العراق: الانتقال إلى المرحلة الثانية من الانتفاضة الشعبية

مثنى عبد الله

حسنا فعل شباب الانتفاضة العراقية، حينما أعلنوا الانتقال إلى مرحلة الإضراب الشامل في بداية الأسبوع المنصرم. فقد تبين إصرار الطرف الحكومي على موقفه الرافض لمطاليب الجماهير، ومحاولة اللعب على الاستجابة للحقوق بقرارات وهمية، يعرف القاصي والداني وأصحاب الاختصاص بأنها مجرد حبر على ورق.

بل إن السلوك الحكومي هو نفسه لم يتغير، ولم يصحُ من غيه، وهو يسمع صوت الجماهير الرافضة له في ساحات بغداد وميسان وذي قار والبصرة والمثنى والقادسية وكربلاء والنجف، فما زالت وسائل حواره مع المنتفضين من أبناء هذه المحافظات، التي كان يقول بأنها حواضنه الشعبية، هي الإيغال في دمائهم، من خلال التصدي لثورتهم السلمية بالقوة المسلحة، وبوسائل يُحرّمها القانون الدولي والشرائع الإنسانية والقيم الأخلاقية.
كما أن الزعامات السياسية الممسكة بالسلطة منذ عام 2004 وحتى اليوم مازالت في مواقعها، وتمارس السلوك السياسي نفسه، الذي جرّ الويلات على الشعب العراقي، ودمّر المكانة الإقليمية والدولية والاقتصادية للبلد. ما أوجد حالة من اليقين لدى المتظاهرين بضرورة الانتقال إلى الإضراب الشامل، كوسيلة من وسائل التعبير السلمي في الرفض وإسماع الصوت.
إن السلطات الحاكمة في أي بلد، التي تصر على رفض مطاليب الجماهير، إنما تختار السير في طريق الانتحار السياسي، لأن الشعب هو القوة الوحيدة الفاعلة في حركة التاريخ، لذلك وجدنا الساسة في الدول المتقدمة يتسابقون في الإصغاء لصوت شعوبهم، وغالبا ما كانوا يتنازلون عن مواقعهم السياسية كحالة من جلد الذات، لأنهم لم يستطيعوا الإيفاء بوعودهم لناخبيهم. لكن هذا الرفض غالبا ما يكون مفروضا على الحكومات، حينما تكون مجرد أدوات سياسية بيد حاضنين دوليين وإقليميين. هذا الوصف ينطبق تماما على الرموز السياسية في بغداد. فخلال ستة عشر عاما من الحكم، ارتكبت هذه السلطات شتى أنواع الجرائم السياسية والاقتصادية، ومارست الفساد المالي والإداري والإقصاء والتهميش، ما أدى إلى إدخال البلد في نفق مظلم انعدمت فيه رؤية المستقبل بشكل كامل. لكننا لم نسمع كلاما جديا من قبل القوى الدولية يصف الحالة بشكل منصف. ولم نر عقوبات أحادية أو جماعية تُفرض على الفاسدين وناهبي المال العام، خاصة من قبل الدول التي يحمل بعض الفاسدين جنسياتها، بل على العكس من ذلك كانت هنالك دلائل كبيرة على أرض الواقع، تشاركت فيها الولايات المتحدة وإيران في تهريب الفاسدين والتستر عليهم، ومنحهم الملاذ الآمن على أراضيهما. حدث ذلك مع وزير الكهرباء الأسبق الذي هرّبته الولايات المتحدة إلى أراضيها، ومثله حدث مع محافظ البصرة، الذي هرّبته إيران إلى أراضيها. كما سمح الكثير من الدول الغربية بانتقال الأموال المسروقة لبعض الساسة المتجنسين، واستخدامها في قطاع الاستثمار في تلك الدول. هذه كلها أدلة على أن وجود الطبقة الحاكمة في العراق، إنما يؤدي خدمة لفاعلين دوليين وإقليميين، وهذه الخدمة يقابلها ضمان بقاء السلطة الغاشمة في بغداد .

لذلك رأينا في بداية انطلاق الانتفاضة، إصرارا من زعامات سياسية ودينية، بضرورة استقالة أو إقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، بسبب فشله في تقديم حلول ناجعة لمشاكل البلد، كما قالوا هم بتصريحات تكررت أكثر من مرة، لكننا وجدنا أن هذه المطالبات قد تبخرت بمجرد تدخل الجانب الإيراني، وبعد أن صرح المرشد الأعلى علي خامنئي من أن (أجهزة المخابرات الاميركية والغربية تثير الاضطرابات بدعم مالي من دول رجعية في المنطقة) ولأن الكثير من ساسة العراق يقلدون المرشد الأعلى دينيا، فإن تصريحه هذا هو بمثابة فتوى دينية وسياسية في آن، يتوجب عليهم أتباعها، لذلك خفتت الأصوات التي كانت تطالب بذلك، في حين ارتفعت الأصوات التي تخوّن الشباب المنتفضين، وتصفهم بأنهم مثيرو الشغب وخارجون عن القانون، حتى رئيس الوزراء الذي بدا رد فعله الأول هادئا في أول خطاب بعد الانتفاضة، تخلى عن هدوئه، وبات يهدد ويتوعد بعقوبات قاسية ضد المنتفضين السلميين. من السهولة بمكان تخوين المعارضين السياسيين ونعتهم بشتى الاوصاف، ومن الشائع قيام السلطة بإلصاق التهم بمعارضيها من الأحزاب والاتجاهات السياسية المناوئة، لكن من غير المنطقي ولا المعقول أن يتم تخوين شعب أعطى السلطة فرصة أمدها ستة عشر عاما كي تصلح نفسها ولم تفعل. وكانت تصر على نهج السرقة ونهب الثروات والقتل والاضطهاد والإقصاء والتهميش. لقد ذهبت خلال أكثر من عقد ونصف العقد من السنين، آمال كبيرة لجيل من الشباب مضى، وجيل آخر يتقدم إلى المصير نفسه. فكيف يمكن له أن يصمت وأمام عينيه تجربة سياسية تؤكد بنفسها للجميع يوميا، أنها فاشلة وغير قادرة على الاستجابة لمتطلباتهم؟ كيف يمكن لشباب يتطلعون إلى حياة حرة كريمة، يضعون جهدهم ومؤهلاتهم في خدمة وطن يحفظ كرامتهم، ويرفع من شأنهم، أن يقبلوا بسلطة تنفذ أجندات الغير على حساب مصالحهم ومقام وطنهم؟ كيف يمكن أن يكونوا عبيدا للفاسدين والسراق ناهبي المال العام؟ لذلك فإن الشباب الذين عاهدوا أنفسهم وشعبهم على تخليص وطنهم من هذه الطغمة الفاسدة، لن يحط من قدرهم ولا من عزيمتهم ما يقوله خامنئي وما يفعله قاسم سليماني، ولن تتزحزح إرادتهم عن سلوك طريق الحق قيد أنملة .ولانه هذا هو خيارهم فقد كان قرارهم بالانتقال إلى المرحلة الثانية من الانتفاضة قرارا صائبا. كما رافق هذا الانتقال رفع سقف مطالبهم الذي لخصوه، بأن خروجهم لم يكن من أجل إزاحة هذا السياسي وقدوم آخر، فقد خبروا جيدا أن تداول السلطات لم يأت لهم بالإصلاح، كما هو شائع في المنظومة الديمقراطية ومفهوم الانتخابات، بل وجدوا جليا أن الانتخابات في العراق تعني تدوير السلطات، وفسح المجال لم لمن يُفسد، بالوصول إلى السلطة من أجل ممارسة الفساد. كما أنها تعني المزيد من الوعود الكاذبة والتسويف وتناسل المشاكل في البلاد، لذلك بات قرارهم التصدي البطولي للعملية السياسية كمنظومة سياسية فاسدة، لا يمكن بأي حال من الأحوال المراهنة عليها في إنتاج البديل الصالح، أو التعامل معها بمنطق الترقيع والدفع بالتي هي أحسن. فقد انتظم الكثيرون فيها بهدف الإصلاح من الداخل، فكان مصيرهم إما الانخراط في نهجها اللاوطني، أو الهروب منها بالاستقالة بعدما فشلوا في التصحيح .
إن الانتقال إلى حالة الإضراب الشامل هي خطوة يضمنها المنهج الديمقراطي الحقيقي، كوسيلة من وسائل المطالبة بالحقوق وتغير المناهج السياسية في حالة تعنت السلطات الحاكمة بالإصرار على الإضرار بمصالح الشعب. كما أنها تلقي الضوء على مستوى حالة الوعي الشعبي داخل المجتمع، وأدراكه الواعي لمصالحه المتضادة مع مصالح المنظومة السياسية التي تقوده، ما يتطلب منه التمسك بدوره في صناعة وتقرير مصيره بيده، بعيدا عن المنظومة السياسية التي بات دورها مُعيقا لمسيرته الطبيعية نحو الحياة الحرة الكريمة.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,029,506

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"