السحر الأسود التاريخ: 2019-09-12 11:16:55 Tweet نواف شاذل طاقة كانت الهند ذات الحضارة العريقة والتقاليد الغريبة اول محطة عمل لي في سلك الخدمة الخارجية العراقي، قبل ان تطأ قدماي ارضها، ظننت أنني ذاهب الى دولة عظمى لكنني فوجئت يوم وصولي الى مطار نيودلهي عصر احد ايّام صيف عام 1981 برؤية القرود على اسطح مباني المطار، وبمظاهر الفقر المدقع في كل مكان في طريقي من المطار الى الفندق في ذلك اليوم الغائم، شعرت بالوحشة وانا اشاهد شوارع مقفرة خالية من البشر والسيارات، لكنها تكتظ بالعجلات الهوائية ومركبات (التوكتوك). وضعت حقائبي في الغرفة ثم نزلت أتجول في أنحاء الفندق الضخم بمقاهيه ومطاعمه وحدائقه. جلست في بهو الفندق أراقب الناس بفضول كبير، بملابسهم المحلية الغريبة، وسحنتهم المميزة، وطريقة تبادلهم التحية، وكلامهم، غير ان ما اثار فضولي في اليوم الاول في ذلك الفندق الموحش هو رؤيتي لرجل يسير بتؤدة مرتدياً زياً هندياً من الحرير الأبيض وهو يدخل الى مكتب صغير يقع في زاوية عند نهاية البهو، تكررت رؤيتي لهذا الرجل اكثر من مرة فدفعني الفضول الى الوقوف على سره، وسرعان ما عرفت انه قارئ كف يمتلك مكتباً صغيراً في ذلك الفندق، وقد كتب على بابه أن أجرة قراءة الكف عشرة دولارات، وهو مبلغ كبير في مقاييس ذلك الزمن. كانت رؤية مكتب قارئ كف في فندق فاخر قد اثارت دهشتي لكني سرعان ما علمت بعد فترة وجيزة من اقامتي في العاصمة الهندية ان المدينة تكتظ بأمثاله، وان قراء كف آخرين بمثل مستواه لا يتقاضون من زبائنهم اكثر من ربع ما يتقاضاه صاحبنا. هكذا تعرفت على هذه الظاهرة التي شاهدتها فيما بعد منتشرة في بلدان آسيوية عديدة بل حتى في نيويورك. كان العراقيون والعرب بل حتى الغربيين مولعين بزيارة قراء الكف للتعرف على مستقبلهم، ولا اكتم سراً بأني كنت أرافق بعض أصدقائي لزيارة هؤلاء بمتعة كبيرة، وصرت بمرور الوقت اعرف من هو اكثر قدرة على قراءة الطالع من سواه، واستمتع بما كان العرافون يروون لزبائنهم من تنبؤات ترسم لهم صوراً وردية لمستقبل زاهر لم ينتظر أحداً منهم في اغلب الأحيان. قيل لي إن لكل هندي ثمة عرافاً يستشيره بكل صغيرة وكبيرة، ولا يخطو خطوة واحدة من دون موافقته. وعندما كُلفت يوما بمهمة رسمية للذهاب الى احدى الولايات الهندية بالطائرة، علمت ان الحجز لرحلتي غير مؤكد وان اكثر من 60 راكباً على قائمة انتظار المسافرين ينتظرون دورهم وكنت آخرهم؛ قلت للموظف الهندي إن لا طائل من ذهابي للمطار ففرصتي في السفر شبه معدومة. ابتسم الموظف وقال لي بكل ثقة وهدوء: على العكس فان مقعدك في رحلة تلك الطائرة شبه مؤكد، وقد صدق. فهمت فيما بعد ان المسافر الهندي لا يجتاز باب الطائرة قبل ان يستشير عرافه الخاص الذي بدوره يقرر مصير سفره ولهذا السبب تعودت شركات الطيران المحلية في الهند على اعداد قوائم طويلة بأسماء المسافرين على قائمة الانتظار في حين كانت الطائرات غالبا ما تنطلق بمقاعد شاغرة. بيد ان من اغرب ما كنت اسمعه من أصدقائي الهنود المهووسين بقراءة الطالع، هو السحر الأسود الذي يتحدثون عنه بخوف ورهبة. قالت لي يوماً سيدة اعمال هندية إن صديقة لها طلبت من ساحر هندي ان يصنع لها سحراً أسوداً يقضي على خصمها التجاري الى الأبد فوافق الساحر شريطة ان تقبل السيدة مستقبلاً أن تلبي له أي طلب يتقدم به مهما غلا ثمنه وعزت قيمته فوافقت من دون تردد. وبالفعل قضى الساحر على خصمها كما ارادت السيدة الهندية، لكنه عاد اليها بعد سنوات ليخبرها بانه سيقضي على حياة ابنها الوحيد ثمناً للخدمة التي قدمها لها، والكلام للسيدة الهندية. بدت تلك السيدة في حكايتها التي روتها خائفة ومؤمنة تماماً بقدرة السحر الأسود. كانت هذه واحدة من الحكايات الغريبة التي سمعتها من اصدقاء هنود، حيث لمست خلال فترة السنوات الثلاث التي أمضيتها هناك ان الهنود يؤمنون بوجه عام بمثل هذه الامور التي كنت أعدها ضرباً من الخرافات لكنها كانت مترسخة في معتقداتهم. في الواقع، لقد وجدت أن الأهم من الاعتقاد بوجود السحر الأسود لدى الهنود هو فلسفة الحياة والحكمة التي بنوها على هذه المعتقدات، وخلاصتها ان على المرء أن يبتعد في حياته عن الخبائث وألاّ يورط نفسه بفعل الشر الذي قد يبعث له المسرة المؤقتة في حياته إلا انه سيدفع ثمنه أضعافاً مضاعفة بعد فترة من الزمن عندما تعود اليه الشياطين مطالبة بالديون المستحقة فتقتص منه ابشع اقتصاص. اليوم وبعد مضي نحو أربعين عاماً على اقامتي في الهند، استذكر صناعة السحر كلما رأيت بعض الساسة العراقيين ممن استعانوا بالسحر الأسود لتحقيق غاياتهم الشريرة، فقضوا على البلاد وسمحوا للأجنبي أن يعيث بالأرض فسادا، فانتشر الظلم وحلّ الخراب، لكن موعد الحساب لن يطول فالشياطين التي استعانوا بها بالأمس ستطالبهم قريبًا بتسديد الديون، ولات ساعة مندم. نشر المقال هنا