"البروفيسور"

زيد الفضيل

حتماً فإن كثيرين قد شاهدوا وتابعوا حلقات المسلسل الإسباني الشهير «البروفيسور La casa de papel» الذي يبث حاليا على إحدى الشبكات الشهيرة لأفلام السينما والدراما التلفزيونية، ويقينا فقد أصبح أبطاله نجوما يُحتذى بأيقوناتهم، خاصة بين فئة الشباب وهم المعنيون بمقالي هذا.

دعونا نتعرف ابتداء على فكرة الفيلم المعلن عنه رسميا في الموقع، والذي ينص وفق ما هو مكتوب على «اتخاذ ثمانية لصوص بعض الرهائن ويحبسون أنفسهم في (دار السكّ الملكيّة) في إسبانيا، فيما يتلاعب أحد العقول الإجرامية بالشرطة لتنفيذ مخططه».
هكذا جرى التعريف حرفيا للفيلم، ولعمري فتلك مصيبة كبرى، إذ حين يجري التسويق لمجموعة لصوص وتبييض سيرتهم ليتعاطف المشاهد معهم، فتلك هي الكارثة بعينها، وليس تأثير القضية كما يتصور البعض قاصرا على مسلسل وترفيه، وبالتالي فليس من المنطق تكبير الأشياء وإخراجها من سياقها وفق رأيهم. أعتذر لكل أولئك الذين ينظرون بسطحية مبالغ فيها للأشياء، ولا يدركون أن التسويق بات علما قائما بذاته، وأنه يستهدف الإعلان والترفيه منهجا له لتحقيق غاياته. وحتما فالشق كبير، ويحتاج إلى تضافر مختلف الجهود وطنيا ودوليا لمواجهة هكذا غزو دقيق يستهدف منظومة القيم الحاكمة للمجتمع أيا كان لونه وعرقه ودينه، ويعمل على غسل واغتيال الفطرة الإنسانية السليمة.
على أن كارثة المسلسل لا تقف عند تزييف الواقع، وتحويل الوطني المدافع عن أمنه وقوت مجتمعه إلى شخصية بغيضة، في مقابل تبييض صفحة الحرامي وجعله بطلا يتعاطف معه الناس، بالرغم من أنانيته المفرطة، وإمعانه في إسعاد نفسه وتلبية نهم رغباته وشهواته، دون أن يفكر في تحقيق العدالة المجتمعية للناس الذين يتعاطفون معه وفق معطيات المسلسل، بل تعدى ذلك إلى تمرير سلوك أخلاقي مشين وهو «الشذوذ الجنسي» التي حرمها الله في كل الديانات، وجرمتها كل الشرائع الأخلاقية، ومع ذلك يجري تقديمها بصورة محببة وكأنها فعل أخلاقي صحيح، أليس في ذلك كارثة عظمى؟
في جانب آخر، وبالرغم من كل تلك المثالب، إلا أن المسلسل قد حقق نسبة كبيرة من المشاهدة على مستوى العالم، بل وصار الناس متشوقين إلى معرفة تفاصيله، وهو ما يدعو حقا إلى إمعان التفكير والتأمل، لمعرفة سر هذا الإعجاب والشعبية الكبيرة، فالحال ليس محصوراً في قارة واحدة بناسها وألوانها ولغاتها، بل هو ممتد على صعيد كل القارات.
كان ذلك مثار تأملي، ولا سيما أني مهتم بدراسة الذهنيات ومعرفة قواعد وعيها وتفكيرها، وأتصور أني قد وصلت إلى جوهر ذلك السر المكنون الذي كنت أبحث عنه وأرتجيه، إذ وخلال مشاهدتي بالأمس للفيلم الوثائقي حول المسلسل على الموقع نفسه، وضعت يدي على ذلك السر الدفين، الكامن في أغنيته الشهيرة «بيلا تشاو بيلا تشاو» المعروفة عربيا بعنوان «وداعا أيتها الجميلة».
وحقا أقول: فإن في جملتها الموسيقية ولحنها وتقاسيم كلماتها لما هو من السحر العجيب، الذي يشد النفس والوجدان للتناغم معها والسكون إليها، بالرغم من عدم معرفتنا لمعاني كلماتها.
أشير إلى أن كاتب المسلسل وفي سرده لحيثيات عمله، أبان كيفية استثارة هذه الأغنية القديمة له ليجعلها أيقونة لمسلسله، ولا أظن أنه قد توقع أن يكون لتلك الأنشودة وقعها السحري على الناس.
جدير بالذكر أن أغنية «بيلا تشاو» وهي من الفلكلور الإيطالي قد أنشدها المقاومون الإيطاليون خلال مناهضتهم للفاشية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث تقول كلماتها:
وداعا أيتها الجميلة، وداعا، وداعا، صباح يوم ما أفقت من النوم، ورأيت وطني محتلا؛ يا رفيقة، احمليني بعيدا، لأنني سأموت، وإن مت كمقاوم فعليك دفني، وداعا أيتها الجميلة، وداعا، وداعا.
وهكذا تستمر القصيدة في كلماتها التأبينية لذلك البطل المقاوم الذي آثر أن يُستشهد حراً كريماً مدافعاً عن وطنه، وليس مجرماً سارقاً لمقدرات وطنه ومجتمعه كما أوحى به المسلسل.
أشير إلى أن السينما قد قدمت لنا أيقونات مناضلة ترفع من لواء الفضيلة وإن كانت تعارض السلطة، كشخصية «روبن هود» في الثقافة الغربية، وشخصية «زورو» في الثقافة اللاتينية، لكن أن تقدم لنا شخصية بغايات وأهداف باطلة، وتحت لقب علمي محترم، بسمات شخصية جذابة، فهو المحتوي والحنون والهادئ والذكي وفي الوقت نفسه هو البسيط بهيبة، لتميت من خلاله ورفاقه وعي المتابعين بحقيقة المفاهيم، فتصبح الرذيلة أمرا مستساغا، ويتحول المجرم إلى أيقونة خير ورمز للبطولة، فذلك أخطر ما سنواجهه في بقية قرننا هذا إن لم نعمد إلى رفضه وتغييره.
بقي أن أقول وبكل مرارة: لقد سرق القائمون على هذا المسلسل روح تلك الأنشودة الخالدة، ليتدثّروا بها، ويخفوا تحت أفئدة منشديها ما يروّجون له من رذيلة ويقدمونه من مفاهيم مختلة، المستفيد منها فقط هو الشيطان ولا غير، فهل نحن واعون؟ ورمضان كريم.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,027,799

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"