في 12 آيار/مايو الماضي تعرضت أربع سفن تجارية من عدة جنسيات لعمليات تخريبية بالقرب من المياة الإقليمية لدولة الإمارات العربية المتحدة في خليج عُمان، باتجاه الساحل الشرقي القريب من إمارة الفجيرة، وفي المياه الاقتصادية للدولة.
وفي 13 حزيران/يونيو الماضي وقعت تفجيرات استهدفت ناقلتي نفط بالقرب من مضيق هرمز، أثناء عبورهما لخليج عُمان. حتى اليوم بقي الغموض يغلف الحادثتين ولم تتم الإشارة إلى الجهة التي تقف خلفهما، على الرغم من الإعلان عن تشكيل لجان من خبراء مختصين للوصول إلى الفاعل. في حين تغطي مسرح الحدث رادارات الجيش الأميركي، وتتواجد فيه المئات من القطع البحرية التابعة للولايات المتحدة الأميركية. فهل توصلت واشنطن إلى أن إيران وراء هذه الحوادث فتغاضت عنها، كي لا تصبح مُجبرة على القصاص منها، في ضوء المسؤولية الملقاة على عاتقها كدولة عظمى؟ وهل يأتي حادث أرامكو السعودية في هذا الأطار ايضا، فيتم التعتيم على مركز انطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة التي قامت بالهجوم؟ حتى الآن يبدو أن هذا الاعتقاد هو الراجح، بسبب أن واشنطن غير راغبة في المواجهة مع إيران. وهذه الرغبة نابعة من ثلاثة عوامل أساسية باتت تضغط على السياسة الخارجية الأميركية. أولهما، أن المزاج الشعبي الأميركي غير معني بالسياسة الخارجية، وبالتالي لم يعد يُشجع أحد على المضي في حروب أخرى. وثانيا، أن المصلحة السياسية للرئيس الأميركي دونالد ترمب لا تجعله مندفعا في اتخاذ موقف كهذا. فهو الذي وعد ناخبيه بعودة الجنود الأميركيين إلى أسرهم، وأن أخلف وعده هذا، فإن ذلك سيشكل خطورة عليه وهو على اعتاب حملة انتخابية لولاية ثانية. وثالثا، حتى الكونغرس والبنتاغون والأجهزة الامنية ترفض الخوض في الحديث عن قيام حرب. هذه المكابح هي التي تصنع صورة التناقض في الإشارات الصادرة من واشنطن تجاه ما يحصل في الخليج. فبعد كل تهديد يأتي من ترمب أو بومبيو، يتبعونه بالقول، إن واشنطن ترغب بحل سلمي للأزمة مع إيران، وإن إيران دولة عظيمة في ظل قيادتها الحالية. في حين يقولون للحليف السعودي نحن معكم، لكننا لسنا نحن المستهدفين وعليكم الرد، هكذا قالها ترمب صراحة. إذن أين اتفاق (كوينسي) الذي يقدم حماية أميركية للسعودية، مقابل ضمان الإمدادات النفطية للولايات المتحدة، على الرغم من أن بومبيو صرح بأن إيران كانت وراء حوالي 100 هجمة على السعودية؟ قد يقول ترمب إنهم لم يعودوا بحاجة إلى نفط الخليج لأنهم باتوا المُصدّر الأول لهذه المادة في العالم، لكن هذا مجرد تبرير للتهرب من المسؤولية، لو كان هذا الكلام صحيحا لما سارع للقول بأنه سمح باستخدام الاحتياطي الاستراتيجي النفطي للولايات المتحدة. فإحدى مسلمات الاستراتيجية الأميركية هي ضمان التدفق الآمن للطاقة من الخليج لحلفاء واشنطن في آسيا، وليس مرتبطا بحاجة الولايات المتحدة من عدمه وحسب.
يشارك ترمب في عدم الرغبة في الحرب المرشد الأعلى الإيراني خامنئي، فهذا الاخير بين نارين، نار الحصار الذي تصطلي به إيران، والخوف على مستقبل النظام، لأن الحصار بدأ يأكل من جرف الأمن الداخلي، ونار الخوف من تداعيات الحرب الشاملة على المشروع الامبراطوري في المنطقة، الذي يحلم به هو وتياره من المحافظين، والذي بدأ يعطي ثماره في العراق واليمن وسوريا ولبنان. هذه المعادلة جعلت إيران غير قادرة على الذهاب بعيدا في التصدي لواشنطن أو حلفائها في المنطقة. لأنها تعرف جيدا أن المواجهة الشاملة والمباشرة سوف تفقدها تعب وجهد واموال بذلتها خلال العقود الاربعة الماضية، لذلك نجد على الرغم من أن التيار المحافظ يستعرض قوته بالتصريحات الرنانة والقوة العسكرية ويهاجم ويعيب على الحكومة الاتفاق النووي، لكنه متمسك بالتيار الإصلاحي الذي تمثله الحكومة، لأنه بحاجة إليه كواجهة لإيران، وقناة يمكن من خلالها التفاوض مع الغرب والولايات المتحدة، وصولا إلى اتفاق سياسي، بمعنى أننا أمام توزيع أدوار بين التيارين. وهذه الأدوار تتطلب أن تقوم إيران بعمليات جراحية بالناظور وليس بالمبضع، كي لا تذهب إلى المواجهة المباشرة. قد تكون حادثة أرامكو الاخيرة عملية فيها إيذاء أكثر مما حصل سابقا، في عمليات استهداف البواخر ومضخات نفطية وقصف مطارات مدنية سعودية. هذا صحيح، لأن عملية ارامكو كانت الغاية منها ليس ايذاء السعودية فقط، بل ايذاء قوى دولية أخرى كالاتحاد الاوروبي والصين واليابان ودول اخرى. فايران تخاف أن يتعايش المجتمع الدولي مع مسألة الحصار المفروض عليها وتصبح قضية منسية. فاذا لم يعد الوخز بالإبر الصينية علاجا لتحفيز الآخرين على فتح كوة لها مع الولايات المتحدة، فليكن المبضع هو أداتها في التحفيز، وهذا ما فعلته في الحادثة الاخيرة. إن واشنطن وطهران كلاهما يلعبان لعبة قذرة فيها عامل الوقت هو المهم، فالاولى تعتقد أن الوقت الذي يمضي في ظل الحصار، سوف يجر طهران إلى طاولة المفاوضات، وينتج اتفاق جديد يسجل باسم ترمب. والثانية تراهن على الوقت كي تلعب بالاوراق التي في يدها، عسى أن يتورط ترمب في مواجهة يدفع فيها ثمنا لا يريده الناخب الأميركي، ورغم ذلك فإن هذا الخيط الرفيع ما بين الحرب واللاحرب، الذي فرض التعتيم المقصود على من يقف وراء الاعتداءات الحاصلة في الخليج، فإن القوة الاميركية باتت تحت الضغط، وإن عدم الاستجابة للرد على الاستفزازات الإيرانية السافرة، التي لم تعد تهدد أمن الخليج العربي فقط، بل أمن الطاقة في العالم، سوف تعطي مردودات سلبية وذات مستوى خطورة عال على المنظومة الأمنية العالمية ككل، هم يحاولون استغلال أدنى عناصر القوة الأميركية، مضافا إليها دينامية التوازن في الأقليم، بوسائل هي مزيج من القوة الناعمة والصلبة، في حين تستخدم طهران سياسة دفع الأمور إلى حافة الهاوية من أجل تحسين شروط التفاوض، إن كان هنالك تفاوض، أو فك العزلة المفروضة عليها بالضغط على الآخرين. هنا الحل هو عمل دولي مشترك، في ظل عدم وجود مشروع عربي، وليس بخطوة اميركية منفردة، لأنها قد لا تأتي اطلاقا، فالاميركان يعتقدون أن الحصار والعقوبات ناجحة، وهم يعوّلون عليها في إخضاع إيران وليس لديهم ما يخسرون الآن. الخاسر الوحيد هم نحن العرب، لانها لعبة التفاهم على حدود النفوذ بين اميركا وإيران تجري على ارضنا ونحن من يدفع ثمنها.
تقول روائية بريطانية (إن الشرر يتطاير من الجوانب وليس من الوسط عندما تحتك الدواليب مع بعضها بعضا).