شهدت الأسابيع الأخيرة، ومع استمرار الانتفاضة في العراق، عودة عدد من وجوه «العملية السياسية» الأصليين، الذين دخلوا البلد مع الاحتلال، للظهور في الفضائيات الإخبارية، بعد انقطاع.
من بين الوجوه البارزة أياد علاوي، أول رئيس وزراء عيّنه حاكم الاحتلال بول بريمر، والذي تم ارتكاب مجازر الفلوجة وتهديم مدينة المقاومة في ظل حكومته. في مقابلاته التلفزيونية الطويلة، هذه الأيام، يؤكد علاوي وقوفه إلى جانب المنتفضين وحرصه عليهم مستغربا قبول ابن عمه محمد علاوي، الذي يحبه كثيراً وهو إنسان طيب ونزيه، حسب تعبيره، منصب رئيس وزراء الحكومة الانتقالية. وفي مقابلة بعد أخرى يُقسم أياد علاوي بشرفه بأنه سيقف أمام المحاكم الدولية ليدلي بشهادته ضد الحكومة الحالية وأن لديه ملفات خطيرة سيقدمها في المحاكم ليفضحها. هل هي صحوة ضمير من أياد علاوي؟ وإذا كان جاداً بقسمه لماذا لا ينشر هذه الملفات والوثائق أو لم لا يقدمها الآن الى أية جهة قانونية دولية كخطوة أولى لوقف اغتيالات المحتجين السلميين، ولإظهار الحقيقة وكشف الوجه القميء البشع لحكومة المليشيات الفاسدة التي لا تتورع عن قتل أي شخص يعارضها، وربما لكسب ثقة أبناء الشعب وانه فعلاً سيقدم على فعل شيء بعيداً عن الظهور الإعلامي وتكرار ذات التصريحات الشعبوية؟ في المقابل، وبينما تواصل الحكومة العراقية استهداف المنتفضين بأكثر الوسائل وحشية اختطافاً وتعذيباً وقتلاً، الذين تجاوزت أعداد الضحايا المئات والجرحى والمقعدين والمعتقلين عشرات الآلاف وعدم تقديم أي من المسؤولين عن الجرائم الموثقة بالشهود والفيديوهات الى القضاء، تقوم منظمة محلية تدعى « الغد» بعمل حقيقي يمس حياة الناس فعلاً، وبلا تصريحات هوائية، إذ تستعد حاليا، لمقاضاة الحكومة الهولندية ومطالبتها بتعويضات لأنها تسببت بقتل 70 شخصا على الأقل، بينهم 22 امرأة و26 طفلا، في 2 حزيران 2015، في غارة جوية ألقت فيها طائرات أف 16 الهولندية، القنابل على مدينة الحويجة، الواقعة جنوب غرب كركوك. من بين المتضررين، امرأة قتل وجرح افراد عائلتها المكونة من 35 شخصا. هناك أيضا ضحايا أمراض من بينها السرطان والاصابة بالجنون، جراء المواد الكيمياوية المتصاعدة من القنبلة، والتي أثبت الإعلام الهولندي أن طائرة هولندية أسقطتها كجزء من عملية التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الإرهابي (داعش). ولأن الحكومة العراقية لم تتخذ أي خطوة لمساعدة الضحايا، ولأن ساستها منشغلون بالنهب والصراعات واتهام وابتزاز بعضهم البعض، ولا أمل في ان يطالبوا، يوماً، أية جهة معتدية بدفع التعويضات للضحايا، أخذت المنظمة على عاتقها إعداد ملف يشمل حتى الآن قضايا 50 ضحية.
تكمن صعوبة إعداد الملف، وهي صعوبة يلاقيها كل من يفكر برفع قضية ضد أي حكومة، في التوثيق الدقيق لئلا يتم التشكيك بمصداقية القضايا وبالتالي خسارتها، كما حدث في قضية العراقيين الذين قامت القوات البريطانية بتعذيبهم، بين عامي 2003 و2004. وانتهت القضية، بعد سنوات، بالخسارة حيث نجح الادعاء العام البريطاني بتفنيد الأدلة وإثارة الشكوك حولها. ويشكل التأخر في تقديم القضايا صعوبة في الحصول على الأدلة، كما أن عدم تسجيل الحوادث والجرائم في حينها بشكل قانوني صحيح يزيد من تعقيدها، إلا أن هذه العوائق كلها لم تمنع المنظمة من تقديم الملفات وتكليف محام بتبني القضية. العائق الأهم هو تحديد من هو المسؤول قانونيا وكيفية التعامل معه، خاصة إذا كانت الجهة المسؤولة حكومة أجنبية وليست شخصا أو جهة فاعلة داخل البلد. فأثناء مناقشة القضية في البرلمان الهولندي، في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أصرت وزيرة الدفاع آنك بيليفيلد على أن العراق مسؤول عن معالجة الأضرار الناجمة عن التحالف الدولي المناهض لداعش، لأن الحكومة العراقية هي التي دعت قوات التحالف للدفاع عنها. وهي نقطة مهمة جداً من ناحية تفادي المسؤولية القانونية والذي إذا ما تم تقبلها ستفتح أبواب التعويضات ضد كل دول التحالف التي سببت مقتل آلاف الضحايا من المدنيين، جراء قصفها لعديد المدن العراقية، وسقوط الضحايا تحت ما سمّته « أخطاء ثانوية». تفاديا لذلك، وعدت الوزيرة الهولندية، بأنها ستتخذ قراراً في وقت قريب بشأن ما إذا كان سيتم فتح صندوق مساعدات خاصة لضحايا انفجار الحويجة «كبادرة حسن نية». وعادت بعد ذلك للتصريح بأنه وفقاً لقوات التحالف، فإن جميع الأعضاء يتحملون المسؤولية نفسها عن الإصابات الناجمة عن العمليات. فما هو عدد « الإصابات» التي تتحدث عنها الوزيرة؟ ليست هناك أرقام دقيقة. فحسب قوات التحالف في 26 أيلول/ سبتمبر أنها أجرت 34573 غارة جوية بين أغسطس/آب 2014 وأغسطس 2019، وأن ما لا يقل عن 1335 مدنياً قد قُتلوا من دون قصد في سوريا والعراق. بينما تؤكد منظمة « الحروب الجوية» الراصدة لأعداد الضحايا تراوح العدد بين 8214 و13125 من غير المقاتلين من المرجح أن يكونوا قد قتلوا نتيجة لأعمال التحالف خلال نفس الفترة. وبالنسبة الى التعويضات، ترفض الحكومة البريطانية الاعتراف بوجود ضحايا مدعية بأنه لم يصب أي مدنيين في أكثر من 1300 غارة جوية تابعة للقوات الجوية الملكية في العراق، بينما تخلت الإدارة الأمريكية حتى عن نظام تسديد مدفوعات «التعازي» التقديرية الذي كانت تدفعه سابقاً في أفغانستان والعراق، مبينة في تقرير وزارة الدفاع السنوي عن الخسائر المدنية: «… في الحالات التي تطلب فيها دولة مضيفة أو حكومة دعماً عسكرياً أمريكياً للقوات العسكرية المحلية، قد يكون من الأنسب أن تستجيب الدولة المضيفة أو جيشها للاحتياجات وطلبات السكان المدنيين المحليين من خلال تقديم التعازي بنفسها». ان مواجهة إنكار الجرائم المرتكبة ضد الضحايا المدنيين من قبل حكومات تتطلب وجود حكومة وطنية تؤمن بحقوق مواطنيها وأولها حق الحياة، أما مواجهة إنكار الجرائم ضد المواطنين من قبل حكومتهم، كما يحدث الآن في العراق، فيتطلب مواصلة النضال ضد هذه الحكومة من قبل كل أبناء الشعب، وأن تستمر صرخة المنتفضين: كفى استهانة بعقول الناس، فتغيير الأقنعة لا يعني تغيير الوجوه.