شهد المجتمع العربي في القرن العشرين، ظهور العديد من التيارات الفكرية، القومية منها والأممية، بشقّيها الشيوعي والإسلامي، وحينما نشأت "حركة البعث العربي" لم تكن في المضمار وحدها، بل نافستها حركات قومية أخرى، كانت أقدم منها تأسيساً وبالتالي أكثر رسوخاً، فبماذا تميّز "البعث" حتى صار كل حديث عن القومية العربية والوحدة والأمة مرتبطاً به بالضرورة؟!
لعل أهم ما يميز "البعث" هو ذلك الانتماء العضوي الحقيقي للأمة، فهو لم ينشأ تبعاً لحوارات جرت في صالونات سياسية مغلقة ولا أحاديث كتبت على صفحات الجرائد أو قيلت في مناسبات اجتماعية عامة وذهبت أدراج الرياح، بل كان نتاج فهمٍ عميقٍ لواقع الأمة سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، ونتاج فهمٍ عميقٍ لمعاني ومكانة الدين، والإسلام تحديداً، في حياة الأمة كأمة، لا في حياة أفرادها فقط. لقد أنتج الفهم العميق لواقع الأمة، كما قرأه الرفيق القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق، يرحمه الله تعالى، منطق "البعث" الجدلي العلمي التاريخي الذي لم يكن منطقاً مجرداً ولا مثالياً، بل واقعياً حياً متفاعلاً مع الحياة بكل سلبياتها وإيجابياتها، لذا كان منطق النظرية البعثية يعبر تماماً عن "ظفر الحياة على الموت". ولأن "البعث" استخدم في منطقه أسلوباً علمياً لا خيالياً طوباوياً فقد أدرك مواقع قوة الأمة الكامنة فعمل على جلائها وإظهارها براقة للفرد العربي، ورأى مواقع الخلل فيها، وفي أفرادها، فشخّصها على نحو ممتاز وعالجها بما لا يدع مجالاً لفكرٍ آخرٍ لأن يعبث بها ويستغل مواضع الخلل تلك لينفذ منها فيعيق نهضتها ويمنع انبعاثها. ولأنه فكر علمي وعملي لم يقدم "البعث" نظرية حبيسة أغلفة الكتب فحسب، بل قدّم نظرية قابلة للحياة، لأنها مستمدة منها، معبرة عنها، فاعلة فيها، لذا رأيناه يربط على نحو عضوي، لا جدلي، بين الأهداف الثلاثة، فلن تتحقق وحدة الأمة بلا حرية أقطارها وحرية أفرادها، ولا وحدة للأمة ولا حرية لأبنائها وأقطارها دون عدالة اجتماعية، أسماها اشتراكية، لكنها الاشتراكية الماركسية بل اشتراكية الطريق الخاص المنسجم مع الأمة العربية وقيمها ودينها وتاريخها. و "البعث" هو أول حزب آمن بالوحدة العربية فكراً وعملاً، وجعل تنظيمه على أساس عربي شامل لأنه آمن، منذ البداية، أن "كل نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية لا تنطلق من حقيقة "وحدة الأمة العربية" تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة"، وبذلك لا وجود لــ "بعث" عراقي وآخر سوري أو سوداني أو لبناني، أو غير ذلك، بل هو "بعث" عربي واحد يؤمن بـ "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" دون أن يُنكر خصوصيات كل قطرٍ فيها ومشاغل مواطني كل قطرٍ فيها. ثم إن "البعث" يفهم الوحدة العربية باعتبارها "تخلق العرب خلقاً جديدا" وليس على شاكلة "الجامعة العربية التي تجمع العجز إلى العجز، والأحقاد والأطماع والمصالح الخاصة بعضها إلى بعض". ومع أنه كانت ثمة أحزاب وقوى وشخصيات عربية قد نادت، قبل "البعث" وبعده بالوحدة والحرية والاشتراكية، إلا أن "البعث" ربط تحقيق كل ذلك بالوحدة، ولأنه رأى أن إمكانيات الأمة ليست مجموعاً عددياً لإمكانيات أجزائها في حالة الانفصال فحسب، بل هي في حالة "الوحدة" أكثر في الكم وأغنى في النوع، فقد أدرك أن فهم "الحرية" و "الاشتراكية" وتحقيقهما في حالة التجزئة (وفي عقلية التجزئة) يختلف كلياً عن فهمهما وتحقيقهما في إطار الوحدة فهو أيضاً "فرق في النوع لا في الكم". وفكرة "الرسالة" في "البعث" ليست فكرة خيالية هائمة ولا مفهوماً فلسفياً مجرداً، إنها الدور الحضاري للأمة، وهو بالضرورة دور انساني يتعدى الحدود الجغرافية للوطن العربي فيحدث تأثيراً عميقاً في الأمم الأخرى، ومن هنا اقترن شعار "البعث" (أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) بالوحدة فهو يقرنها بالرسالة. فلا رسالة مشروعة وجدية للأمة الا على نطاق الوحدة. وهذا الفهم العميق لرسالة الأمة العربية أدركته، بشكل تام، القوى المعادية لها، وهي في عدائها للعرب تنطلق من عميق إدراكها لمعاني رسالة أمتهم المستندة إلى تراث حضاري ودين شامل وقيم أخلاقية عالية، لذا نرى أن كل محاولات ضرب الأمة العربية إنما تعمل على ضرب تراثها وحضارتها وتاريخها ودينها وقيمها السامية، وبهذا المعنى يكون صراع أعداء الأمة، صهاينة وفرساً وغربيين استعماريين، وامتداداتهم، مع الأمة صراعاً شاملاً، ويكون تصدي الأمة لهؤلاء الأعداء، جميعاً، تصدياً شاملاً ومهمة رسالية لا يقدر عليها إلا المناضلون الرساليون. وفي رؤية مستقبلية عميقة وثاقبة أدرك "البعث" قبل 70 سنة أن وحدة الأمة ليست عملاً آلياً يحدث من تلقاء نفسه نتيجة لظروف الأمة وتطورها، "فالظروف لا تخدمها، والتطور قد يسير معاكساً لها نحوِ تبلورٍ كاذبٍ للتجزئة" وهو بالضبط ما يحدث اليوم من تنامي الدعوات القطرية الانعزالية، بل تصاعد ضجيج الدعوات التفتيتية الطائفية والعرقية، ومن هنا جعل "البعث الوحدة "فاعلية وخلقاً ومغالبة للتيار، وسباقاً مع الزمن، أي إنها تفكير انقلابي وعمل نضالي". ولأن "البعث" ليس فكراً خيالياً طوباوياً، كما قلنا، فقد أدرك أنه في ظل التشوّه العميق الحاصل في شخصية الأمة، وأفرادها، على مدى قرون، يتوجّب الانطلاق في مسيرة الوحدة على مراحل، فهي ليست قراراً رسمياً يتخذه حكام أقطار عربية وينفذونه فوراً، فقد فشلت كل التجارب الوحدوية التي لم تكن مستندة إلى هذا فهمٍ عميقٍ أصيلٍ لمعاني الوحدة بل كانت وبالاً على الأمة وعلى فكرة "الوحدة" بحد ذاتها. وتبعاً لذلك فقد أدرك "البعث" أن أوضاع الأمة في جميع أقطارها، وفي كل نواحي حياتها السياسية والاجتماعية والفكرية تستدعي إعادة نظر شاملة وبداية جديدة، تكون بمثابة عملية إنقاذ مصيرية، ومن هنا فقد بدأ منذ العام 1986 يبشّر بمشروعٍ قوميٍ للعمل المستقبلي، ورأى في ذلك المشروع الصيغة الوحيدة القادرة على إنقاذ الأمة وتمكينها من تجاوز حالة الضعف والتردي التي نشهدها، وبداية العمل الجدي والفعال لتحقيق تضامن عربي حقيقي يطرح مشكلات الأمة كوحدة لا تتجزأ، وينظر إلى وزن الأمة في مواجهة هذه المشكلات. ومع أن القائد المؤسس كان (قبل إسلامه) منتمياً لدين آخر، غير الدين السائد بين أبناء الأمة العربية، وهو الإسلام، إلا إنه اكتشف ليس حقيقة الايمان ودوره في حياة الفرد والمجتمع فحسب، فالإيمان حقيقة يتشارك بها جميع أتباع الديانات السماوية، بل إنه اكتشف حقيقة الإسلام، كدين، ودوره في نهضة الأمة وفي صيرورتها أمة بعد أن كانت قبائل العرب في شبه الجزيرة متنافسة بل متناحرة لا يعرف لها إسهام حضاري في مسيرة البشرية، وقد شكّل هذا الفهم العميق لحقيقة "الإسلام" أهم مميزات "البعث" في مرحلة لم تكن الأحزاب والجمعيات والشخصيات القومية تجرؤ على فهم حقيقته، وإذا فهمتها لم تجرؤ على إعلانها، بل المؤكد انها لم تعالجها في أدبياتها حتى في المراحل اللاحقة. ولو نظرنا إلى فهم المرحوم عفلق العميق للإسلام (وقد كان مسيحياً حينها) نجد إنه يتفوق بمراحل وأشواط متقدمة جداً على كل الطروحات التي كان مفكرون (مسلمون) يتحدثون بها، فكيف به وقد انتمى إليه؟! تعمّق، عزيزي القارئ، بقول الأستاذ عفلق "بدافع الحب للأمة العربية أحببنا الإسلام، منذ السن اليافعة، وبعد أن اقتربنا أكثر من فهم الإسلام، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للاسلام، وفي كون الأمة العربية هي أمة الإسلام". وأنا، اليوم، أجزم القول بإنه لو فهمت الأمة العربية، بكل تياراتها الفكرية وتنظيماتها الحزبية، حقيقتها على هذا النحو، ولو انها فهمت حقيقة موقف "البعث" من "الإسلام" كما هو فعلاً لحدث تغير هائل في مسارها. ما نراه هنا هو الفهم الحضاري الثوري للاسلام المتعلق بوجود الأمة وبهويتها، وليس الفهم الطقوسي له، فلقد رأى القائد المؤسس ملايين المسلمين يؤدون فرائض الدين ولكنهم بلا فاعلية، غثاءٌ كغثاء السيل، رأى فيهم تابعون لدينٍ ورثوه وليس أبناء دينٍ ارتقوا اليه، ومن هنا التقط فكر "البعث" جوهر الإسلام في الوحدة والتحرر وفي العدالة الاجتماعية وفي الثورة على الباطل وفي محاربة الظلم وفي تحفيز الكامن من الطاقات في النفس البشرية، وصولاً إلى تحقيق "الشخصية العربية الإسلامية التي تستلهم ثورة الإسلام وروحه ورسالته الحضارية" وهي الشخصية التي تحقق ذلك الانسجام، الواجب أن يكون، بين الانسان العربي في هذا الزمن وبين حقيقة كون الأمة أمة رسالة وأنها، برسالتها لا بعنصريتها، أصبحت خير أمة أخرجت للناس، فلا معنى لخيرية الأمة إن لم تحقق قيم العدالة والحق والخير والجمال (تأمرون بالمعروف) ولا معنى لخيريتها إن لم تردع الباطل وتثور على الظلم وتنقلب على الفساد والانحراف (وتنهون عن المنكر) ولا معنى لخيريتها إن لم تكن مؤمنة حقا (وتؤمنون بالله). ولم يغفل المرحوم المؤسس دور النموذج القائد في تمثيل هذه المعاني، فجعل من حياته مرآة لها، ولو نظرنا إلى مسار حياته وسلوكه الفردي وعلاقاته الرفاقية نراه يجسّد في محطات حياته كلها معاني خيرية الأمة ومعاني ارتباط الفكر بالواقع ومعاني الوحدة والحرية والاشتراكية. و "البعث" هو أول تنظيم عربي يتجاوز ثنائية القطرية والقومية، فهو يتحرر من ضيق القطرية إلى الفضاء القومي الأرحب، وهو أول تنظيم عربي يتجاوز ثنائية الإيمان والإلحاد، فيعبر عن موقف حاسم لا تردد فيه عن إيمانه، وهو أول تنظيم عربي يتجاوز ثنائية المسلم/ والمسيحي، فيجمع كل من انتمى إليه في بوتقة واحدة تنتمي إلى "الإسلام" باعتباره دين الأمة، وإن انتمى بعض أفرادها لدين آخر. والأهم في هذا كله، أعني تجاوز الثنائيات، أن "البعث" لم يؤمن بذلك على المستوى الفكري فحسب، بل إنه حلّق بالوحدة الفكرية في هذه المقوّمات إلى ميادين تطبيقها تنظيمياً وسلوكياً، وهذه ميزة لم يتميز بها إلا "البعث" ولا أعرف أن فكراً بشرياً آخر استطاع أن يحققها على صعد الفكر والتنظيم والسلوك في آن معاً، ولا أظنّ أنه هناك من يستطيع ذلك سواه. لقد تجاوز "البعث" كل أحاديث الاتجاهات الفكرية الأخرى عن العروبة والإسلام بفهمٍ لا أعمق منه ولا أرقى، وتقدّم على كل التنظيمات السائدة في الأمة، بإدراكه أن "العروبة جسد روحه الإسلام" وبإدراكه أن "الإسلام ليس ديناً فحسب، بل هوية حضارية انسانية جامعة" وهكذا حسم الفكر البعثي الأمر، مبكراً وباختياره وليس اضطراراً، حسمه في وحدة عضوية، لا جدلية، وجعل من "الإسلام" هوية كل العرب، مسلمين ومسيحيين، وهو بذلك "دين الأمة/ دين الجميع"، وزاد فجعل من "مهمة الدفاع عن الإسلام" مهمة البعثي على وجه التحديد، لا بل أنه أكد أنه سيأتي "يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعون الوحيدون عن الإسلام" لأن دفاعهم عن "الإسلام" مهمة دفاعٍ عن هوية بل عن وجود، ومن هنا أكد "البعث"، وليس غيره، على ضرورة "أن تكتشف الطوائف العربية غير المسلمة أن الإسلام هو ثقافتها، وحضارتها وأثمن شيء في عروبتها" بل أوجب على تلك الطوائف أن "تُباهي به حضارات الأمم الأخرى". واليوم وفي ظل الهجمات الشنعاء على الفكر القومي، كثيراً ما يهاجم أعداؤنا "البعث" باعتباره حزباً علمانياً، وتكرار هذه المقولة، مع التشويه المتعمّد الحاصل لفكر "البعث" ولعلمانيته، له قصد خبيث وهو الربط بين فكر "البعث" والفكر العلماني الغربي المجرد من كل القيم الروحية، الفكر الرافض للإيمان والذي لا ينكر الإلحاد، وفي أحسن الأحوال هي الرؤية التي يتساوى فيها الإيمان والإلحاد، وهذا كما قلنا مقصد خبيث ينبغي العمل على فضحه دوما. الصحيح أن علمانية "البعث" هي فقط علمانية الدولة التي يقودها الحزب المتمثلة في النظر إلى كل المواطنين باعتبارهم سواسية أمام القانون وأمام فرص الحياة. نأمل أن نكون بعد هذه الرحلة الفكرية قد أجبنا على سؤال البداية: بماذا تميز "البعث" حتى صار كلَّ حديث عن القومية العربية والوحدة والأمة مرتبطاً به بالضرورة؟! وأجدني في ختام هذه السياحة الفكرية معنياً بالقول، لنفسي ولمن يقرأ: إنني اليوم بعد نحوٍ من أربعة عقود من الانتماء إلى هذه المدرسة العظيمة، فكراً وحزباً، أجد نفسي أقرب إلى روح البدايات، روح "عهد البطولة"، روح أولئك "الذين يُجاهِرون بأفكارهم ولو وقف ضدّهم أهل الأرض جميعا، روح أولئك المتسلّحين بالشجاعة والصبر والثبات والصلابة" على طريق ذات الشوكة، طريق الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة.