تعرفت خلال فترة عملي الطويلة في طوكيو على العديد من الشخصيات السياسية العراقية والعربية التي مرت بتلك العاصمة، وكان سفيري حينئذ كما أسلفت المرحوم الدكتور رشيد الرفاعي.
كانت العلاقات التجارية بين العراق واليابان قد شهدت بعض التراجع بسبب الحرب العراقية الإيرانية، ولكن سرعان ما وضعت تلك الحرب أوزارها سنة 1988 لتبدأ تلك العلاقات بالعودة إلى سابق عهدها بشكل تدريجي، إذ راحت الشركات اليابانية تتقرب ثانية من العراق.
وقد حدث أن زار طوكيو في أواخر الثمانينات وزير الاعلام العراقي السابق الاستاذ سعد قاسم حمودي (يرحمه الله)، وكان يتولى في حينه مسؤولية مكتب العلاقات الخارجية في قيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي.
بطبيعة الحال، كانت الشركات اليابانية تعرف تماما أهمية هذا الضيف العراقي وتاريخه السياسي الحافل، ولذلك حاولت التقرب منه والتودد إليه. وفي هذا الاطار، أقام أحد كبار السياسيين اليابانيين بصحبة إحدى الشركات اليابانية التي تربطها علاقات وطيدة بحزبه المتنفذ في اليابان مأدبة عشاء على شرفه حضرها السفير. وكان موقف السفارة في حينه أن لا مانع من التقرب من تلك الشركة في ضوء تمتعها بعلاقة متينة بحزب تربطه بالعراق علاقات سياسية طيبة.
وكان قد تقرر أن يغادر الاستاذ حمودي صبيحة اليوم التالي عائدا إلى بغداد، حيث كنت قد اتفقت معه أن أصحبه إلى المطار في حدود الساعة العاشرة صباحا.
غير أني تلقيت في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم مكالمة هاتفية من الاستاذ حمودي، واعتقد أن الوقت كان قبل السابعة صباحا، وبدا غاضبا وقال لي أنه يرجوني أن آتي إلى الفندق فورا. شعرت بقلق كبير، وسألته هل أنت بخير. قال لي أنا بخير ولكني أريدك أن تأتي على الفور.
وبالفعل، ما هي إلا نصف ساعة وكنت معه في الفندق وأنا أحاول في طريقي إليه أن أخمِّن نوع المشكلة التي تواجهه.
رأيته واقفا عند مدخل الفندق وهو يرتعد غضباً، وقال لي: أتعرف أني لم اتمكن من النوم ليلة أمس، ولم اتناول الفطور ولن اتناول الفطور في هذا الفندق السيء- علما أن الفندق كان واحدا من أفضل فنادق الدرجة الأولى في طوكيو!!
وأردف قائلا بغضب: لم أشأ أن اوقظ السفير أو أن اوقظك في وقت متأخر من ليلة أمس لكي أخبركما بما جرى.
قلت له ما الخبر يا أستاذ لقد أقلقتني؟
قال: بعد انتهاء الدعوة ليلة أمس وعودتي إلى الفندق، اتصل بي موظف الاستقبال في الفندق ليخبرني بأن هناك مغلفاً معنوناً باسمي وأنه سيجلبه لي.
أضاف، أنه بعد أن تسلَّم المغلف اكتشف أنه يحتوي على عقد لؤلؤ ومعه بطاقة باسم رئيس الشركة الذي كان قد دعاه في الليلة ذاتها لتناول العشاء مع كلمات تتضمن عبارات مجاملة.
قال، إنه أعاد المغلف إلى موظف الاستقبال مباشرة واشعر إدارة الفندق أنه يرفض تسلم المغلف.
وطلب مني أن أكرر بوجوده استياءه من هذا التصرف وأن أبلغ المسؤولين في الفندق بلغة شديدة بأن تصرفهم كان غير مهذب وكان عليهم ألاّ يتسلموا هذه الهدية أساساً.
شعرت أنه، مع حالة الغضب تلك التي كانت تنتابه، لن يكون من المناسب أن اشرح له بأن الفندق غير مسؤول عن هذا الفعل وفضَّلت السكوت.
كان الاستاذ سعد منفعلاً بشكل كبير ورجوته أن يخفف من غضبه وقلت له: سأنقل إليهم كل ما تريد ولكن أرجو أن تهدّئ من روعك.
استعدنا المغلف ثانية من موظف الاستقبال بعد أن شرحت له أسباب الغضب التي كانت بادية على وجه ضيفي.
بعد ذلك، طلب مني الاستاذ حمودي أن أبلغ السفير بكل ما جرى على أن يتم ابلاغ رئيس الشركة المذكورة، بأن (يغسل يديه)، على حد تعبيره، من إمكانية حصوله على أي عقد تجاري مع العراق.
بدا واضحاً بأن الاستاذ حمودي لم يعد يحتمل البقاء لمدة أطول في طوكيو أو في ذلك الفندق الجميل، وقرر ايضاً ألا يتناول فطوره هناك.
توجهنا سوية بسيارتي إلى مطار ناريتا الذي يبعد نحو 80 كم عن العاصمة اليابانية حيث وصلنا هناك قبل موعد اقلاع الطائرة بوقت طويل وتناولنا الفطور سوية هناك.
لقد اعتبر الاستاذ سعد قاسم حمودي تصرف رئيس الشركة اليابانية لا يمثل مجرد إساءة شخصية له بل إساءة لا تغتفر للعراق.
ودَّعته، وعدت إلى السفارة، وكنت أعرف أن سفيري لا يقل نقاءً ونزاهةً وحزماً عن الاستاذ حمودي، حيث بعث لرئيس الشركة الياباني برسالة شديدة اللهجة وبَّخه فيها على تصرفه غير اللائق وأعاد له معها عقد اللؤلؤ المشؤوم.
هذا نموذج من الرجال الذين ساهموا في بناء العراق ورفع شأنه وجعلوا العالم ينظر إلى العراقيين بكل احترام.
يرحم الله الاستاذ سعد قاسم حمودي ويرحم الله ذلك الجيل العظيم الذي لا اعتقد أنه سيتكرر.