محنة العراق التي لا تنتهي

عبد الحليم قنديل

قد لا تكون آخر الأخبار السيئة التي تأتينا من العراق الحبيب، فالمحنة متصلة، وبضمنها سقوط عشرات القتلى وأكثر من ألف جريح في مظاهرات غضب جديدة، تكاد تكون تكرارا صادما لمظاهرات البصرة العنيفة قبلها بعام، التي تبعت بدورها، مواسم مظاهرات التيار الصدري والحلفاء الليبراليين والشيوعيين، التي بدأت موجتها الأولى في عام 2016، وكانت قابلة للتحكم فيها بقرار فئات سياسية وحزبية، وبدرجة من التنظيم الجماهيري، باتت مفقودة هذه المرة، فقد بدا غضب الناس تلقائيا جامحا مجازفا، بينما بدت حكومة عادل عبد المهدي عاجزة مفلسة، تماما كما كانت عليه حكومة حيدر العبادي في مواجهة مظاهرات البصرة المنكوبة.

والقصة الدامية أكبر من حكومات العراق، ومن مشاهد أحزابها المريضة، ومن الوعود التي تطلق في الهواء، ولا تجد طريقا للوفاء والتنفيذ، فما من فرصة لتوفير وظائف لجحافل العاطلين، ولا لتحسين خدمات المياه والكهرباء المنهارة تماما، ولا لجلب إحساس الطمأنينة للعراقيين الملتاعين، فقد بلغ الغضب ذروته في شرق بغداد، وفى محافظات الجنوب العشر، حيث أغلبية السكان من الطائفة الشيعية، فما بالك بما حدث ويحدث في محافظات الغرب والشمال، حيث يتركز السنة العرب، الذين ضربهم سكون الدمار ومواته، ولم تعد بهم قدرة حتى على الصراخ والغضب، ولم تبق في المآقى المتحجرة بقية من دمع، فقد تحولت الحرب ضد «داعش»، التي استمرت لسنوات، مع الزحف الهمجي الاستئصالي للميليشيات الطائفية إيرانية الهوى، والقصف الكاسح المتصل للطائرات والصواريخ الأميركية، وحين بدا أن «داعش» ينهزم، وتختفي دولته اللقيطة، وتتداعى أهازيج النصر على جماعة الإرهاب والسبي والذبح، حين بدا أن العراق قد يفيق من الكابوس، وتنزاح عنه أكوام الغبار الحربي، تكشفت الصورة عن مدن وبلدات ونواح ومناطق تهدمت بالكامل، وعن فناء ذري للبيوت والمرافق والجسور ودور العبادة، وعن حطام وطبقات ردم بلا نبض حياة، وعن وعود إعمار لا تأتي أبدا، فوق ركام من القبور، وموت لمئات الألوف من الناس، تضاف إلى أكثر من مليون عراقي، قتلوا منذ غزو أميركا للعراق في أوائل 2003، وما تبعه من نكبات وكوارث، ليس أقلها ما جرى في شمال العراق الكردي، الذي انفصل فعليا بالكامل عن باقي العراق، رغم بقاء روابط صورية هشة، لم تمنع هى الأخرى من نشوب حروب دموية على حقول البترول في «كركوك» وسواها.
والمعنى المرئي، أن محنة العراقيين الراهنة، ليست فقط في التردي المعيشي، ولا في انحطاط وغياب الخدمات الأساسية، ولا في الدمار شبه الكلي لمدن السنة وحواضرهم، بل في افتقاد العراقيين لمعان أولية أكثر بساطة، فلم يعد للعراقيين وطن يجمعهم، ولا دولة يستظلون بحمايتها، بل تحول الوطن إلى أشلاء مبعثرة، وتحولت الدولة إلى رسم على الورق، تجرى انتخاباته بصفة دورية، وتتغير أسماء حكوماته وأحزابه، ولكن من دون ضمان وصول إلى حكومة قادرة بمعنى الكلمة، تملك أمرها وقرارها، وتكون موضعا لتأييد أو لمعارضة، أو للنعت بالديكتاتورية أو الديمقراطية، بل بدت القصة كلها عبثا في عبث، وتكرارا لمحاصصات طائفية قبيحة بليدة، لا تفعل شيئا ملموسا، سوى نهب العراق الفائق الغنى بثرواته البترولية، وسوى تبادل الاتهامات بالفساد والسرقات العامة، حتى أن رئيس الوزراء الحالي عبد المهدي، يشكو هو الآخر من داء النهب، ويقدر ما جرى من سرقة الأموال العامة، بنحو 300 مليار دولار، فيما تصل الأرقام عند آخرين إلى 450 مليار دولار، اختفت كلها بسحر الشياطين المردة، فهي موجودة في كشوف حسابات على الورق، بينما ضاعت من وراء أقفال الخزائن، والأرقام الحقيقية أكبر مما يعلن بمراحل، فلصوص بغداد غاية في النشاط، ويكاد لا يوجد زعيم حزبى متنفذ، لم تصل إلى حساباته الشخصية عشرات المليارات من الدولارات، ولا يكاد ينافسهم سوى زعماء الإدارة الحكومية الكردية، الذين جعلوا جيوبهم ملاذا مختارا لعوائد البترول من المنبع، ومن وراء ستار دخان كثيف، يدعى الديمقراطية، بإلحاح لفظي مثير للسخرية، وكأن الديمقراطية هي ديكتاتورية السرقات.

ضاع العراق كوطن ودولة، ولم يكسب العراقيون حرية ولا ديمقراطية، بل تمزقوا شيعا وطوائف

ويجدر تأمل المثال العراقي بعناية، فهو كاشف فاضح لأوهام كبرى، روج لها البعض بحماس طافح، عن جهالة أحيانا، وعن تواطؤ مؤكد غالبا، ينشرون أوهاما من نوع الاستعانة بغزو الأجانب لإحلال الديمقراطية، وجلب الاحتلال لتحطيم الديكتاتوريات، وقد شهدنا ونشهد تطبيقات دامية، لهذا النوع من التفكير الموبوء، على نحو ما جرى ويجرى في ليبيا وسوريا واليمن، وبزعم عجز الشعوب وحدها عن خلع الديكتاتوريات، وضرورة القبول بالاحتلال كثمن للحرية المنشودة، وكان العراق هو المثال المبكر نسبيا، حيث جرى الترويج المريب لإسقاط صدام حسين بمطارق الاحتلال الأميركي، وهو ما جرى كما تعلم، وذهب وقتل صدام الموصوف بديكتاتورية حزبية عسكرية، لكن العراق لم يعد بعدها أبدا، فقد أمر حاكم الاحتلال بول بريمر بحل الجيش العراقي، الذي كان قائما على أساس مبدأ التجنيد الوطني العام، وكان العمود الفقري لدولة العراق القوية، وكان حل الجيش الوطنى تفكيكا مباشرا للدولة، وانهارت من بعده كل وظائف الدولة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وجرى التلويح بديمقراطية بديلة، رحب بها الملتاثون من كل صنف ولون طائفي، وتقدموا لتقسيم التركة، عبر دورات انتخاب، زعموا نزاهتها، وبنوا امبراطوريات فساد، حملت اسم الأحزاب، وبرايات دينية طائفية صريحة، سرعان ما فاحت منها روائح العفن والفساد، فحاولوا خداع الناس بتغيير الأسماء واستبدال الصور والأقنعة، وإطلاق صفات مدنية على كيانات السرقة باسم الدين، وتخفيف اللحى الشيعية والسنية، ولم يعن ذلك كله شيئا في المحصلة، فإطلاق أسماء من نوع تحالفات «الإصلاح» و»البناء» و»التغيير» و»النصر» و»الحكمة» وغيرها، لم يؤد سوى إلى تأكيد معنى الخراب المستعجل نفسه، والاندفاع من هاوية إلى قاع البؤس، فقد تصاحب مع العصر العراقي الديمقراطي المزعوم، انهيار معنى الوطن، ومبنى الدولة الحامية، واحتلال إيراني تقاسم الأدوار مع الاحتلال الأمريكي، وحكومات كاريكاتيرية، وانتشار مفزع للسلاح والحشود والميليشيات الطائفية، وإضعاف أي مسعى لبناء جيش عراقي وطني، أو إعادة بناء جهاز الدولة، بعد سلاسل تصفيات دموية للكوادر الإدارية والعلمية والفنية، بدعوى اجتثاث حزب البعث الصدامي، وكانت المحصلة كما ترى، فقد تلاشى شعور المواطن العراقي بوجود وطن أو دولة، ولو في الحد الأدنى، وكفر المواطن العراقى بالديمقراطية المدعاة، وهرب ملايين العراقيين لاجئين إلى أربع جهات الدنيا، فيما تحول العراقيون الباقون، إلى لاجئين تائهين داخل حدود وطنهم الافتراضي، وثارت براكين السخط حتى في نفوس الطائفة الشيعية، التي يحكمون باسمها، ويسرقون باسمها أيضا، ويحولون ما كان وطنا، إلى فراغ مفتوح لسيطرة الاحتلالين القريب والبعيد، وإلى مراعي لصوص وميليشيات قتل وتهجير، وتحويل أغلبية العراقيين من كل الطوائف إلى رهائن حرب.
وفي مظاهرات العراقيين الأخيرة، بدا المعنى الكامن جاريا على ألسنة المتظاهرين عفويا، وقالوا ببساطة «نريد وطنا»، ففي غياب الوطن المستقل والدولة الحامية، فلا قيمة ولا جدوى على الإطلاق من تكرار المطالب المعيشية المحقة، لا فرصة لطلب عيش كريم في وطن ضاع، ولا قيمة لأي كلام عن ديمقراطية في غياب الدولة، فالديمقراطية لا تبنى في الفراغ، وفصل قيمة الاستقلال الوطنى عن مطلب الديمقراطية لا يثمر شيئا، سوى التفكيك اللانهائي، وتسييد قانون الغابة البدائية، وتوحش القتل والنهب بلا ضابط ولا رابط، وقد قلت وكتبت مرات، قبل الغزو الأميركي واحتلال العراق، أننا قد نكون بصدد مأساة مروعة مرعبة غير مسبوقة عربيا مع غزو العراق، وأن صدام حسين قد يكون آخر رئيس حقيقي لدولة كان اسمها العراق، وهو ما تحقق للأسف، بالغزو الذي دفعت تكاليفه دول خليجية غنية بفوائضها البترولية، وشاركت بمئات مليارات الدولارات في دعم المجهود الحربي الأميركي، وجعلت من أراضيها وسماواتها ممرا ومعبرا لقوات الغزو، ولم تكن من نتيجة سوى نكبات توالت، بطمس عروبة العراق، ثم ضياع العراق نفسه، وتحويل أغلب العراقيين النشامى إلى أيتام على موائد اللئام.
نعم، ضاع العراق كوطن ودولة، ولم يكسب العراقيون حرية ولا ديمقراطية، بل تمزقوا شيعا وطوائف، وساقتهم الانتخابات الدورية إلى حكم العصابات، لا إلى حكم الشعب، وتحولت الحكومات (المنتخبة ديمقراطيا كما يقال) إلى دمى على مسرح عرائس، وإلى فصول محنة لا تنتهي، وإلى أطلال وذكريات لعراق الشعر والملاحم والثراء والمنعة والقوة، ومن دون بصيص أمل قريب في استعادة زهو بغداد التي كانت يوما قلعة الأسود.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,028,893

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"