المطلوب اجتثاث ثقافة الحقد والانتقام والثأر

سعد ناجي جواد

قبل أيام صادق مجلس الوزراء العراقي على القانون الجديد للمساءلة والعدالة، الذي أريد منه أن يكون بديلا للقانون القديم، الذي أصدره سيئ الصيت بول بريمر الحاكم ال أميركي للعراق بعد الاحتلال، بعنوان اجتثات البعث.

 

وعلى الرغم من مرور 12 عاما على إصدار هذا القانون، ومن غياب حزب البعث عن الحكم، نتيجة للاحتلال ال أميركي البغيض، فإن حكام العراق لا يزالون مصرين على المضي قدما في تطبيق هذا القانون، الذي نتج عنه تصفية وإقصاء شريحة كبيرة من المجتمع العراقي، وأجبر كما هائلا من الكفاءات العراقية إلى الهجرة أو العيش بدون أي حقوق مالية أو تقاعدية.

من يقرأ القانون الجديد بتجرد يجده أسوأ من القانون القديم، حيث شمل كل من انتسب إلى حزب البعث ومهما كانت درجته، عضوا فما فوق، بل ذهب أحد أقطاب الحكم الحالي في العراق إلى المطالبة باجتثاث حتى أبناء وأحفاد البعثيين، مدعيا ان أفكار حزب البعث متأصلة في تكوينهم، أو في جيناتهم، حسب قوله.

هذه الأفكار لا يمكن إلا أن تجذِّر أفكار الانتقام والحقد والكراهية التي عانى منها المجتمع العراقي طيلة الاثني عشر عاما الماضية.. وبدلا من أن تطوى صفحة الماضي أصرت الحكومة العراقية على اصدار هذا القانون واحالته إلى مجلس النواب كي يصادق عليه.

إن قراءة متأنية لهذا القانون تظهر أن مشرّعيه، الذين أدَّعوا أنه، مع قانون الحرس الوطني الذي يوازيه في السوء، جاء استجابة لطلب أطراف المكون العراقي الآخر، من أجل إعادة الوحدة الوطنية، إلا أن النتائج ستكون، إذا ما تم إقرار القانونين، وخيمة على العراق وعلى الوحدة الوطنية.

ابتداءً، وكما ذكر سابقا فإن القانون شمل كل من انتسب لحزب البعث، لا كما كان القانون السابق، الذي ركز على قيادات الحزب. هذا من ناحية، أما من الناحية الثانية، فإن مشرّعي القانون الجديد لم يضعوا له سقفا زمنيا للانتهاء من تطبيقه، أي أن تطبيقه قد يستمر الى عقد مقبل آخر من الزمن.

الشيء الوحيد الذي ذكر عن انتهاء صلاحيته هو طريقتين: الأولى أن تصرِّح اللجنة المكلفة بتطبيقه بأنها أنهت كل الإجراءات المتعلقة بالاجتثاث وتطلب حل نفسها. وإذا ما علمنا أن رئيس اللجنة سيكون بدرجة وزير ونائبه بدرجة وكيل وزير وكلاهما، بالإضافة إلى ذلك، يتمتعان بامتيازات كبيرة أخرى يمكن لنا ان نتصور كم سيكونان حريصين على الاستمرار في عملهما أطول مدة ممكنة! أما الطريقة الثانية فهي أن يصوِّت البرلمان على إنهاء عمل اللجنة. وإذا ما علمنا أن غالبية أعضاء مجلس النواب هم من (التحالف) الذي أصرَّ على إصدار واستمرار تطبيق هذا القانون، فلنا أن نتصور كم سيكونون حريصين على إنهاء هذه الحقبة!

وهنا لا أريد أن أناقش مضمون القانون أو غيره من القوانين التي ما زالت تصدر والعراق يمر بهذه الظروف العصيبة، التي تستوجب توحيد ورص الصفوف لمجابهة العدو المتخلف والدموي، الذي يتربصهم ويسيطر على جزء كبير من الأراضي العراقية، ويهدد المتبقي منها.

إن اصدار مثل هذه القوانين لا يمكن تفسيره إلا بأنه استمرار لنشر ثقافة الكراهية والحقد والانتقام والثأر. فبعد تطبيق هذا القانون لمدة 12 سنة تم خلالها إقصاء وتهميش وتصفية عدد كبير من العراقيين الأكفاء، الذين خدموا العراق لعقود طويلة، لازال من يحكم العراق يفكر بطريقة تفكيره نفسها عندما كان في المنافي.

يكفي أن نذكر أنه بمجرد ما أصدر بول بريمر الصيغة الأولى لهذا القانون تم (اجتثاث) ما يقارب الثلاثة آلاف قاض ومدع عام، والعدد نفسه تقريبا من أساتذة الجامعات والمهندسين والعلماء العراقيين. كما تم اغتيال أكثر من 450 أكاديميا، واضطر أكثر من ستة أضعاف هذا العدد من الأكاديميين والأطباء والمهندسين الى الهجرة.

وإذا أضفنا لهذا العدد أكثر من مليون ونصف المليون منتسب للقوات المسلحة بكافة صنوفها، الذين حرمت أعداد كبيرة منهم حتى من رواتبهم التقاعدية، ومن اغتيل منهم، خاصة الطيارين العسكريين، بدعوى انتمائهم الى حزب البعث، يمكننا أن نتصور مقدار الضرر الذي ألحقه هذا القرار وقرار حل الجيش العراقي على الدولة العراقية.

كما يمكننا أن نفهم لماذا اضطر قسم غير قليل من المجتثين والمهمشين الى الالتحاق بتنظيم «داعش» الإرهابي!

إن من يريد أن يبني دولة جديدة وينشر ثقافة جديدة، كما تزعم ديباجة القانون الجديد، لا يمكن أن يستمر في أعتماد أساليب الإقصاء لأي شريحة من شرائح المجتمع، والأكثر من ذلك فإنه يجب ألا تستمرهذه السياسة والثقافة لعقود مقبلة أخرى من الزمن.

إن النظام الذي يفشل في دمج مكونات المجتمع الذي يحكمه، أو يفشل في كسب الغالبية العظمى منه او يعتقد بأن ادامة الحقد وحب الانتقام والتحريض على الكراهية يمكن أن يبقيه في الحكم، نظام فاشل وآيل للسقوط إن لم يكن عاجلا فآجلا. وإن النظام الذي يدعي الديمقراطية ويعتقد أن الديمقراطية تعني أن يقصي من يختلف معه كي يفوز مرشحيه (بديمقراطية) نظامٌ لا يعي من مفاهيم الديمقراطية شيئا.

عندما هزمت النازية في ألمانيا لم يلجأ الحكام الالمان الجدد الى تصفية كل من انتسب الى الحزب النازي، ولم يتعد عدد من حوكم من قادة النازية المئة والخمسين شخصاً. نعم تم منع الحزب النازي من العمل السياسي، ولكن النظام الجديد استطاع أن يستوعب جميع النازيين القدامى، وجعل منهم أفرادا نافعين ومنتجين للدولة. وبعد أن تم توحيد الألمانيتين لم يتردد الألمان في انتخاب سيدة من المانيا الشرقية الشيوعية التي اسقطوها ولم يجعلوا الشيوعية التي رفضوها عائقا امام انتخابها. وعندما تسلم نيلسون مانديلا الحكم في جنوب أفريقيا لم يضع ما قاساه في سجون جنوب أفريقيا العنصرية لمدة 28 سنة متصلة، لم يسمح له فيها بالخروج او الهجرة او الحصول على جنسية أخرى، أساسا لتعامله مع خصومه، ولم يحاول أن يصفيهم أو حتى يروِّج للكراهية ضدهم. وما عمله هو نشر روح التسامح والقبول بالآخر ونجح في بناء دولة يشار لها بالبنان، ليس في أفريقيا وحدها وإنما في العالم.

إن مشرِّعي ومؤيدي هذا القانون يدّعون بأنه قانون يشمل كل تشكيل وكيان وحزب سياسي ينتهج أو يتبنى العنصرية أو الارهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، وفي قمة الدولة العراقية ومجلس النواب اليوم أحزاب وشخصيات تبنوا ويتبنون هذ النهج، فهل سيعمد القانون الجديد إلى تجريمهم واجتثاثهم؟ أم أن القانون سيبقى مكرَّسا ضد تنظيم واحد هو أصلا ممنوع بموجب الدستور من ممارسة نشاطه، وبصورة اعتباطية ضد كل من يشعر الحاكم بأنه يمثل تهديدا لحكمه، كما حدث في السابق!

وللتاريخ والحقيقة يجب أن نعترف بأن العراق وعلى مدى ثمانية عقود سابقة لم يعرف سوى سياسة الانتقام والتصفيات الجسدية، التي انتهجتها الأنظمة المتعاقبة ومعارضوها. ابتداء من العهد الملكي عندما تمت تصفية وزير الدفاع العراقي الأول بعد انقلاب عام 1936 ثم تبعه تصفية قادة ثورة 1941 وتعليق جثثهم على بوابة وزارة الدفاع، وشملت هذه القسوة حتى الذين القي القبض عليهم بعد اكثر من سنة من فشل الحركة، ثم تم إعدام قادة الحزب الشيوعي عام 1949 في ساحة عامة بدعوى أنهم يحملون أفكارا هدامة. وازداد الوضع سوءا ووحشية بعد ثورة 14 تموز 1958 التي صاحبها قتل أفراد العائلة المالكة وحتى النساء منهم بطريقة لا إنسانية، وامتد الأمر كي يشمل استباحة مدن كبيرة مثل الموصل وكركوك بدعوى أن ابنائها معادين لثورة تموز/ يوليو. وعندما نجح حزب البعث في الوصول الى السلطة عام 1963 نهج أسلوب القتل والتصفيات الجسدية الجماعية البشعة لأعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي. وتكرر الأمر ولسنين أطول بعد عام 1968 وشمل حتى البعثيين الذين اختلفوا مع بعض قادة حزبهم الحاكم. وامتد الأمر ليشمل المعارضين ومن اتهموا بكونهم غير عراقيين ومن أصول إيرانية حتى إن مضى على عيشهم في العراق عقودا طويلة. وعندما حلَّت كارثة اجتياح الكويت وما نتج عنها من حرب مدمرة على العراق، ارتكبت الجماعات المعارضة لحكم البعث الأساليب الوحشية نفسها في القتل والتصفية، وردَّت السلطة بقسوة. ولم تسلم كردستان العراق من هذه الروح الانتقامية بين الأحزاب والعشائر الكردية المتنفذة والمتناحرة، التي وصلت روح العداء في ما بينها عام 1994 الى حد الاقتتال الدامي في المدن والمناطق السكنية، والتي لم يتمكن ابناؤها حتى من دفن قتلاهم في المدافن، بل أضطروا أن يدفنوها داخل منازلهم.

وأخيرا فإن السؤال الذي يثار هو:

متى يعي ابناء العراق أن القتل والتهميش والكراهية لا فائدة منها؟! ومتى يصل حزب أو قائد الى حكم العراق يشيع روح المحبة والتآخي والقبول بالآخر؟! ومتى يصل الى الحكم من يتعض بما جرى ويعتمد أسلوب عفى الله عما سلف، ويتعالى على أي روح انتقامية؟! وكم من عقد من العقود المقبلة يجب أن تضيع في قتل بعضنا البعض الآخر؟!

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,624,687

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"