اذا أسلمنا بتعريف مفاده ان الطائفة هي "هيئة اجتماعية لتَشارُك الموارد المادية والمعنوية، وأنها تعيد إنتاج نفسها عبر تلك الموارد"، يمكن القول ان السنة لم يشعروا بحاجة لهذه الهيئة خارج مؤسسات السلطة. فقد كانت "طائفتهم" هي الدولة نفسها.
فمعظم شبكات التعاضد والتكافل التي استفادوا منها كانت في داخل بنى الدولة. وكانت العقيدة "العروبية" للدولة قد أصبحت سردية مقبولة بينهم، وتحديداً بين النخب الريفية أو المنحدرة من الريف التي التجأت الى عروبة بطابع قبلي يقوم الى حد كبير على مفهوم الدم وعلى استدعاء القيم القبلية. وبالتالي فإن معظمهم لم يكن يتصرف من منطلق الذوبان بعقيدة "سنية" أو بانتماء الى كيان اسمه "الطائفة السنية".
بانهيار النظام- الدولة، وجد السنّة أنفسهم مدفوعين نحو أزمة هوية حادة. قيل لهم إنهم "سنَّة"، لكن الكلمة لم تكن تعني الكثير. وفي ظل حالة اللادولة تلك، كانت الحوزة ومرجعيات النجف، حتى مع تنافسها وصراعاتها الداخلية، قادرة على أن تفرض نوعاً من الانتظام على السلوك الجمعي الشيعي، كما حصل في لحظة صراع الإرادة بين بول بريمير وعلي السيستاني حول كتابة الدستور، حينما استعرض المرجع قوته بتظاهرات تصر على دستور مكتوب بيد عراقية وانتخابات مبكرة، واضطر الأخير عندها للتراجع أمامه.
في الفضاء السني لم تكن الأمور تحدث على هذا النحو.
انقسم "السنة" الى فئات كثيرة: فئة تصر على رفض نظام الطوائف وعلى الشعارات الكلاسيكية للوطنية العراقية، أو العروبة السياسية، وفئة تبنت موقفاً إسلامياً وانخرطت في الجهاد ضد الأميركيين، وفئة عادت الى حضن القبيلة، وفئة بدأت تتماهى مع سلفية أممية ملتصقة بنهج مغرق في الطائفية.
تصارعت تلك التيارات حول بناء هوية بديلة، وهو لم يكن صراعاً سنياً/ سنياً فحسب، بل كان صراعاً مع الآخرين الذين، بتمسكهم بـ(مظلومياتهم) وببناء "العراق الجديد" على أساس العواطف التي خلفتها تلك (المظلوميات)، ضيّعوا فرصة احتواء التيهان السني وصناعة معنى آخر منه. أسهموا في صناعة مظلومية سنية شرّعت أبواب المجتمعات السنية لعقيدة الانتقام التي تمثلها داعش.
هكذا ظهر داعش ليس بوصفه ما يريده غالبية السنة، بل بوصفه القوة المستعدة لملء فراغ السلطة وفراغ المعنى. من هنا لا يبدو أن التحدي يقتصر اليوم على مواجهة داعش، بل على إدارة مرحلة ما بعد داعش.
هكذا مثلاً ظهرت فكرة "الحرس الوطني" بمثابة محاولة لصناعة "بيشمركة سنية"، متصالحة مع مجتمعها المحلي وقادرة على بناء شرعية داخلية تملأ فراغ المكان والشرعية الذي احتلّه داعش.
لكننا هنا بمواجهة معضلة اخرى تتعلق ببناء الدولة!
فوجود قوات سنية وكردية وشيعية في ثلاث مناطق جغرافية قد يعني خطوة اخرى باتجاه التقسيم وربما صراعات مستقبلية. من هنا يجري الجدل اليوم حول قيادة تلك القوة اذا ما تم إنشاؤها.
فبينما تريد القوى الشيعية ربطها برئيس الوزراء "الشيعي"، تريد القوى السنية إعطاءها استقلالية محلية لتصبح ذراعاً عسكرية سنية تُحَسِّن موقف السنة في التفاوض مع خصومهم. تفاوضٌ ما كان ممكناً في اللحظة التأسيسية لعراق ما بعد صدام بسبب التيهان السني.
لحظة تأسيسية جديدة
نحن اذن أمام لحظة "تأسيسية" جديدة، بل عودة الى سؤال أكثر جذرية كان بالإمكان تجاهله حينما كان هناك أكثر من 180 ألف جندي أميركي في العراق: من يمتلك القوة لفرض سردية جديدة للمجتمع السياسي العراقي عبر احتكار "العنف الشرعي" واستخدامه لتحديد ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟ يظل هذا السؤال رهين ما سينتهي اليه الصراع الراهن مع داعش، وكيف سيملأ الفراغ بعده!
ورغم وجود مناخ تسويات منذ رحيل المالكي وإدراك جزء من النخبة السياسية ان المخرج يستحيل بمنطق المباراة الصفرية، إلا ان هناك أيضا مناخاً متشككاً وميولاً لانتهاز الفرصة ليبني كل طرف واقعاً جديداً على الأرض.
أصبح جزء كبير من الجيش العراقي، الى حد كبير، طرفاً رديفاً للميليشيات الشيعية التي تقاتل حماية لـ "المذهب"، بينما تمضي البيشمركة الكردية بترسيم حدود الاقليم ـــ الدولة والتذكير على لسان رئيس الاقليم بأن حدود سايكس ـــ بيكو مصطنعة "والخرائط الجديدة ترسم بالدم". وما زال الشريك "السني" غائباً. ففي الوقت الذي يسحبه داعش باتجاه الحرب الكلية، تبدو طبقته السياسية الموجودة في بغداد- وعمان وأربيل- وكأنها طبقة منفية يصعب أن يأخذها الآخرون على محمل الجد. في النهاية، ما زال علينا أن ننتظر لنعرف هل ما يجري هو مواصلة لحرب أهلية ابتدأت في العام 2003 وهي باتجاه حسم الطرف المنتصر فيها وترسيم حدود (أكثر استقراراً) بين "المكونات"، ام انها بداية لعقد اجتماعي – سياسي جديد يعرف العراق على أسس مختلفة عن السابق، ام هي كلا الأمرين معاً؟
وحتى ذلك الوقت، يظل العراق- كما الكثير من دول المنطقة- يعيش ظرفاً انتقالياً نهاياته مفتوحة!
لم تتبلور بعد السلطة القادرة على احتكار العنف وبناء الشرعية، والمجتمع العراقي ما زال يعيش في ذلك الحقل الهلامي بين الدولة وما قبل الدولة، لم يصل بعد الى إجابة نهائية حول كيفية إدارة تعايشهما، ولا حول كيفية إنهاء هذا التعايش!