مصطلح جديد نزل الى الأسواق الإعلامية ـ السياسية في الاسبوع الماضي وبالتحديد يوم الثاني من ايلول/ سبتمبر. المصطلح هو «مبادرة السيادة» أو «مسيرة السيادة» وقد أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اثناء زيارة قصيرة الى بغداد احيطت بالكتمان.
مما تذكرنا بزيارات المسؤولين الأمريكيين الذين يكتفون، عادة، بلقاء رئيس الوزراء العراقي اما في المنطقة الخضراء المحصنة او احد المعسكرات الامريكية الأكثر حصانة، حيث يتناول رئيس الوزراء وجبة طعام مع قوات الاحتلال ليبين، كما فعل نوري المالكي، مقدار اعتزازه بتضحياتهم بحياتهم على أيدي «الإرهابيين العراقيين». بعد ساعات من زيارته بيروت وقيامه بواحد من أكثر الأفعال ذكاء اعلاميا، أي منحه أرفع وسام فرنسي لفيروز التي لايختلف أحد حول قيمتها الوطنية وما تمثله للبنان والبلاد العربية، وبعد احتضانه المطربة ماجدة الرومي وطمأنتها بأن لبنان سيكون بخير، (لماذا يحتضن الرؤساء والساسة الاطفال والنساء ويذرفون الدموع اثناء احتضانهم أمام كاميرات أجهزة الإعلام؟) وقبل ان تجف عبراته التي بللت شعر المطربة، سارع الرئيس الفرنسي بارسال تغريدة له عن البلد الثاني الذي يريد أن يشمله برعايته وان يضمه، مع بيروت، الى حضنه الكبير: «أؤكد لكم أنني سأكون غداً صباحاً في العراق لكي أطلق، بالتعاون مع الأمم المتحدة، مبادرة لدعم مسيرة السيادة في هذا البلد». أثارت الزيارة، الدهشة، خاصة بين العراقيين. فالعراق، خلافا للبنان، ليس مستعمرة سابقة تحاول فرنسا استعادة مكانتها فيها بنعومة فنية او عبر ترتيب حملة مساعدات «إنسانية». صحيح أن فرنسا لم تشارك في غزو العراق واحتلاله بأمرة أمريكا كما فعلت بريطانيا، مثلا، الا أنها شاركت في التحالف الذي قادته امريكا تحت راية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» عام 2014، وبقيت قواتها في العراق حتى فترة قصيرة. ما أثار الدهشة، أيضا، لجوء ماكرون الى اسلوب «التغريدة» لاعلان الزيارة، فهذا اسلوب متوقع من الرئيس الامريكي دونالد ترامب الذي باتت تغريداته، بكل مفارقاتها، بديلا للبيانات الصحافية، الا انه ليس اسلوبا شائعا بين بقية الرؤساء، في انحاء العالم. فهل أراد ماكرون بتغريدته أن يثبت لنفسه والعالم أن فرنسا لاتقل مواكبة لحداثة «التغريد» من الرئيس الأمريكي، أو انه لايقل عنه اهتماما بالشرق الأوسط، خاصة، بعد ان جعل ترامب من اعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني وتوقيع اتفاقية تطبيع العلاقات مع الإمارات، انجازات لامثيل لها يستند اليها في حملته الانتخابية؟ أو لعل ما ابتغاه ماكرون هو تفنيد النظرة الأمريكية التي عبر عنها وزير الدفاع الامريكي السابق دونالد رامسفيلد، قبل غزو العراق بشهرين، متهما فرنسا والمانيا، بأنهما «أوروبا العجوز» غير القادرة على مجاراة امريكا في «انقاذها» الشعب العراقي من نظام جائر وبناء الديمقراطية، فشٌمر عن ذراعيه، هو الآخر، هاتفا « اريد ان اساند الشعب العراقي»!
ضمن هذه الخطوط العامة، بالامكان تلمس بعض الملامح الدالة على اهداف الزيارة، مع بقاء السبب الرئيسي حتى المعلن منه غامضا وخاضعا للتفسيرات. وأعني بذلك اعلان « مبادرة السيادة» كسبب رئيسي للزيارة وابقائه كما هو مصطلحا كرره ماكرون، بتنويعات ملونة تليق باللغة الفرنسية، في خطابه ومقابلاته الصحافية ولقاءاته الرسمية مع المسؤولين ببغداد، حاملا اياه بحميمية كما راقص الباليه حين يحمل البطلة، لأكثر من ساعة، وهو واقف على رؤوس اصابعه. «امامنا تحديات عديدة، وأنني أريد أن اساند الشعب العراقي. لكم ان تعتمدوا على التزامي معكم، وسنعمل مع شركائنا على تحشيد المجتمع الدولي». انهمرت وعود المساندة بسخاء صحبة التحذير. في اطلاقه صيحات التحذير، استنسخ ماكرون تحذيرات الخطاب الأمريكي والإيراني، حول خطرين هما اولا: تداعيات «التدخلات الخارجية» في الشأن العراقي. لينفي عن فرنسا، كونها قوة خارجية تتدخل بالشأن الداخلي. بل وليقدمها كقوة ضرورية لحماية السيادة من « قوى خارجية» ملمحا على الاغلب الى تركيا، التي تخوض معها الصراع في ليبيا. الخطر الثاني الذي حذر منه ماكرون وذكره نقلا بالحرف الواحد من الخطاب الامريكي هو ان «الحرب على داعش لم تنتهِ بعد». مما يعني، بالضرورة، ان العراق بحاجة الى « المساندة» الفرنسية و« التحشيد الدولي». عند جلاء الغبار الإعلامي وتنظيف التصريحات الفرنسية من طابعها الودي حول « دعم ومساندة الشعب العراقي» سنجد ان ما يود ماكرون انجازه هو ليس « مسيرة سيادة» مبهمة، بقدر ما هو تحقيق هدف استعماري قديم مُغلف بتغريدة منمقة: ان تحصل فرنسا على قطعة من كعكة دسمة تتهافت على التهامها دول اخرى، بينما لا تحصل هي على اي «مكافأة» على الرغم من انها «قدمت الدعم للعراق في حربه ضد داعش» كما قال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي شاكرا ماكرون. فلم لا تنال نصيبا من عقود السلاح والنفط والعقود التجارية كما هي أمريكا وإيران؟ واذا كانت ارض البلد مباحة من قبل الدولتين، بينما تنتهك تركيا حدوده، قصفا وتوغلا، فلم لا تكون فرنسا الضلع الثالث في قوى الاحتلال، العسكري والناعم، في بلد يملك رابع أعلى مخزون للنفط بالعالم، ويحتل، في الوقت نفسه، بساسته السابقين والحاليين، مركزا مرموقا في قائمة اكثر الدول فسادا في العالم؟ أليس في هذا ما يكفي من الغواية لأية جهة او دولة، تود الانتفاع؟ حيث تتوفر كل الشروط الملائمة لتوسيع رقعة الاستغلال، فالنظام الفاسد بحاجة الى الحماية الخارجية، أيا كانت، والقوى الاستعمارية الجديدة، ترى في ابقاء البلد ضعيفا، منهكا، تنخره النزاعات والحروب، وتسليط سيف تهمة «الإرهاب» الجاهزة على كل مقاوم. لذلك ليس من قبيل الصدف الا يتطرق ماكرون، في حديثه عن «مساندة الشعب العراقي» الى الشعب العراقي، المحتج، المتظاهر، المعرض للاغتيالات والخطف، النائم في ساحات مدنه منذ تشرين / اكتوبر 2019، مطالبا باستعادة وطنه وسيادة وطنه، التي يعرف معناها جيدا، وسيحققها ان آجلا أم عاجلا.