في مثل هذا اليوم (20/3) من سنة 2003 خرجنا في الصباح الباكر أنا وأولادي، متجهين إلى مزرعة الدورة التي تقع قرب مصفى الدورة (جنوب بغداد)، هرباً من صواريخ العدو الغاشم.. ونحن في الطريق وإذا بصافرات الإنذار، التي لم نسمعها، تعلن قرب وصول الغربان.
في لحظة وصولنا إلى البوابة الخارجية شاهدت لهباً كبيراً جداً.. اعتقدت أنه على الجانب الآخر من النهر، نهر دجلة الذي كان آمناً ساكناً كسكون ليل بغداد.. حيث يوجد معمل الزيوت النباتية، ولكن اتضح أن العدو قد قصف منزلي الكائن في مزرعتي مستهدفني وأولادي ، وكان ذلك أول أهدافه على الوطن.
ويبدو أنه اختزل السوء الذي أراده للوطن بي وبأولادي ..
ليرى العالم قبح وجهه وبشاعة أهدافه. حيث لم يتورع عن استهداف أم وأولادها في بغداد ووقت أذان الفجر!
هرعنا متجهين إلى داخل المزرعة، وطلبتُ من الحرس أن يأخذوا الأولاد إلى ملجأ عسكري أعددته قبل الحرب بليلتين.. وكان قراري فجائياً وسريعاً، حيث أراد الله سبحانه أن يسبب الأسباب كي يحمي هذه العائلة .
نزل الأولاد مع بعض العناصر من الحراسات إلى الملجأ وتبعتهم .
في هذه الأثناء وبينما كان ولدي علي وابنتي حرير متجهين إلى بيتهم دوّى انفجار كبير خلفهم مباشرة مستهدفاً بيتهم في مزرعتهم . لكن الله سبحانه حماهم بحمايته وحفظهم وأبعدهم عن ذلك المكان ، فنزلا إلى الملجأ بسرعة فزعين.
بقينا داخل الملجأ ما يقارب الساعتين والنصف والصواريخ تنهال علينا من كل صوب، 10 صواريخ .
كنت أنظر إلى وجوه من حولي فأشاهد قلقًا وخوفًا .
جلست على الارض ووضعت حرير في حضني واعطاني الشباب- الحرس- جاكيتاتهم فوضعت واحدة تحت حرير وواحدة غطيتها بها خوفًا عليها، فقد كانت مصابة بالربو المزمن وكان البرد شديد القساوة في تلك الايام . وحولي صدام وبنان ملتصقين بي، وولدي علي وابنتي وهج قربي.
كنا جميعاً جالسين على الأرض،لان ساقيَّ لم تعدا تحملاني.
كان صدام يحمل طائراً صغيراً ، لان اولادي مولعين بحب الحيوانات، طوال فترة مكوثنا في الملجأ والطائر بيد صدام .
والعيون تراقب من داخل الملجأ ما لا تستطيع مشاهدته وكأنها تحاول اختراق الجدران لترى مايحدث خلفها.
أحد الصواريخ كان شديد الدوي، صوته مخيف نظرت إلى علي ولدي، كان يجلس إلى يساري، وعندما التقت أعيننا تسأل ماهو القادم، سمعته ينطق الشهادة.. لأنه يتوقع أن هذا الدوي سينتهى مستهدفنا. هنا انهرتُ تماماً وبكيت بقوة، وشعرت أن أولادي في خطر كبير. فصحت بصوت عالٍ: لاااااااااا. وانا ابكي ودموعي تنهمر بشدة على وجنتيّ ..
على مايبدو شعرت الحراسات التي في موقع الجادرية أننا المستهدفون ونحن أول الأهداف، فاعلموا اخي قصي الذي كان مشغولاً في غرفة العمليات العسكرية.
فارسل اولاد خالي وقبلهم علي حسين رشيد، مرافقه، الذي قضى نحبه قبل أيام قليلة بعد صراع مع المرض دام سنتين.
طلبوا منا أن نخرج بسرعة، طلبتُ من الحرس التأني خشية استهدافهم واستهدافنا مرة أخرى من قبل طائرات العدو، وعندما تأكدنا أن غربانهم فرت إلى اوكارها القذرة أينما كان وكرها الملعون، خرجنا مسرعين إلى اولاد خالي عدنان الذين كانوا بانتظارنا وتركنا مزرعة الدورة.. المكان الذي كان يقضي به الأولاد أوقاتهم الجميلة مع خيلهم وحيواناتهم التي يحبون.
نظرت إلى اليسار لأشاهد بيتي ركاماً لا يتجاوز ارتفاعه المتر. فقد دمر العدو البيت وما يحيط به تدميراً كاملاً.
قبل وصولنا وبينما كنا في الطريق احتضنت ابني صدام ورأيت في عينيه خوفاً وحزناً كبيرين .. نظر لي وقال : ماما نسيتُ الطائر بالملجأ.. احتضنته ونزلت دموعي بشدة، عندما شعرت بمشاعر الخوف في صدر ولدي الصغير.
قد يكون خجل أن يقول "خفت" لأنها ثقافة بعيدة عن تربيته، فعبَّر عن حزنه وخوفه بشيء آخر وهو حزنه على طائره الذي يحب.. فهذه اللغة التي يفهمها في ذلك العمر. وبهذه الطريقة يستطيع الإفصاح عن مشاعره وما في داخله..
ذلك اليوم الذي استهدف أعدائي بلدي، بيتي، استهدفني وأولادي.. ذلك اليوم الذي استباح به الاشرار أرضنا وناسنا ، وقتلوا الكثير واستشهد الكثير على اثر احتلالهم. الاحتلال الحقير الذي جلب معه أنذل البشر وأكثرهم عمالة وهم الذين حافظوا على ديمومة ذلك الاحتلال، الذي على إثره يموت عشرات كل يوم لا ذنب لهم إلا انهم عراقيون اختاروا أن يعيشوا في عراقهم رغم تغير الأمور..
رحم الله شهداء العراق وحفظ من يعيش على أرضها، شيعة وسنة واكراداً ومسيحيين ويهوداً وكل من هو "عراقي عراقي" رغم أنوف الجبناء والمحتلين وأذنابهم ومن معهم..