كان افضل تكريم لأرواح شهدائنا في ليبيا، هو الامتناع عن أي تحليل او كلام في السياسة، على الاقل في الايام الاولى، فلقد كانت لحظات للصدمة والذهول والصمت والاستيعاب والترحم والحزن والغضب.
لم ارَ في حياتي جريمة ابشع ولا احطّ من جريمة هؤلاء المجرمين المتوحشين الذين ذبحوا اهالينا في ليبيا.
ان هؤلاء الذين ارتكبوا هذه المذبحة، لا يمكن أن يكونوا ثوارا أو ليبيين أو عربا أو مسلمين أو آدميين.
من يقتل الناس فهو مجرم، ومن يقتل أهلنا فهو عدو مجرم، ومن يقتلهم لدينهم فهو عدو مجرم طائفي وصهيوني. ومن يبرر القتل بأي ذريعة فهو شريك في الجريمة، ومن يخفف من وحشيتها فهو عنصري، ومن يوظف الحدث سياسيا فهو انتهازي أو منافق.
لماذا تقتل الناس؟
ولماذا تقتل المصريين؟
ولماذا الاقباط؟
ولماذا تقتلهم وهم عمال مدنيون جاؤوا الى ليبيا وراء الرزق ولقمة العيش؟
ولم يأتوا معتدين أو مقاتلين أو طامعين
وليسوا جزءا من اي طائفة ليبية تقاتلونها في صراعكم على السلطة والنفوذ
وليسوا جزءا من نظام ليبي تعادونه ويعاديكم
او من النظام المصري الذى تكرهونه
وليسوا عملاء للأمريكان والغرب واسرائيل
انهم مواطنون عرب فقراء عاديون، عاندتهم ظروفهم في اقطارهم ، فسافروا بحثا عن القوت.
ولماذا تقتلهم وهم رهائن لديكم، لا حول لهم ولا قوة؟
ولماذا تقتلهم وهم عُزَّل مكبَّلون
ولماذا تقتلهم ذبحاً؟
ولماذا تقتلهم على الهواء امام الكاميرات؟
وما كل هذا الهراء في بياناتكم قبل وبعد المجزرة؟
لستم سوى جماعة بربرية صهيونية مجرمة، ولو كان عمر المختار حيا، لبصق عليكم.
***
كان هذا هو رد الفعل الفطري الطبيعي المتوقع في أي مجتمع سوي، ولكن في حالتنا فانه، وللاسف، لم يستمر الحزن على شهدائنا في ليبيا سوى بضعة ساعات قليلة، قبل ان تجرفنا صراعاتنا واستقطاباتنا الداخلية الى قضايا وملفات اخرى بعيدا عن مأساة الجريمة والضحايا والأهالي :
1) الاستقطاب والتوظيف السياسي:
حاول اعلام النظام توظيف المذبحة للانتصار للرواية الرسمية الكلاسيكية، بأن الاسلاميين كلهم ارهابيين واشرار، لا فرق في ذلك بين داعش والاخوان. للدفاع عن شرعيته أمام المجتمع الدولي. وان الدولة في خطر، وان على الجميع ان يدعمها ويدعم السيسي وأن يقف وراءه بلا تحفظ او تعقيب. وان اى معارضة له هى خيانة وتهديد للأمن القومي. مع الاشادة بالضربة الجوية المصرية وكأنها نصر أكتوبر جديد، مما ذكرنا بأسطورة الضربة الجوية الاولى لحسني مبارك.
أما رافضو النظام ومعارضوه، فسرعان ما ركزوا على دور النظام في هذه الجريمة، من اول افقار الناس ودفعهم للهجرة بحثا عن الرزق، وتعريض حياتهم للخطر بانحيازته السياسية عموما، وفي ليبيا على وجه الخصوص، وفي تجاهله واهماله الحفاظ على حياة الضحايا منذ علم باختطافهم، وفي التذرع بالجريمة لدعم حلفائه في ليبيا وفي قتله لعدد من المدنيين في غارته الجوية، والتحذير من خطورة الثأر الارهابي المحتمل، على حياة وسلامة باقى العمالة المصرية هناك. ناهيك عن التحذير الدائم من أن استبداد الأنظمة العربية هو الصانع الحقيقى للارهاب في المنطقة.
وتحت وطأة تبارى الجميع في التوظيف السياسي الفوري للمذبحة، توقف الحديث تماما عن الشهداء.
***
2) الظلم:
أما اهالي شهداء الاعتصامات والمظاهرات في مصر، فتساءلوا في عتاب وحزن، لماذا لم ينَل قتل المتظاهرين في رابعة ونهضة وسيارة ترحيلات ابو زعبل، ذات الاهتمام والغضب والتركيز الذي نالته جريمة قتل اقباط المنيا في ليبيا؟ ولماذا تفرقون بين القتلة والقتلى في مصر وبين امثالهم في ليبيا؟
***
3) الشك:
ذهب البعض الى ان الفيديو مزيف، وان ما شاهدناه هو مشهد سينمائي تمثيلي، وانه لا يمكن التيقن من وقوع جريمة القتل أصلا أو وقوعها بهذه الوحشية، وطالبوا بالتروي في الغضب والحماس والإدانة ورد الفعل.
وذهب آخرون الى ان وراءها اجهزة استخبارية عالمية لتوريط مصر في ليبيا،
وذهب الخيال بالبعض من ناحية أخرى الى انها عملية مخابراتية حفترية لتبرير التدخل المصري في ليبيا،
وحكايات وتحليلات أخرى كثيرة، تعكس حالة الشك العميق التى تضرب المجتمع بسبب حجم الاكاذيب التي نسمعها كل يوم.
ولكن كل هذه الشكوك على ضعف وتهافت بعضها، لا تفيد شيئا ما لم تقدم دلائل على ما تدعيه. و اياً كانت الجهات المنفذة ودوافعها ومخططاتها وحقيقة جريمتها، فانه لا يخفف من وقع هذه الجريمة البربرية.
وبمعنى آخر، اننا ندين الجريمة ايا كان مرتكبها، وندين القاتل ونعاديه كائنا من كان، أما من فعلها ولماذا فهذا موضوع آخر يأتي في المرتبة الثانية.
***
4) الأمن القومي والكرامة الوطنية:
لا يمكن لأى دولة في العالم، أياً كانت طبيعة نظامها، وسواء كان من الاخيار او من الاشرار، وحتى لو كان متهما بقتله الآلاف في المظاهرات والمباريات الرياضية، ان يصمت امام الاعتداء على المصريين في ليبيا والفرافرة وسيناء، فلابد ان يرد بقوة، دفاعا عن دولته ونظامه وحفاظا على شرعيته امام انصاره ومواطنيه. هكذا فعل وهكذا سيفعل اى نظام آخر في مصر او في العالم.
نستطيع ان نناقش ونختلف في الاستراتيجيات والتحالفات والتوقيتات والضمانات والحسابات وفي الضمائر والنوايا والمصداقيات، ولكن ليس في الحق في رد العدوان او في الثأر منه. مع الاعتراف بأننا جميعا تنقصنا المعلومات والحقائق الكاملة التي تؤهلنا لتكوين لرأي قاطع فيما حدث.
***
5) الطائفية:
اخترقت حالة الحزن والغضب العامة، بعض الاصوات الشاذة القليلة التي حاولت على استحياء التلميح الى حركة التبشير المسيحي في ليبيا. وهو ما لم تدعيه بيانات داعش نفسها.
او محاولات أخرى تشير الى موقف قيادات الكنيسة الداعم لقتل المتظاهرين في رابعة والنهضة، ومباركتها لاجتثاث التيار الاسلامي. متجاهلين ان كل مؤسسات الدولة العميقة اشتركت في هذا الموقف، وكان الازهر قبل الكنيسة في ذلك. ثم ما علاقة الشهداء بالمواقف السياسية لقادة كنيستهم. وكيف نأخذهم بجريرتها؟
وهناك آراء أخرى تعاطفت مع الضحايا ولكنها تحفظت على توصيفهم بالشهداء، وكأن الشهادة والاستشهاد تقتصر على المسلمين فقط !
وكان من المشاهد الملفتة في ذات السياق، هو تقديم كبار رجال الدولة العزاء للكنيسة وليس لأهالي الشهداء، وكأن هويتهم المسيحية تأتي قبل الهوية المصرية، رغم ان اجراء مماثل لا يتم مع الازهر حين يسقط لنا شهداء من المصريين المسلمين.
***
6) التحالفات والصراعات الاقليمة:
أيد البرلمان الليبي الضربة الجوية، بينما رفضها المؤتمر الوطني الذى أدان الاعتداء على السيادة الليبية وقتل المدنيين، وشكك في صحة فيديو المذبحة. وله في ذلك ألف حق ولكن بشروط، أهمها أن يتحمل مسؤولية الحفاظ على حياة المصريين هناك. وان يدين ما سبق من استدعاء الناتو للتدخل في ليبيا من قبل. وان ينهي حالة انقسام السيادة في ليبيا.
ثم أخطأت مصر بسعيها الى تدويل القضية، وما أدراك ما هو التدويل، حين طالبت مجلس الامن بتدخل عسكري دولي لصالح بنغازى، ورفع الحظر عن تسليحها، بينما تمسكت طرابلس وحلفاؤها في الخارج بالحل السياسي الدولي أيضا، وما تبع ذلك من ادانة قطرية للضربات الجوية.
وبسرعة البرق، خفضت الجزيرة من تركيزها على ضحايا المذبحة الـ 21 ، وانتقلت للتركيز على المدنيين الليبيين السبعة، وهو ما لم تفعله أبدا مع الضربات الجوية الامريكية المماثلة، ثم جاء رد الفعل المصري بادانة قطر، ثم بيان مجلس التعاون الخليجي للدفاع عنها، وترحيب البعض من المعارضة المصرية به، رغم ان من يقاوم التبعية والاستبداد في مصر، لا يمكن ان يقف في كفة واحدة مع دول الخليج في اي موقف، وهم منبع التبعية والاستبداد في الوطن العربي.
وتحتدم الاشتباكات السياسية والاعلامية، لتنزوي تماما المأساة الرئيسة لشهداء المذبحة.
***
7) التحالف الدولي في مواجهة داعش:
لا صوت يعلو فوق صوت التحالف الدولي لمكافحة الارهاب. والظاهر أن المشاركة ليست خيارا حرا، بل يبدو انها مشاركة بالاكراه، ووراءها قوة اقناع فولاذية.
هكذا يبدو المشهد من اول شارلى ابدو، واعدام الصحفيين اليابانيين، وحرق الكساسبة، ومذبحة ليبيا وعملية درنة، وقتل اربعة من الحرس الوطني التونسي.
ان رسائل داعش الدموية، لغز كبير في اهدافها وغاياتها، فهى تبدو وكأنها تحرض العالم عن قصد ضده نفسها. وكأنها توجه دعوة الى الجميع ان تعالوا الى منطقتنا لتقاتلونا وتقتلونا. تعالوا الى العراق وسوريا وليبيا ومصر، ولا تترددوا فنحن نستحق القتل لاننا اشرار وخطرين جدا جدا !!
والله أعلم.
***
وفي الختام وعلى سبيل المثال وكمحاولة للفهم والتحليل، فإن اي مقارنة بين رد فعل المجتمع الفرنسي وبيننا في مواجهة مثل هذه الاعتداءات الارهابية، يكشف حجم المأساة والاضطراب التي يعيشها مجتمعنا اليوم بسبب القهر والاستبداد، وهي حالة لم يعد يحتملها أحد، ولم يعد بالإمكان الاستمرار فيها.