سبعة رجال يلتفون حول جثة مشوهة، وقد ربطوا الساقين بالحبال، وهم على وشك اما سحلها او تمزيقها.
في خلفية الصورة، هناك رجل ينظر بلا مبالاة وكان ما يقوم به رفاقه امر عادي جدا.
في لقطة ثانية : ثلاثة رجال يرتدون ازياء واقنعة باللون الاسود وهم يضطجعون في عربة عسكرية. يضعون احذيتهم على جثة شاب وهم يرفعون اصابعهم باشارة النصر.
الانطباع الاولي السريع هو لابد ان الرجال ينتمون الى تنظيم داعش الارهابي. لكن الحقيقة هي انهم ينتمون الى «الفرقة الذهبية» العسكرية الخاصة، الملحقة بمكتب رئيس الوزراء العراقي باعتباره قائدا للقوات المسلحة. ومن يزور موقع الفرقة على الفيسبوك سيرى هذه «الانتصارات» معروضة بافتخار بينما لا يكف ساسة النظام عن التطبيل لانسانية القوات المسلحة وميليشيا الحشد الشعبي!
اذا كان التعذيب في معتقل ابو غريب، باشراف جلادين اميركيين، وفي معتقل الجادرية، ببغداد، باشراف بيان جبر، وزير الداخلية السابق وهو من قياديي المجلس الاسلامي الاعلى، وفي معتقلات اخرى من بينها اقليم كردستان، قد اثار حملة استنكار وادانة، واذا كانت جرائم تنظيم «داعش» قد دفعت الى تشكيل تحالف دولي لمحاربة التنظيم والقضاء عليه، فما الذي سيفعله العالم، عموما، والتحالف الدولي بقيادة أميركا، خاصة، ازاء الجرائم التي ترتكبها قوات الجيش العراقي ومليشيا الحشد الشعبي ضد المواطنين في المناطق التي يسيطرون عليها، والتي لا تقل بشاعة وانتهاكا لحقوق الانسان من انتهاكات داعش؟
في تقرير تلفزيوني، من بين العديد من التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية العراقية والدولية، بثته شبكة «اي بي سي» الأميركية، نرى اشرطة فيديو قام بتصويرها جنود ينتمون الى فرقة الخاصة العسكرية «الفرقة الذهبية». وهي الفرقة التي تضم مجموعة من العراقيين ممن قام الجيش الأميركي بتدريبهم منذ ايام الغزو الاولى عام 2003، في معسكر بالاردن، ليكونوا اداة لحماية المحتل والنظام من المقاومة. واشتهرت باسم « الفرقة القذرة»، تباهيا، بما نفذته من عمليات خاصة واغتيالات باشراف العقيد جيمس ستيل الذي اشرف مع السفير الأميركي جون نغروبونتي على تاسيس وتدريب قوات عمليات خاصة مماثلة للقضاء على الحركات الثورية في أميركا اللاتينية في فترة الثمانينات. تفتخر الفرقة، بقيادة اللواء فاضل البرواري، بشعارها «ان لم تعش الحياة العسكرية، اعلم انك لم تعرف الرجولة الحقيقية»، وانها تحتل المرتبة الثانية عشرة من بين اكثر الفرق العسكرية اثارة للرعب في العالم، حسب موقعها الالكتروني.
فما الذي يقدمه افراد هذه الفرقة « الذهبية»، فخر الجيش العراقي، ومعهم مليشيا الحشد الشعبي، من «انجازات» يفتخرون بها، هذه الايام، بحيث يقومون بتصويرها ووضعها على شبكات المواقع الاجتماعية ؟
يبين فيلم الشبكة التلفزيونية، بالتفصيل، تعذيب واعدام شابين. هناك، ايضا، تعليق رجل من برج مراقبة عسكري ومن ثم رمي جثته. هذه الصور والافلام الموثقة للجرائم تم تجميعها من مصادر عدة، من بينها مواقع افراد في الجيش والحشد الشعبي. ويبين التقرير انه بحسب اشارات الطريق الظاهرة في بعض الصور، فانها تظهر ان الرجل الذي وضعها يقاتل مع قوات الحشد الشعبي والقوات العراقية في تكريت، مثلا.
يظهر التقرير صورا لمقاتلين من الحشد وجنودا وهم يتباهون بوقوفهم بلقطات تذكارية متنوعة، اما بجانب رؤوس مقطوعة، او وهم يحملونها، او يدوسون عليها، او وهم يعلقونها على مقدمة الدبابات الأميركية الصنع. ولم يسلم حتى الاطفال من «احتفال» الجنود بالنصر. حيث نراهم وهم يعذبون، وسط هرج جماعي، صبيا مرعوبا تم تعليقه على باب بيت، ثم قتله قرب بيته.
بالاضافة الى التحقيق التلفزيوني ومواقع الفرقة الذهبية والفيسبوك المزدانة بصور القتل، كشفت صحيفة «التايمز»، البريطانية، عن تفاصيل جرائم بشعة اخرى، يقوم جنود بنشر صورها وعرض اشرطة تصويرها، من بينها لقطات تظهر سحل جثة بواسطة عربة «همفي».
لماذا هذه الافعال الوحشية وما يحيطها من احتفالات بالتعذيب وتشويه الجثث وسحلها؟
هل صحيح انها جزء من حملة اعلامية مضللة لتشويه انتصارات الجيش العراقي والحشد الشعبي؟ لكن الصور واشرطة الفيديو معروضة على مواقع الجيش والحشد وبامكان الجميع التاكد منها.
هل هي ممارسات بضع تفاحات فاسدة كما قيل لنا عن تعذيب المعتقلين في ابو غريب وغيره بالاضافة الى المذابح التي هي ببساطة جرائم ضد الانسانية ؟
واذا قبلنا بهذه المحاججة الواهية، أليس من المعروف ان وجود تفاحة واحدة فاسدة في سلة، يؤدي الى فساد كل التفاح بسرعة قياسية؟ أليس من البديهيات ان غياب المحاسبة القانونية عن جريمة ما، وافلات المجرمين من العقاب سيؤدي، بالضرورة، الى خلق افراد/ حشود/ ميليشيات يطبقون قوانينهم الخاصة بهم؟
وهذا هو ما يجري في العراق اليوم. حيث باتت سياسة « الحرب ضد الارهاب»، افضل غطاء لطرفين: المحتل الاجنبي من جهة وللنظام القمعي من جهة ثانية.
ومما يزيد تعلق المحتل والانظمة المحلية بهذه السياسة انها ذات امد غير محدد، وانها ذات طبيعة غير محددة بحكم خضوع مصطلح الارهاب لتفسيرات مختلفة، حسب قوة الجهة الراغبة بتبني هذه السياسة. فالادارة الأميركية، مثلا، لا تعتبر اسرائيل دولة ارهابية، مع ان ممارساتها الارهابية ضد الشعب الفلسطيني تفقأ العيون، بل بالعكس تساندها وتدعمها ماديا وسياسيا. كما لم تشر الى انتهاكات النظام العراقي لحقوق الانسان قبل وصول داعش، بل وشجعتها بشكل مباشر.
تشير وثائق ويكيليكس الى ان الادارة الأميركية شجعت على اثارة الفتنة الطائفية وتدريب القوات الكردية والشيعية (قبل ان يبدأوا استثمار قوات الصحوات) لحماية القوات الأميركية من هجمات المقاومة. وقد اطلق على الامر العسكري الصادر بهذا الخصوص اسم « فراغو 242 « الذي يتضمن، ايضا، الاوامر المشددة بوجوب تجاهل تعذيب المعتقلين من قبل النظام العراقي.
هذا التنكيل اوالتوحش هو ما يصنع الارهاب والتوحش المضاد يوميا وفي كل مكان. وقد ذكرنا الكاتب و البرلماني الالماني يورغن تودنهوفر بذلك في مقابلته الاخيرة مع قناة الجزيرة. فقال مستخلصا تجربة رحلاته ومقابلاته في غزة وافغانستان والعراق وسوريا مستشهدا بالارقام : كان عدد الارهابيين الحقيقيين قبل استهداف البرجين في نيويورك وغزو افغانستان يعدّ بالمئات، وعددهم الان، بعد الحروب ومعتقلات غوانتنامو وابو غريب والحرب ضد غزة حوالي 100 ألف.
هذا الفهم المتوارد بين الكثيرين من عقلاء العالم، من الفاتيكان الى الليبراليين واليسارين والمنظمات الانسانية كلها، يتوجه الى الراي العام والسياسيين الواعين بقيمة حياة الناس ومستواهم الحضاري، وليس الى تجار الاسلحة وشركائهم في الجيوش والدول، والشركات الامنية العالمية التي تشكل بمجموعها، وبالحروب المستمرة التي تغذيها بصرف النظر عمن يغلب او يباد، احدى اهم النشاطات الاقتصادية في العالم. كما لا يتوجه الى الحكومات، في بلداننا، ومعظمها عصابات نهب عائلية تحت ستار الدين او الممانعة الكاذبة، او المذهب والمظلومية العتيقة، اوسيادة القانون الوهمية. هذه العصابات الحاكمة هي التي صنعت و تصنع الارهاب بما تخلقه من ظلم يومي متوحش ضد ابناء بلدها، ولا تعبا بما سيحل في البلد كونها ضمنت ثرواتها خارجه.
ان طائفية وفساد النظام الحالي وسكوته على جرائم وانتهاكات حقوق الانسان، التي لم تعد مثار جدل بل حقيقة موثقة، سبب رئيسي في ماساة العراق. ولن يتوقف تصاعد التوحش في العراق وسوريا وبقية بلداننا الا بمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة. فلا سلام اهلي، او وطني، او اقليمي ،او عالمي، بدون العدالة، او الامل بتحقيق العدالة على الاقل.