أما آن الوقت أن تعم الانتفاضة كل العراق؟

مثنى عبدالله

منذ بداية الشهر الماضي وحتى اليوم، اقتصر زخم الانتفاضة الشبابية، التي فجرها الغضب الجماهيري من الطغمة الفاسدة، على مساحة جغرافية محددة تمتد من بغداد وحتى البصرة في جنوب العراق. بينما ران صمت كبير على محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك والموصل، في حين كانت حصة سكان هذه المناطق من الظلم والإقصاء والتهميش والقتل والتغييب ما لا رأته عين ولا تخيلته ذاكرة بشر.

كذلك هو الصمت نفسه يسود في المحافظات العراقية الشمالية أربيل والسليمانية ودهوك، التي يرزح سكانها تحت حكم الأحزاب العائلية، التي لا تقل فسادا عن مثيلاتها الحاكمة في بغداد. صحيح أن الزخم الطلابي الذي احتشد في الانتفاضة، يمثل مساحة سكانية عراقية متكاملة من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، من دون استثناء، على اعتبار أن الجامعات العراقية هي مجتمع مُصغّر وليست مقتصرة على لون سكاني واحد، بل هي تجمع ابن البصرة وميسان وذي قار وغيرها، مع ابن الأنبار وصلاح الدين والسليمانية. لكن السؤال يبقى قائما، أليس من المنطقي أن يثور سكان المحافظات التي مازالت تنأى بنفسها عن الحدث؟ وهل بعد ست عشرة سنة من عدالة توزيع الظلم مَن يظن أنه في مأمن، أو أنه مستفيد من الوضع القائم؟
جرى حديث بعضه همسا، والآخر علنا في هذا الموضوع. فالبعض يرى أن المحافظات المذكورة، التي لم تثر حتى الآن تعرضت إلى ظلم كبير، وبالتالي بات سكانها إما مُهجّرين في الخيام خارج مناطق سكناهم الأصلية، أو معتقلين في سجون السلطات المعروفة وغير المعروفة، أو أن الخوف يعتري الباقين منهم، لأن تهمة الإرهاب حاضرة كي تلصق بهم في حالة مشاركتهم في الانتفاضة. هذه هي الأسباب المعلنة، التي يتم تداولها في الأوساط السياسية والاجتماعية، في حين أن الحديث الذي يجري في الخفاء، أو على استحياء يختلف تماما عن هذا. بعض الساسة المحسوبين على ما تسمى الاحزاب السُنيّة، ترى بأن الانتفاضة القائمة الآن هي صراع (شيعي ـ شيعي)، وبالتالي فإنهم يُروّجون الى حواضنهم الشعبية بالقول إننا نحكم مناطقنا، وليس من مصلحتنا زج أنفسنا في هذا الصراع. آخرون من التيار نفسه يعزون التخلي عن المشاركة، بأنهم سبق أن انتفضوا ضد السلطات المركزية القائمة في عام 2014، في الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى، لكن المحافظات الجنوبية ومحافظات الفرات الاوسط لم تساندهم آنذاك. وبالتالي فإنهم يكررون الموقف نفسه بفعل معكوس. هنالك تيار ثالث يطلق عليهم سُنّة إيران يحاولون ضبط الإيقاع الجماهيري في هذه المحافظات، ومنع الناس من المشاركة في الانتفاضة، لأن المناصب الحكومية التي يتبوؤنها وصلت إليهم بعد تقديمهم الولاء إلى المرشد الأعلى ووكيله في العراق قاسم سليماني .
كل هذا الكلام والتبريرات والأفعال هي عار على قائليها وفاعليها، وهو هراء غير محسوب النتائج آنيا ومستقبليا على العراق، كشعب وكيان ودولة. كما أنه قبول بواقع غير حقيقي وغير صحي، يُقسّم العراق الى جغرافيات صغيرة تنتمي الى إطار محدد معروف اسمه العراق، وليس انصهارا مجتمعيا قائما منذ قرون. يضاف إلى ذلك أن هذا الفهم يقود إلى معادلة مخزية ومخجلة تحدد العلاقات في المجتمع العراقي وفق الآتي (عندما تكون الحكومة شيعية فإن البلد شيعي، ولا علاقة لبقية الطوائف به، وعندما تكون الحكومة سُنّية فإن البلد سُني ولا علاقة لبقية الطوائف الاخرى به). وبذلك يكون المتحدثون وفق هذا الفهم هم من يكرسون الطائفية والانفصالية والتشرذم المجتمعي، الذي خرجت الانتفاضة الحالية لتغييره وتبديل قواعده المشينة. وهنا يصبح الخروج على هؤلاء واجبا وليس تطوعا. بمعنى أن سكان المحافظات التي مازالت صامتة عليها واجب مضاعف. الواجب الأول هو الانتفاض ضد السلطات المحلية التي تروّج لهذه الرؤى المعطوبة، والتي تحاول حماية مصالحها الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا. والثاني هو الانتفاض ضد السلطات الحاكمة في بغداد، كسلطات مركزية تثقف وفق المنهج المريض نفسه، والتي أذاقتهم شتى صنوف الظلم والاضطهاد .

إن المنظومة المجتمعية في العراق قائمة على أساس مجتمع واحد لبلد واحد، وليس مجتمعات صغيرة متناثرة ضمن إطار واحد. ولأننا كذلك فإن الانسجام المجتمعي حقيقة موجودة على أرض الواقع، على مدى عقود من الزمن. قد يكون الغزو والاحتلال ومراكز التشويش الفكري قد دغدغت غرائز البعض، فأحدثوا خللا في هذه المنظومة هنا وهناك، لدى البعض من هذه الطائفة أو تلك، وفي هذه البقعة المناطقية وغيرها، لكن الانتفاضة الأخيرة أثبتت أننا مازلنا في حالة صحية من الانسجام المجتمعي. بدليل أن لا أحد فيها يرفع شعارات مناطقية أو إثنية أو مذهبية. ولأننا اليوم في ظرف حساس وعصيب، تحكمه قواعد الصراع بين الشعب والسلطات الغاشمة، فإن رفع وتيرة الالتحام الشعبي، والانصهار المجتمعي باتت مطلوبة بدرجات مضاعفة، لأنها تخدم الهدف العام للثورة العراقية، وهو التخلص من الواقع المرير الذي يعانيه الشعب ويمر به الوطن. كما أن المجتمعات التي تسودها هذه الحالة الصحية، تكون فيها عوامل الثورة أكثر نضجا، وأكثر استجابة لمتطلبات المرحلة. على عكس المجتمعات غير المنسجة التي غالبا ما تكون عرضة لإنتاج حروب أهلية .
إن المترددين من الانخراط في الحراكات الجماهيرية دائما ما يكونون عبئا على حالة الثورة. كما أن المنتظرين لمعرفة الى أين ستميل كفة الصراع، هم الذين لديهم مصالحهم الخاصة، أهم من مصالح المجموع، والمُحرّمات عندهم معدومة. أما المتلونون فإنهم من يحاولون ركوب الموجة لحرف الحراك عن أهدافه، ثم إعادة الوضع الى سابق عهده. كل هذه الأصناف موجودة في كل مجتمع وفي كل زمن، وحالة الوعي هي وحدها من تعيق هؤلاء من تحقيق أهدافهم على حساب المجموع، لذلك فإن مزيدا من الوعي في المدن العراقية التي لم تشارك في الانتفاضة لحد الآن، يجب ومطلوب أن يتحقق بأسرع ما يمكن، لان حالة التشرذم المجتمعي تعطي فرصة مراهنة للمتضررين من الانتفاضة، كما أنها تكون فرصة سانحة لوثوب القوى الإقليمية والدولية على ظهور جزء من المجتمع واستغلاله لإجهاض الحراك.
الانتفاضة العراقية الحالية ليست ضد السلطة الغاشمة وحسب، بل هي ضد كل القوى الإقليمية والدولية المشاركة بشكل وبآخر في صناعة المأساة العراقية. فهؤلاء جميعهم ساهموا في جرّ البلد إلى الخلف ووضعه على قائمة الدول الفاشلة والفاسدة. كما حاولوا بث الرعب الطائفي في مجتمعه، إنها مهمة صعبة لأن الجميع قد اصطفوا لإيقاف زحف الوعي الشعبي، لكنها ليست مستحيلة حين نصطف جميعا في كل بقعة من بقاع الوطن، لدحر الطغاة والمحتلين، من أجل هدف واحد هو المصلحة الوطنية العليا .

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,032,704

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"