لا يساوي الفخر الذي يستشعره مسؤولو حكومة المنطقة الخضراء عند لقائهم بولي نعمتهم "ساكن البيت الأبيض" بصرف النظر عن اسمه وموطنه الأصلي، أية مشاعر سياسية أو إنسانية أخرى، لأن اللقاء برجل البيت الأبيض يعطيهم إحساسا جارفا بأهميتهم المنتفخة لأنهم يعانون من انعدامها حتى مع زوجاتهم وأولادهم!
ولهذا تترافق زياراتهم لواشنطن بطقوس هي مزيج من الشعور بالدونية والتفاهة أثناء اجتماعهم مع قادة العالم التي يحرصون عليها ويتمنونها ويلحون على الآخرين دعوتهم وقبولهم ضيوفا حتى إذا كان ذلك من دون أية مهمة أو عمل، وخاصة أثناء دخولهم قاعة اللقاءات في البيت الأبيض واجتماعهم مع سيدهم صاحب الفضل في وجودهم في مناصبهم التي ما كان لهم أن يجلسوا فوق كراسيها لولا الاحتلال الأمريكي، وبين الغطرسة التي تنفخ أوداجهم ويمنحها لهم المنصب الذي جاء أكبر من مقاساتهم فتعالوا على العراقيين سواء من المشاركين معهم في العملية السياسية بمن فيهم أصحاب المناصب الكبيرة في مقاييس الزمن الراهن أو من المواطنين العراقيين الآخرين.
غير أن هذه المشاعر الملفقة سرعان ما تتلاشى وتتبخر بمجرد الاصطدام بالواقع المر الذي يعيشه العراق من أقصى شماله إلى أبعد نقطة في جنوبه، ليس لأنهم متفاعلون مع ما يعيشه هذا العراق المبتلى بهم من مآس وكوارث إنسانية، أو لأنهم محزونون لما صنعوه بأيديهم من تدمير لبنية الدولة العراقية وضرب لمرتكزات الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، ولصمامات الأمان الحقيقية في المجتمع، نعم فعلوا كل ذلك انطلاقا من إحساس مرير بمركبات النقص وبأن فرصة تسلطهم على العراق معلقة في مهب ريح النزوات الضيقةوالمتصادمة مع بعضهاومع الآخرين والصراعات المحتدمة حتى داخل التحالف الحاكم وخاصة داخل قيادة حزب الدعوة المستأثر بمزايا الحكم الريعية وامتيازاته ووجاهته.
في ظل كل هذه الأجواء الملتبسة والمتلبدة بغيوم الشك من الجهات الأربع تأتي زيارة حيدر العبادي رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المنزوعة السلاح إلى واشنطن واجتماعه الأثير على قلبه بالرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما والتي أضحكنا فيها أوباما عندما طالب المقاتلين الإيرانيين باحترام السيادة العراقية، أي أن الرئيس الأمريكي حقق قفزة في هواء السياسة وسلّم بالدور العسكري الإيراني الهجومي في العراق، بعد أن أصمّ آذاننا من كثره اللغو الفارغ الذي كان يتحدث فيه عن رفض إدارته لأي دور إيراني ذي طابع عسكري في العراق، وإذا به يسلّم بوجود المقاتلين داخل الأراضي العراقية وكأن الأمر اكتسب شرعيته من خلال مطالبته لهم باحترام السيادة العراقية التي لا يعرف أحد أين يجدها، وهل هي في المكتب البيضاوي حيث يرقد الرئيس الأمريكي، أو في مكتب الولي الفقيه حيث تدار الدسائس الظلامية ليس ضد العراق فقط وإنما إلى حيث استطاعت الذراع الإيرانية الوصول جغرافيا لتتحول بعد ذلك إلى حضور سياسي ومذهبي وأمني، ومن يراقب كلمات التسول الرئاسي الأمريكي بالمقاتلين الإيرانيين ودعوتهم لاحترام السيادة، لا بد أن يسلّم بأن الولايات المتحدة منحت العراق مرة ثانية هدية على طبق من نحاس لإيران بعد أن سلمته عام 2003 لأول مرة على طبق من ذهب، وأباحت لقطعانها من الجوارح والوحوش المفترسة أن تأكله لقمة بعد أخرى، ثم يطلب الرئيس الأمريكي منها بأدبجماحترام حقوق الإنسان والرفق بالحيوان واحترام البيئة.
فهل استطاع حيدر العبادي بما يمتلكه من مهارات جدلية خفية إقناع أوباما وبهذه البساطة بضرورة قبول دور إيراني مباشر في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية؟ أم أن أوباما وكجزء من ترتيبات اتفاق الإطار العام لمشكلة المشروع النووي الإيراني، كان مهيئا تماما لإدارة بوصلة أمريكا أيا كان المحاور وأيا كانت مواهبه؟
وأخيرا هل سلّم العبادي بأن أمريكا لوحدها هي التي تمتلك عناصر الحل والعقد في المشهدين السياسي والأمني في العراق ولهذا وجه وجهه شطر البيت الأبيض؟ وهل تأكد أن إيران مجرد نمر من ثلج، وأن دورها لا يتعدى دور شركة مضاربات ووسيط مستأجر لتوفير المرتزقة، وأنها وبعد حصار لتكريت استمر لأكثر من شهر من أكثر من ثلاثين ألفا من مليشيا الحشد الطائفي ومع وجود الجنرال قاسم سليماني، مع ثلاث فرق عسكرية عجزت عن التقدم مترا واحدا لإخراج مائة أو بعض مائة من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية لولا التدخل الأمريكي بضربات جوية مكثفة وبالقنابل الذكية.
وهل باتت أمريكا تعرف أهميتها لحكومة المنطقة الخضراء في بغداد، ولهذا راحت تبتزها في انتزاع تنازلات عملية مقابل حديث غامض عن احترام المقاتلين الإيرانيين للسيادة العراقية المفقودة أصلا، فإذا اختار العبادي أمريكا كشريك مفضل على سائر الشركاء بمن فيهم إيران، فمعنى ذلك أنه يغامر بمستقبله السياسي مع وجود مراكز قوة تتراوح بين قيادة حزب الدعوة الحاكم وقيادات الحشد الطائفي وحوزات النجف المتصارعة على الخمس وهذه القوى كلها تتحرك بإشارات من الريموت كونترول الإيراني، وهي كثيرة وتتربص بالعبادي ليس لأنه نجح أو فشل، سرق أم استعصم، وإنما لأن تلك المراكز تريد إزاحته وتتحين الفرصة والوقت المناسب لإعلان البيان الأول عن انقلاب أبيض داخل المنطقة الخضراء المحصنة.