سقوط الطائفية خلفيات الحدث الكبير في العراق الجريح

صالح عوض

توطئة أكثر من ضرورية:

الحديث عن العراق لا يشبه الحديث عن أي بلد عربي وإسلامي آخر، ليس فقط لأنه أول من رسم الحرف، وليس لأنه أول من وضع للإنسان قانونا يمشي على هداه في غياهب الحياة، وليس فقط لأنه أول من عرف الناس بلغاتهم عندما جعل الترجمة سلوكا حضاريا.. انه لهذه الأسباب ولسواها يتميز عن الجميع فلم يكن حمورابي هو آخر العراقيين الذين لايزالون يتدفقون من أرحام أمهات ماجدات يثبتون ان للكرامة والكرم والعلم والفلسفة والروحانيات والعزيمة أهلها وفي طليعتهم العراقيون فهنا عبد القادر الجيلاني وإبراهيم بن أدهم والحلاج والجنيد والموصلي وابن حنبل وأبو حنيفة والباقر وجعفر الصادق وصلاح الدين الأيوبي وكل الرائعين الآخرين.. 

وفي العراق المكتبات والترجمات والعلوم بأصنافها.. في العراق تتجلي عبقرية الموقع الجيوسياسي واشتراطات الديمغرافيا المتحولة في المحيط وتفاعلات الذات بأعمق ما فيها للتصدي لكل عدوان خارجي.. ولقد حباه الله قديما وحديثا بكلّ شروط النهضة والحضارة فكان الرافدان عندما كانت الزراعة مجال التنافس، وكان النفط والمحروقات عندما أصبحت مادة الصناعة وعمادها.. فاحتشد في العراق ودفعة واحدة كل ما يجعله متميزا وفي أخطر موقع مفروض عليه أن يحدد بدقة علاقته بإخوته في العقيدة: ترك، وفرس في إطار الأمة الواحدة ولكن بإحساس قوي فيه التيقظ ضد الشعوبية الحاقدة فيدحضها بالحجة وان احتاج الأمر يقلع ناب سمها باقتدار وقوة.. فكان العراق ممتلئا دوما بإحساسه بالمسئولية نحو أهله وأمته يخوض غمار الحروب بلا تردد.. ولأنه العراق الذي لا يستطيع ان يكون ساكنا او مستسلما للواقع فلا تكون كبوته التي تنخلع لها القلوب إلا فاصلة بين قفزتين للعلا والمجد.

إسقاط العراق لإسقاط الأمة:

لقد كان واضحا ان العراق عندما خرج من حربه مع إيران أصبح متيقنا ان دول الخليج دفعت به الى حرب شرسة ضد ايران القصد منها اسقاط الثورة الايرانية واضعاف العراق واستنزافه و هذا ما ترتب عليه اجراءات من العراق تجاه دول الخليج الا انه لم يكن واضحا ان الامريكان هم المعلم الذي يقف خلف الستار يوجه السياسات ويشعل الحروب.. فكان سقوط الحكومة العراقية في أزمة الكويت خطأ كبيرا استراتيجيا فضلا عن الاذى الذي لحق الشعب الكويتي ولقد كان بالإمكان عدم التورط في تلك الفعلة الصادمة لولا ان حكام العراق تلقوا ما يشبه التطمينات من الامريكان لغزو الكويت فكان الذي كان حيث بدأ مسلسل الاعداد لاحتلال العراق وتدميره بغطاء عربي رسمي وبحشد كل قوى الاقليمية وزرع قنابل تفجير موقوتة في نسيجه الاجتماعي وتدمير قوته العلمية وتكسير جيشه وإلحاق طابور العملاء لسدة الحكم يعيثون في كل شيء فسادا اخلاقيا وسياسيا وامنيا دينيا.

وبمجرد ما تم الاحتلال الامريكي للعراق بدأ التخطيط حسب ما تم تسريبه او الاعلان عنه في البنتاغون والمؤسسات الامريكية لتفسيخ سورية وتشتيتها وتوزيع المملكة السعودية على عدة اقاليم.. ولكن الخطوة اصابها العطب والتأخير بسبب المقاومة العراقية الاسطورية التي انبعثت في الانبار والفلوجة والموصل وتوسعت لتشمل كل العراق فكانت التكلفة الرهيبة للاحتلال قد سجلت ارقاما قياسية حسب الإحصاءات والتقارير الامريكية وبلغت التكلفة النفسية للجنود الذين عادوا أحياء باهظة كما كانت الخسائر في المعدات اشارة خطر امام الموازنة الامريكية بواقع 4 تريليون دولار خسائر فيا لحرب بالإضافة الى عشرات لاف القتلى والجرحى.

أجلت المقاومة العراقية تنفيذ الخطة الاقليمية لمنطقة المشرق العربي سنوات عدة ومع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قام الرئيس الامريكي بإنفاذ الخطة متسللا في نسيج الربيع العربي محولا لكل اندفاعه نحو تدمير ذاتي في المجتمعات العربية فلحق سورية منه ما لحق واصبح هذا البلد الامن ممزقا مدمى مشتت الابناء ومضطرا الى الاستنجاد بكل الناس عله يخرج من محنة التقسيم. وتم توريط المملكة السعودية في الازمة اليمنية وتم دفعها الى نقطة اللاعودة.. صمدت سورية أكثر مما كان متوقعا ولكنها خسرت خسارات كبيرة واصابها الجرح في مواضع خطرة ستحتاج عقود من الزمن لتتعافى اما المملكة السعودية فلقد بدأت التصدعات في هيبتها وقوتها بعد ان وضعوها في موقف حرج للغاية تستباح ارضها واموالها في اول مرة بمثل هذا الاستخفاف بها.. ولقد القى تدخل المملكة في الشأن اليمني ظلاله الثقيلة على الموازنة السعودية التي اجهدت في الانفاق على حرب تتوسع ومن غير المعروف لحظة توقفها.. حيث يواصل الأمريكان الابتزاز واثارة المخاوف امام المملكة الامر الذي يدفع الى مزيد من الانفاق العسكري والدفع للحكومة الامريكية للتغطية السياسية.

الانتفاضة العراقية:

عمل الامريكان على خطف الانتصار العظيم الذي حققته المقاومة العراقية ووضعوه بيد مجموعة العملاء من خلال عملية الانتخابات والمحاصصات الطائفية والعرقية.. ثم صنع الاعلام فكرة داعش والارهاب من خلال افلام هوليودية وممارسات مقصودة. كانت وصفة الارهاب وداعش اهم وصفة لإغراق المنطقة في حمام دم وكانت الوصفة المناسبة لتمكن مجموعة السياسيين العراقيين الجدد الذين وجدوا ضرورة الحشد لتصفية الوطنية العراقية بإثارة النعرات الطائفية و لم يغب عن بال أي متابع ان المقصود كان تشطيب قوة المقاومة العراقية.

واستمرت السنون ثقيلة على العراقيين حيث تم تدمير مدنهم التاريخية وقتل علمائهم وتشريد الملايين منهم ونهبت ثروات العراق بإشراف امريكي واستفحل وجود القاعدة العسكرية الامريكية وأمعن الفقر وسوء الادارة في حياة العراقيين وأصبح البلد ساحة صراع بين نفوذ اقليمي ودولي دفع العراقيون اثمانه البالغة.

فهب ابناء البلد أكثر من مرة ضد واقع متراكب بين الطائفية وسوء الادارة والنهب والارتهان لسياسات خارجية وقدموا شهداء ومصابين ومعتقلين في اسوا الظروف حيث يلاقي المعتقلون ظروفا حسب منظمات حقوق الانسان هي الاكثر بشاعة في المنطقة.. فكانت هبات العراقيين تحمل كل معاني التحرر من القيود الطائفية واستبداد الطائفية السياسية وتدخلات الاخرين في الشأن العراقي والفساد بكل عناوينه وجاءت هذه الهبة الاخيرة بزخم مميز.

فبعد ان دمر الطائفيون مدن السنة بحجة ملاحقة الدواعش الذين تبخروا ولم يتم اعتقال الا القليل النادر ولم يتم قتل الا العدد القليل جدا في حين تم تدمير كل مدن السنة في العراق وعلى راسها الموصل المدينة التاريخية واهم مدن العراق.. ظن الطائفيون المرتبطون بالأجنبي ان الامر انتهى الى الاستقرار وفي لحظات تاريخية فارقة هب العراقيون العرب الشيعة في المدن والارياف بثورتهم المنتشرة في كل الجنوب العراقي.. انطلقوا يدينون الطائفية والفساد والارتباط بالأجنبي فكانت كالنار في الهشيم وواجه الحكام واجهزتهم الامنية الشعب بالرصاص والسجون وحظر التجول واربكتهم المفاجأة وبعد تفكير اطلقوا عليهم تهم الانتماء لحزب البعث او انهم عملاء لقوى اجنبية.

الذي حدث مهم على صعيد اعادة الاعتبار للوطنية العراقية التي حاول السياسيون الجدد تبديدها على شعارات طائفية وعرقية.. ومن غير المتوقع ان يستطيع هؤلاء الحكام اخماد الثورة التي وحدت الشعب وحددت اهدافها.. وبعودة العراق تبدأ ردات الفعل الحضارية ليكون المستقبل مشرقا على امة دفعت من اجل حريتها وكرامتها تضحيات جسيمة

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,620,204

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"