مثَّلت قيم العرب قبل الإسلام، الكرم والصدق والشجاعة وإقراء الضيف وإغاثة الملهوف، قاعدة اجتماعية اتكأت عليها رسالة السماء الخاتمة كما في الحديث الشريف {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}.
لم يبدأ الإسلام المسار مع العرب من نقطة الصفر وإنما أتى متمماً لقيمهم في مواضع، صاقلاً لها في مواضع أخرى، فمنع الكرم أن يتحول إلى تبذير والشجاعة إلى تهور، وهكذا.
لم يخلُ مجتمع العرب، رغم بساطته، من نظم لإدارة شؤون الحياة اليومية وتدبير الشؤون الاجتماعية، ما خلا منه هو الدولة والسلطة السياسية الهرمية، ووجدت، عوضاً عنها، مراكز قوى متعددة مكونة من وجهاء مجتمع وأثرياء ليس بينهم أواصر فكرية وقراراتهم تجري بحسابات فردية ولو على حساب المصلحة العامة.
كان مألوفاً أن تُقدِم قامة اجتماعية عملاقة على التمرد على قيم المجتمع فيما يجد الضعفاء في قرارها ملاذاً لتولد بؤرة قوة جديدة في المجتمع كإسلام حمزة (رض)، أو أن تَقدُم شخصية ثرية على قرار اقتصادي يربك المعركة الاقتصادية للمجتمع مع خصم يحمل أفكاراً من خارج أسواره، كفعل سيدنا عثمان بن عفان (رض) بإعتاق الرقيق.
حدثت مثل هذه التغيرات الاجتماعية العميقة في المجتمع العربي المكي أمام نزول أولى آيات القرآن الكريم. لم يصمد الكيان الاجتماعي لذلك المجتمع وانفرط بنيانه الضعيف أمام تحديات الرسالة الجديدة.
أحكام الإسلام الوافدة على المجتمع لم تدخل في جدل فكري مع ترسّبات فكرية سابقة داخل ذهن العربي، وعندما كان يتنزّل حكم قرآني متحدٍ لعادة ألفها المجتمع وأدمن عليها ،كالخمر، تكسر جرار الخمر من توها ويهرق ما بها في الطرقات دون أن يمر القرار على نقاش فلسفي حول منافع الخمر وإثمه وامكانية التوفيق بينهما بنسب واقعية. لم يُحدِث اقصاء الإسلام للخمر وغيره من الموبقات عن حياة العربي تحدياً وطنياً، وتخلى المجتمع عنه دون منازلة فكرية.
عناد المجتمع بوجه التحدي الخارجي مرحلة لاحقة لنشوء الدولة، تهيئها الدولةُ نفسُها للدفاع عن كيانها وتنضجه مؤسستها الفكرية والإعلامية التي مهمتها التأثير على الملأ (الجمهور) وترصد أنظمتها الأمنية سلوكه، ثم يتطور العناد إلى كبرياء فكري جماعي، وهو ما سلمت منه البيئة العربية البسيطة التي عاشت حرية الصحراء بعيداً عن تعقيدات المدنيات.
كان العقل العربي مثقلاً بقيم سامقة لا يضاهيها شيء عند الأمم الأخرى. ما خلا منه العقل العربي آنذاك هو مفهوم الأمة الذي أتى به الإسلام {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} وهو مفهوم كبريائي وعقبة في طريق اتخاذ قرار التغيير عند الفرد والمجموع.
حينما كان العربي يقصد الأمم الأخرى مؤلباً وداعياً إلى حلف مشترك ضد خصمه، كان يجد الصدق حاجزاً بينه وبين ما يريد، كفعل أبو سفيان رضي الله عنه مع هرقل عظيم الروم حين أبى أن يذكر خصمه الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء كي لا تقول العرب كذب أبو سفيان، فيتعثر مسار المعركة الفكرية التي يخوضها المجتمع العربي مع التحدي الخارجي لوازع أخلاقي فردي يقع خارج إطار الأداء الجماعي للمجتمع، فالحسابات الشخصية مقدمة على حسابات المجتمع.
كانت شخصية العربي سبيكة من قيم ونزوات، تُحجم عن الخطأ الذي يخلو من متعة فهو لا يكذب، ويستهويه خطأ فيه نفع كالربا أو فيه متعة كالزنا أو فيه دفع للعار كوأد البنات. لم يكن للعربي نزعة يتشبث بها أو يدافع عنها خارج أطر المتعة والمنفعة، وكانت بيئته تسجل إعجابها الآني بما يبدو لها أنه إعجاز أو صواب فتقبله من فورها أو تحاربه، مع إعجابها به لتقبله فيما بعد، كإعجاب صناديد قريش ببلاغة القرآن الكريم الذي كانوا يسترقون سماع تلاوته.
المجتمع التركي في بيئته الأصلية في بوادي آسيا الوسطى يلتقي في تكوينه الاجتماعي مع المجتمع العربي البسيط ودخل الإسلام وقبِلَه جملة وتفصيلاً لمعطيات مشابهة للبيئة العربية التي هاجر ليجاورها في القرن الثاني الهجري. التجاور الجغرافي أبرز قواسم مشتركة وكيمياء تمخَّضت عن ولادة سريعة لمحور عربي/ تركي سياسي إقليمي في النظام السياسي لدولة الحضارة الإسلامية الذي كان حتى قبل تلك اللحظة نظاماً عربياً، لتصبح الإقليمية من بعد سمة ملازمة للنظام السياسي في دولة الحضارة الإسلامية. ليتحول الأتراك فيه شوكة قوية انتشلت الكيان الإسلامي مرات متكررة من مستنقعات سياسية.
المتاح عن تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع التركي ليس كبيراً لكونه-ـ حينئذ- جغرافية قاصية، كما لم يكن البيئة التي وقعت فيها معركة التغيير الذي تهرع إليه (وسائل الإعلام) لنقل التطورات من موقع الحدث. لكن وكما أن في الطفولة دلائل على مسلك الكهولة، فإن في الكهولة دلالات على بيئة الطفولة، وقد كان في النظم السياسية والمدنيات المتعددة الأعراق التي أقامها العرب والأتراك في دمشق وبغداد وقرطبة واستانبول ونمط تعاملهم مع الأقوام الأخرى كان فيه من التطابق ما يدل على نشأة وتربية متشابهة.
على النقيض من صيغة المجتمعات البسيطة، مثّل مفهوم الأمة في مجتمع الفرس مفهوماً ناضجاً ومبكراً، توازيه هرمية سياسية تتولى عملية التوجيه الفكري للمجتمع وزرع روح الكبرياء الوطني فيه ورصد سلوكه. في بيئة كهذه يوجد مقتنعون بالفكرة وآخرون منتفعون بها، وما من شك أن من أغرق فارس الشافعية السنية بالدم وأزهق أرواح مليون مسلم من شعبها ونقلها من دينها الحنيف إلى ديانتها الحالية هو الصنف الثاني الذي لم يكن له وجود في المجتمع العربي البسيط لغياب المؤسسة السياسية.
إضافة إلى ذلك عُرفت فارس بحسن التدبير المؤسساتي الذي لجأ إليه مؤسس الدولة الإسلامية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه باقتباسه نظام الدواوين، فاجتمع في معركة فارس ضد الإسلام أمران أساسيان في إدارة الصراع مع القادم الجديد: مفهوم الأمة المناهض لمفهوم الأمة في الإسلام، ونظام مؤسساتي يدير المعركة الفكرية بكفاءة عالية. ولا زال هذان الأمران بارزين في إدارة إيران لمعركتها المزمنة مع محيطها الإسلامي.
الذهنية المقابلة لذهنية المجتمع البسيط، الذي قبل الإسلام جملة وتفصيلاً دون مجادلة فكرية، هي الذهنية المسكونة بآيديولوجيات ترفض الفكرة الوافدة وتفعل فعل كريات الدم البيضاء. تبقى الندب الآيديولوجية ظاهرة في هذه الشخصية الأشبه بشريط سمعي يعاد استخدامه لتسجيل جديد، دون أن تنطمس نغمة التسجيل القديم. الشخصية القومية الفارسية تجسيد لهذه الصورة من ناحيتين: الاولى التكوين الفكري المجوسي والزرادشتي السابق الذي قدم نفسه للشعوب على انه كيان أمة ونظام حياة، والثانية أجواء العبودية والطبقية السياسية التي أفشاها هذا النظام في المجتمع وأعادت انتاجها ديانة الفرس الحالية ممثلاً بنظام المرجعية.
من المفارقات أن المجتمع العربي المكي البسيط سجَّل بعد قيام دولته في المدينة المنورة إبداعات أمنية مؤسساتية متلاحقة تخصصت بحراسة كيانه السياسي ونظمه التشريعية، فعلم (الجرح والتعديل) أو (علم الرجال) الذي وضعه المسلمون والذي لا يعرف له مثيل عند باقي الأمم ما هو في حقيقة أمره إلا قاعدة معلومات أمنية عن (المواطنين) ونظام أمني صارم ونقاط تفتيش ومتاريس ثقافية على رؤوس الطرقات، ترصد الحالة الفكرية والسلوك الخلقي للمواطن قبل أن تقبل منه مساهمته في تدوين المصدر الثاني لدستور الدولة، ممثلاً بالحديث النبوي الشريف.
ثم توالى نشوء مؤسسات الأمن الاستراتيجي الحامية لمفاهيم المجتمع فأنشئت مؤسسة حماية اللغة العربية (علوم الصرف والنحو) في أعقاب تمصير المدن كالبصرة وقدوم (الوافدين) من كل صوب للعمل والاستقرار، ومؤسسة استنباط الأحكام القانونية (علم أصول الفقه) التي مثَّلت بمجموعها متاريس أمنية على مداخل المجتمع. وغني عن القول أن المجتمع العربي الجديد هو الأعتى في الكبرياء الفكري الجماعي والأمنع على الاختراق الخارجي من سلفه المجتمع المكي البسيط.
كان من أسباب اصطفاء العرب لحمل الرسالة السماوية الخاتمة هي: اللغة العربية التي نزل بجزالتها القرآن الكريم، والأخلاق التي اتكأ الإسلام على قاعدتها الاجتماعية، وحرية الصحراء التي نشأ فيها العربي بعيداً عن عبودية النظم الحاكمة والطبقية السياسية والآليات الأمنية الطاردة لكل ما هو جديد، فأسّس الإسلام بذلك الشخصية الضرورية المطلوبة في مرحلة تكوين مجتمع جديد.
وبذلك فإن الاصطفاء الإلهي للعرب ليس مطلقاً وإنما خصَّ به عرب الحجاز، فالمناذرة في العراق أصابتهم لوثة الاستعباد الفارسي والغساسنة في بلاد الشام أصابتهم لوثة الفلسفة البيزنطية، والمجتمع الذي قال لحاكمه [والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا]، والذي نهضت فيه إمرأة لتقول للحاكم أنت مخطئ، لا يمكن أن يكون بيئة استمرأت الاستعباد وعطَّل تفكيرها السليم (لوثة) الفلسفة.
كان لسهولة ولوج الإسلام إلى المجتمع العربي البسيط، ونظيره المجتمع التركي، الأثر في رسوخ الدين الجديد في هذه المجتمعات وشيوع الثقة في كياناتها السياسية والمرونة مع الأقليات، ما جعلها تشكل ما يسمى في علوم الاجتماع "شخصية الأغلبية المظلية" التي تتسع للجميع، والتي هي حجر الركن في كل حضارة، ما يفسر أن الأمتين العربية والتركية كانتا وعاء الحضارة الإسلامية دون غمط لأدوار إخوانهم الكرد والأفغان والشركس والألبان والأمازيغ في محطات مختلفة.
وكانت المجتمعات المتعددة الأعراق ومجتمعات الفرص للجميع، التي نشأت في دمشق الأموية ثم بغداد العباسية ثم قرطبة الأموية ثم استانبول العثمانية، ظاهرة اجتماعية واحدة تكررت على يد نفس المدرسة السياسية والاجتماعية وتصدى لها خصمان على طول مسارها: الشعوبية الفارسية في الشرق والفلسفة البيزنطية في الغرب وأسقطاها مرات متعددة، متحدان أو منفصلان.
الفترات التي انكسر فيها هذا الوعاء هي فترات الأزمات في تاريخ الأمة التي تصبح فيها مفاهيمها ماءً مسكوباً يتعذَّر جمعه، وفترات الازدهار هي عندما يصلح الوعاء، وهو الفارق الأعظم في علاقات العرب والترك بين اليوم والأمس.