلا ما يتماشى مع مصالح الحكومة الحالية خاصة والعملية السياسية بشكل عام، ولو توجه ناقد لهذه المؤسسات بالسؤال مستفهمًا عن الإيديولوجية التي تتبناها مكاتب مراسليهم لوجد الجواب استنكاريًا بشأن المصطلح وتفصيليًا بأنها مهنية وحرفية وتعمل ضمن ميثاق الشرف الصحفي، تمامًا مثلما رأى كل العراقيين كيف كان جنود الاحتلال الأمريكي وضبّاطه يدرّبون أشخاصًا يزعمون أنهم عراقيون ليزاولوا أعمالاً ضمن تشكيلات الشرطة الحكومية، فيتوجه الأمريكي بالسؤال لهم: "من منكم ينتمي للميليشيات؟ فليرفع يده.."، وأي أحمق سيقول أنا !! فيمضي الأمريكي معتمدًا على هذه الشهادة بأن جهاز الشرطة الذي أسسه وطني ونزيه.

ونحن هنا، لا ننكر فضل العديد من الصحفيين في المؤسسات المذكورة، الذين يتبنون قضية بلادهم ويعملون وفق مبادئ الصحافة النظيفة، فهؤلاء على قِلّتهم يمثلون أملاً كبيرًا في تعبيد طريق الحقيقة من أجل إيصالها إلى مسامع العالم وأعين الناس، ويستحقون تحية مضاعفة على جهودهم وصبرهم وكفاحهم رغم العوائق والمطبات، ولكن الإشكالية التي تدعونا للانتقاد تتعلق بالشكل النهائي للخبر الذي تروجه المؤسسة والصورة التي تريدها أن تظهر والأخرى التي تريدها أن تُطمر.

وليس بعيدًا عن هذا السياق، فإن القوى الرافضة للاحتلال والمناهضة لعمليته السياسية تواجه أبوابًا مؤصدة أمام الإعلام وقيودًا حينما تريد أن تخاطب الرأي العام، حتى وصل الحال أن تُخلِف إحدى القنوات ذات الشهرة موعدها مع ضيف من هذه القوى لأحد برامجها، لتستبدله بآخر ممن شغل وظيفة نافخ البوق لحزب سياسي طالما كانت له اليد الطولى في صناعة الفرص للاحتلال لإنجاح مشروعه وفق مزاعم كونه ممثلاً للسنّة في العراق رغم أنه مجرد ملحق وشاهد زور في العملية السياسية.

بعيدًا عن ذلك كله، دعونا نتحدث عن جانب من الواقع الصحفي داخل العراق نفسه، فإذا كان الإعلام الغربي والإقليمي الموجّه يتقن اللعب وفن التزوير وتغييب الحقائق، فإن إعلام العملية السياسية من عشوائيته ورداءة صنعته يضع نفسه في مواقف مخزية اعتاد الشعب العراقي على الضحك عليها طوال سنوات، وحينما يتجاوز (حيدر العبادي) وهو رئيس وزراء وقائد عام لقوات حكومته ثوابت الدبلوماسية التي تقوم على أساس المجاملات المنطقية، إلى التشدق بالمفتريات والأكاذيب التي لا يمكنها بحال من الأحوال أن تنطلي على أبسط مواطن عراقي ثقافة ومركزًا اجتماعيًا، فإن من الطبيعي ألا يجد إعلامه الحكومي مكانًا غير الحضيض ليبث منه أخباره.

تبدو ممثلة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية (فيديريكا موغريني)، مصغية باهتمام لمضيفها العبادي وهو يروي لها بطولات مزيفة بأن "التقدم في المجال السياسي والأمني الذي تحقق في ثلاثة أشهر بالعراق يفوق ما خططوا له"، في وقت لم تصمد مدينة صغيرة مثل بيجي بضع ساعات تحت سيطرة القوّات الحكومية حتى عاد المسلحون والثوّار للسيطرة عليها، فيما عجزت هذه القوات عن التقدم أمتاراً تجاه نواحي صغيرة مثل البغدادي بمحافظة الأنبار والضلوعية في صلاح الدين، وغير ذلك كثير.

موظفة الاتحاد الأوروبي تدرك جيدًا أن مضيفها يكذب لكنها لا تستطيع تجاوز بروتوكول النفاق الذي تحدثنا عنه آنفًا، وذلك ليس مهماً بالكلية، فالمهم من وجهة نظر إعلامهم أن العبادي ومسؤولاً غربياً تحدثا في هذه التفاصيل، وستكتب موغريني تقريرها بما يريد الاتحاد أن يسمعه، وبما يُراد له أن يُذاع إلى العالم.

تُكتب التقارير وتروّج إعلامياً بشكل يُظهر المسلحين والثوّار المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن مدائنهم، والمنتصرين لدينهم ومساجدهم، كجنود (الأورك) في رواية سيد الخواتم يجمعون بين القبح والشر ويهلكون الحرث والنسل، يسرقون ويعتدون ويحرقون ويغتصبون ويفعلون كل شيء تستقذره الفطرة، كل ذلك مبني على معلومة ليست مؤكدة وفي كثير من الأحيان كاذبة عن خطأ وقع فيه أحد هؤلاء أو مجموعة منهم، بينما الصورة الوردية هي من نصيب الميليشيات الطائفية التي ستروى عنها القصص البطولية في الصمود والتحدي والاستبسال والاستشهاد، بل سيكون من المعيب على التاريخ أن يكتب في صفحتها شيئاً مخافة أن يلوث الحبر نقاء بياضها !!

وعلى الرغم من هذا التكامل بين الاعلامين الغربي والمحلي إلا أن تناقضات الأخير بدت مفرطة، فبينما تبادر القنوات الحكومية إلى التغني بأخبار عاجلة حينما تنتشر قوّات الجيش أو الميليشيات في شارع أو تحط أرتالها الرحال في بقعة معينة لتقول إنها سيطرت على قرية ما، نجدها تصاب بالصمم المصاحب للبكم عندما تعلو صرخات الأطفال والنساء من أهل القرى الذين اعتقل ذووهم وعذبوا وبعضهم ألقيت جثته في بادية الأرض، بأن هذه القوّات صادرت ممتلكاتهم وهدمت منازلهم ومساجدهم وأحرقت ما تبقى من فراشهم وملابسهم، وقطعت عليهم الطريق وهم يحاولون النزوح هربًا مما هو أكبر وأشنع يهددهم به مرتزقة الميليشيات.

لا تقتصر مغالطات الإعلام في المشهد العراقي على تغييب الحقائق وتغيير الوقائع بل تتعدى إلى التمادي في العشوائية، وفي أحيان كثيرة ترتفع ألسنة لهب التناقض بين الوكالات الحكومية أنفسها، فهذه تنقل خبرًا عن مجلس محافظة البصرة أن لجنته الأمنية أعلنت سيطرتها التامة على الأوضاع طيلة شهر كامل ولم تشهد المحافظة فيه أية خروقات، بينما تورد غيرها أربعة حوادث ما بين قتل وخطف وسطو مسلح واعتداء في يوم واحد فقط من أيّام هذا الشهر، فضلاً عن عشرات الحوادث المماثلة في الأيّام الأخرى منه، والقياس على هذا المثال مفتوح إلى حد يسع ما بين مدينتي (تلعفر) في أقصى شمال نينوى و(الفاو) في أدنى جنوب البصرة.

إن إعلاماً بهذه المنهجية الرثّة ذات الانحياز المفرط والتمييز غير المنضبط القائم على أساس الطائفية والعنصرية ويعمل بأدوات عميلة تخدم مشاريعًا دخيلة، لا يصلح أبدًا أن يكون مصدرًا لصنع التصوّرات أو نافذة يطل منها المتابع على المشهد العراقي، خاصة وأنه يخفي وراءه برامج هدّامة لها مستويات متنوعة على صعيد السياسية والاقتصاد والثقافة، والتي لا يمكن التعامل معها إلا على أساس المقاومة بأدواتها المختلفة.

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,050,473

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"