8/8/1988، لماذا انتهت الحرب العراقية -الإيرانية؟!

فائز السعدون

كل الحروب تنتهي في يوم من الايام، فما الغرابة إن انتهت حرب إيران على العراق، حتى لو اراد لها خميني ألاّ تنتهي بغير سيناريو واحد: سقوط نظام البعث وصدام حسين بوجه خاص؟! وهذا لم يتحقق، بل حصل عكسه ممثلاً على المستوى الشعبي في صورة صدام كبطل وطني شاب تملؤه العزيمة وهو يتصدى لكابوس مزعج كان يؤرق غالبية من العراقيين ممثلاً في تهديد فارسي تاريخي طالما عبث بأمنهم وحرماتهم ومقدساتهم، حتى أجبر مرةً أهل الموصل على أكل لحوم الكلاب والقطط جراء فرض الحصار على مدينتهم دون وازع من دين أو ضمير.

عندما اندلعت الحرب في شهر أيلول (مهما كان تاريخ يوم اندلاعها) من عام 1980 كان لها وجهان.
باعتبارها حرباً فإن لها أبعاداً استراتيجية، وفِي هذا الاطار كانت صراعاً لا هوادة فيه بين رؤيتين عقائديتين، في مفترق طريق، بين خيار القومية العربية الذي يتطلع الى بناء الحاضر مروراً إلى المستقبل لاستعادة أمجاد الماضي يمثله العراق، ويقف في الطرف الآخر حلم فارسي تاريخي، هو مزيج من تطلعات دينية متخلفة تغلّف طموحات للهيمنة الإقليمية هدفها المشرق العربي والضفة الغربية للخليج العربي، بعدما أعاد الشاه توجيه البوصلة باتجاه الجنوب والشرق نحو حوض المحيط الهندي وجواره الآسيوي شرقي ايران. في إطار ذلك فإن إيران الجمهورية المصدّرة للثورة الاسلامية وفق الاتجاه القديم للبوصلة تكون هي البادئة بالحرب؛ لعلها لم تتخذ الخيار العسكري مباشرة، ولكنها كانت تجرب خيارات أخرى مثل التحريض الطائفي وزعزعة الاستقرار في دول جوارها ودفع الموالين لها من خلائف الجاليات الإيرانية التي استوطنت تلك الدول، ومنها العراق، للذهاب إلى خيارات عنفية انتحارية على أمل إسقاط الأنظمة القائمة أو حتى الذهاب باتجاه حروب أهلية طائفية، وكانت نقطة البدء هي العراق لأسباب جيوپوليتيكية معروفة، وكونه البلد الوحيد في الجوار الإيراني الذي يعتمد على قواه الذاتية دفاعاً عن نفسه وخياراته.
على المستوى العملياتي في الوجه الآخر للحرب فقد كانت بالنسبة للعراق خياراً استباقياً لمضطرٍ وهو في غمرة انشغاله بعملية تنموية شاملة كرّس لها موارد هائلة تجعل قيادته مؤهلة لحيازة رصيد في شارعها ذي الغالبية العربية لعقود طويلة كانت ستأتي، مما يجعل خيار الحرب لحل مشاكله أبعد احتمالاً بمسافة بعيدة، لكن تجربة التنمية والنهوض والمستقبل باتت كلها تحت تهديد مباشر.
لقد لخّص أحد أهم مؤرخي تلك الحرب وهو البروفيسور إفرايم كارش الموقف على النحو التالي "بالرغم من أن العراق هو الذي لجأ إلى القوة المسلحة فإن اندلاع الحرب واستمرارها لثمان سنوات دامية هي مسؤولية ايران الثورية"- كنتيجة لمشروع تصدير الثورة.
لقد مرّت الحرب بصفحات عديدة، كانت صفحتها الأولى هي الضربة الجوية والبرية الوقائية العراقية يوم 22 من أيلول 1980، وانتهت بسيطرة العراق على شريط حدودي على طول خط الجبهة داخل العمق الإيراني، ولكن العملية استنزفت كامل قوة الجيش العراقي وتوقف هذا الجيش على حافات أهداف استراتيجية مثل حقول نفط مسجد سليمان وعقدة المواصلات الرئيسية في ديزفول لعدم كفاية القوات، واكتفى بإمساك محاور تقدم محتملة لقوات العدو، الأمر الذي من شأنه بعد هذا الزمن الطويل أن يشكل رداً على تلك الأصوات غير المسؤولة التي اعتبرت لقاء الرئيس صدام حسين بأول وزير خارجية للجمهورية الثورية، إبراهيم يزدي، وما أبداه الوزير من حسن نوايا تجاه العراق دليلاً على أن صدام حسين كان قد عزم تحت إغراء غربي- اميركي وخليجي مهاجمة الثورة.
هذه الرؤية السطحية لا تستطيع أن تجيب على سؤال بسيط: هل كان يزدي يمثل السلطة الإيرانية الجديدة، وإلى أي حد؟!
لقد عرفت الرجل والتقيته شخصياً في طهران وكان يبدي ذات مشاعر الود تجاه العراق، وتقديري إنه كان صادق النوايا، ولكن قيادته لم تكن كذلك، وكنا في الخارجية آنذاك، كما كان مجتمع الاستخبارات العراقي بوجه عام، نتوقع نهاية كل التحالفات التي قامت بعد الثورة بسبب حدة الصراعات بين مكوناتها، وإن تصميم الغرب هو دفع (الإسلام السياسي) في مواجهة خصمين لدودين للولايات المتحدة ومشاريعها الاقليمية: القومية العربية وحليفها السوفيتي، وقد فهم السوفيت ذلك فذهبوا إلى أفغانستان لإنشاء منطقة عازلة أمام "الثورة الاسلامية" ، فيما كانت قيادة العراق تبذل جهدها لتجنب الصدام مع إيران الجديدة التي أعلنت بدون مواربة أن هدفها الثاني بعد طهران هو بغداد، ولأنه يضيق المجال لتفاصيل إضافية فقد كان خيار الحرب الاستباقية ، على كراهته وعدم اكتمال الكفاية من متطلباته، هو الخيار الوحيد لتجنيب العراق غزواً في مستقبل ليس بالبعيد، أو حرباً أهلية ينساق باتجاهها من أعمت قلوبهم العقائد الطائفية المريضة وحلفاءهم من بقية فصائل (الاسلام السياسي السني)، ونُذر ذلك كانت لا تخطؤها البصيرة.
دخل العراق الحرب وتعداد فرقه العسكرية يقل عن 15 فرقة قسم منها لم يكن مكتمل التجهيز أو التدريب الكافي.
قد لا يدرك البعض أن فترة الحرب لم تكن فترات دفاع وهجوم وعمليات عسكرية فحسب بالنسبة للعراق، بل كانت فترة بناء لقواته المسلحة، وخلالها شهدنا مولد فيلق الحرس الجمهوري وعشرات الفرق في الجيش، وهذه هي الصفحة الرئيسية الثانية والتي امتدت منذ عودة الجيش إلى الحدود الدولية عام 1982 وحتى أواخر عام 1986 حيث حلّت في تلك الفترة قلاّبة قدر اسمها "معركة الحصاد الأكبر" ، وكانت تلك معركة قد آذنت ميلاد آخر مراحل الحرب والرجحان النهائي لقوة العراق العسكرية وإيصال ايران إلى فترة من العجز سوف تتجلى في ظاهرة تفكك قواتها العسكرية بين نيسان 1988 وحتى آب من ذات السنة، تم خلالها تحرير ألفاو بعد سنتين من الاحتلال الايراني، حتى لم يتبق أمام العسكرية العراقية قوة إيرانية ذات بال تحول بينه وبين تحقيق أي هدف.
فِي تلك المرحلة ولدت فكرة إعلان تحرير عربستان بعد اجتياح الجنوب الإيراني، وقد أُعدّت الخطط لذلك لولا بدء حملة كبيرة من الضغوط التي مارستها أطراف عديدة من بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والسعودية والأمم المتحدة، فلم يعد بوسع العراق سوى القبول بوقف إطلاق النار في الموعد الذي اختارته الأمم المتحدة وهو الثامن من اب 1988، بعد فترة من المماطلة كسباً لوقت احتاجه الجيش لإتمام تحرير عربستان بدأها العراق برفض القبول الإيراني لوقف إطلاق النار إذعاناً للقرار 598 إلا أن يكون صادراً من خميني صراحة، الذي كان يرفض ذلك الا بعد إسقاط صدام حسين، وكان للعراق ذلك، وتليت علناً رسالة من خميني بذلك.
ثم لجأ الوفد العراقي برئاسة المرحوم طارق عزيز إلى اشتراط مفاوضات مباشرة تجري في مقر الأمم المتحدة بين العراق وإيران دون وساطة الأمين العام إلا باعتباره شاهداً أممياً لغرض إقرار موعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ ومناقشة مايترتب عن ذلك، وكانت القيادة العراقية تعرف حساسية الجانب الإيراني من اسم طارق عزيز المسيحي، كل ذلك كسباً للوقت لأن المعارك كانت ما تزال تجري رغم خفة وطأتها بسبب انعدام المقاومة من الطرف الإيراني.
لقد رصد الأميركيون ذلك، وكان آخر ما يرغبون به رؤية خروج العراق منتصراً بإعلان نهاية الحرب وهو يحتل أجزاء واسعة من جنوب إيران، فقاموا بإرسال تقدير موقف إلى الأمين العام خافير بيريز ديكويلار تضمن، وفقاً للأمين العام المساعد المكلف بملف القرار 598 جياندو مونيكو پيكو، انه وصل إلى علم القيادة الإيرانية أن بلادهم تخسر الحرب، وأن العراق يتهيأ لاحتلال جزء كبير من البلاد، وسيتوغل الجيش العراقي إلى مسافة مئات الكيلومترات داخل ايران.
كما قدّر الأميركيون أن إيران لن تتعافى من الخسائر التي لحقت بها منذ نهاية عام 1986 لسنوات لاحقة، كما كان العراق يحقق انتصاراً في حرب ناقلات النفط وتفوقاً في حرب الصواريخ التي تستهدف المدن التي بدأتها إيران وتورطت فيها، اضافة إلى المعارك البرية التي أعقبت تحرير الفاو في قواطع الشلامچة وحقول مجنون ودهلران، وتحقيق العراق تفوقاً مذهلاً في حرب الدروع وأصبح يتفوق بنسبة عشرة إلى واحد في هذا السلاح الحاسم (لم يذكر الأمين العام المساعد التفوق الساحق والنهائي لسلاح الجو العراقي بعد مغادرة حوالى 100 خبير إسرائيلي إيران عام 1987 إثر تيقّن قيادتهم أن إيران قد خسرت الحرب وما تبقى هو قضية وقت).. الخ من مظاهر خسارة حرب مثل تفكك وحدات عسكرية إيرانية وانحلالها في قواطع الجبهة المختلفة الذي وصل حد ترك الدبابات والمدرعات دون إطفاء محركاتها، وكانت تقديرات الإسرائيليين- بضمنهم حاييم هيرتزوغ رئيس الكيان الصهيوني- أن استمرار الحرب بدأ يعزز من قوة العراق ويعمل على صعود الروح الوطنية بشكل ملحوظ ويزجّ في دائرة العمل طاقات كانت معطلة مثل النساء، والأخطر في كل ذلك هو تعاظم مهارات القيادة العراقية على مختلف المستويات في إدارة اقتصاد وشؤون بلد وهو في غمرة صراع دامٍ دون اختناقات تذكر، فضلاً عن إنتاج الحرب جيلاً من أكثر القادة والضباط في المؤسسة العسكرية كفاءة على المستوى الدولي.
في ذات الإطار فقد وضع العراق في موقف حرج عندما أعلنت مستويات سعودية عليا أنها ستتوقف عن دعم العراق مالياً وأنه لابد من إيقاف الحرب، وهذا يعني الكثير بالنسبة للعراق.
والحقيقة انه لم تعد لدى العراق مبررات للاستمرار بالحرب بعد أن أذعنت إيران لطلباته حول كيفية إخراج المراحل الأخيرة وصولاً إلى وقف إطلاق النار في الثامن من شهر آب عام 1988، وقد آن الأوان لاستئناف عملية التنمية التي أوقفت منذ عام 1982 بسبب أعباء الحرب وهو أمر سيفتح باب مواجهة جديدة أطرافها أشقاء!

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,048,799

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"