روح المصالحة بين #أردوغان و #أوجلان

محمد زاهد غُل

تتعرض الأحزاب والقوى والتيارات الكردية في تركيا إلى الانقسام والاختلاف والتنافس والصراع لأكثر من سبب، بعضها أيديولوجي أو قومي أو اجتماعي أو سياسي أو غيرها، وهذه الاختلافات قديمة وقد وصل بعضها إلى الأعمال العسكرية والارهابية ضد بعضها بعضاً.

 

 

ومن أكبر المشاكل التي اختلفت عليها طبيعة الحل للمسألة الكردية في تركيا، ما أصبح يطلق عليه المصالحة الداخلية، التي تتوجه بها الحكومة التركية لكل القوميات التركية، بهدف الانفتاح الداخلي على الهويات القومية، لتكون عامل قوة وثراء ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي، بدل أن تكون عامل فرقة وتشتت داخلي، والأخطر منه أن تكون أداة بيد الخارج لإضعاف تركيا وإعاقة تقدمها.

ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، كان يضع في برنامجه السياسي حل المشاكل المعقدة التي يواجهها المجتمع التركي ومنها، مشكلة القوميات التركية، وبالأخص القومية الكردية، التي سعى الحزب لحلها كجزء من المشاكل التركية الموروثة والقائمة، بهدف الوحدة المجتمعية التركية بكافة الوان طيفه المختلفة، ومنذ عام 2005 كان سعي حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان بأن حل المسألة الكردية سيكون على قاعدة تبناها أردوغان، عام 2005 تقول: بأنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا، وإنما توجد مشاكل تركية كثيرة بحاجة إلى حلول منها، تعدد القوميات والاثنيات والأديان الكثيرة، والقومية والهوية الكردية واحدة منها، ولن يتم حل مشكلة قومية واحدة بدون أخرى، وإنما حل مشاكل كل القوميات التركية، بوصفهم مواطنين أتراك ينحدرون من اصول وإثنيات متنوعة.

ومنذ ذلك التاريخ أخذت المسألة الكردية رؤية واضحة لدى حزب العدالة والتنمية، وبنسبة أقل لدى بعض الأحزاب السياسية ذات الصبغة الكردية في تركيا، من خلال قياداتها الخارجية والداخلية، وبالأخص قيادة الزعيم الأكبر للأكراد عبدالله أوجلان، نزيل سجن إمرالي منذ عام 1999، فأوجلان شهد تغييراً فكرياً في أيديولوجيته، وشهد رؤية جديدة في الحل السياسي الذي ينشده للمسألة الكردية في تركيا، هذا مؤكد من خلال رسالتيه اللتين وجههما إلى الشعب الكردي في عيد النيروز عام 2013 وعام 2015، ورغم ان الفوارق ليست كبيرة بين الرسالتين فإن فيهما تأكيدا على طبيعة التغيير الذي حصل في عقليته، وأن ما يطرحه في الرسالتين يؤكد أنها ليست مناورة سياسية، باعتبار أنه سجين يسعى للخروج من سجنه عن طريق الخداع أو التنازلات الوهمية.

قبل ان نقرأ بعض افكار اوجلان للحل السلمي، نذكر بأن الرئيس التركي كان قد أوصل أكثر من رسالة شفوية إلى عبدالله أوجلان يناشده فيها أن يواصل جهوده نحو المصالحة الداخلية، قائلاً له، «لقد بدأنا مشوار المصالحة معا وعلينا أن ننهيه معا»، ولا شك أن هذه الدعوة من أردوغان لأوجلان وجدت تأثيرها ودورها في قناعة أوجلان، أنه امام مهمة تاريخية قد لا تتكرر مرة أخرى في السنوات المقبلة، لذلك نقرأ في رسالة اوجلان مشاعر الجدية والشجاعة والتفكير والفكر الجديد، ومنها أقواله في الرسالة الأخيرة في عيد النيروز «احيي نيروز شعبنا وجميع الأصدقاء والمؤيدين للديمقراطية والحرية والمساواة والسلام».

وتخلو هذه التحية من عبارات النضال والكفاح والثورة، فالتحية بحد ذاتها عنوان مرحلة جديدة من زعيم خاض كل مراحل العمل العسكري سابقا.

ثم ينتقل أوجلان فورا إلى الموضوع مباشرة فيقول «يتم احياء او معايشة الازمة الناجمة عن سياسات النيوليبرالية التي فرضها النظام الرأسمالي الامبريالي والأنظمة المحلية الاستبدادية المتواطئة معها على العالم في منطقة بشكل مدمر جدا، ففي حالة الازمة هذه يتم القضاء على الشعوب والثقافات والتنوع الاثني والديني عن طريق حرب الهوية الوحشية. فلا قيمنا التاريخية ولا المعاصرة ولا السياسية ولا الوجدانية تقبل ان تبقى صامتا مقابل هذه اللوحة. على العكس فان القيام بمداخلة سريعة لهذا الوضع هو ضرورة معتقداتنا الدينية ومسؤوليتنا الأخلاقية والسياسية».

هذا التشخيص مهم جدا أن يصدر عن عبدالله أوجلان، لأن فيه تشخيص لنشوء الأزمة الكردية في تركيا والعديد من الدول العربية، بل وكل المشاكل القومية التي نشأت في اعقاب اسقاط الدولة العثمانية، وهو تعرض شعوب هذه الدولة إلى مرض الهويات القومية الضيقة، التي يصفها اوجلان بمصطلح القومية، فالحركة القومية هي بسبب السياسات النيوليبرالية التي فرضها النظام الرأسمالي الإمبريالي أولاً، ثم الانظمة الاستبدادية التي نشأت عقب زوال الدولة العثمانية ثانياً، وهذه القراءة الأوجلانية تبين أن قوميات الدولة العثمانية كانت جميعا ضحية عمل استعماري، او ان الدولة الاستعمارية ساعدت على نشوء النزعات القومية لكل القوميات التي كانت تعيش في دولة واحدة بسلام وأمان، بهدف اضعافها على قاعدة فرق تسد.

والركيزة الكبيرة والمهمة في عقلية أوجلان الجديدة تستدل على صحة مواقفها بالعقائد الدينية، فيقول، «معتقداتنا الدينية ومسؤوليتنا الأخلاقية والسياسية توجب علينا العمل لتصحيح الرؤية المتوحشة للهوية القومية، وعدم البقاء صامتين امام مشاكلها»، فما حصل في المرحلة السابقة من حزب العمال الكردستاني من عمليات عسكرية، وما وقع فيها من ضحايا قدرت بنحو 40 ألف قتيل ومئات مليارات الدولارات من الخسائر المادية، لم تؤد إلى نتيجة مرضية من وجهة نظر اوجلان، فإذا لم يكن من الممكن الاعتراف بانها ذهبت سدى، فلا بد من الاعتراف بأنه لا يمكن المواصلة في هذا الطريق، طريق العنف والارهاب والقتل والتدمير.

ويرى أوجلان أن روح المرحلة الحالي لا تسمح بمواصلة العنف لأسباب قومية، كما كان الحال في القرن الماضي، مما يفرض الدخول في مرحلة جديدة، فيقول اوجلان في رسالته «ان نضالنا الذي خضناه من اجل سلام مشرف وديمقراطية وحرية واخوة شعوب المنطقة، هو على عتبة تاريخية في هذا اليوم. كيف نعمل على ان نضال حركتنا المليء بالآلام خلال أربعين عاما، لن يذهب سدى، وقد صل لمرحلة لا يمكن الاستمرار فيها بالشكل نفسه، فالتاريخ وشعبنا يطلبان منا سلاما وحلا ديمقراطيا يتوافق مع روح المرحلة. على هذا الأساس نحن جميعا امام مهمات البدء بالمرحلة الجديدة، على أساس النقاط العشر لمشروع الحل الذي تم الإعلان عنه بشكل رسمي في قصر دولمة بخجة».

وهذا التشخيص للمشكلة وضرورة الخروج منه والبدء بمرحلة جديدة هو شيء متفق عليه بدرجة كبيرة بين الرؤية الأردوغانية والأوجلانية، وكذلك القواعد الأساسية للحل، بموافقة اوجلان على النقاط العشر لمشروع الحل الذي تم الاعلان عنه بشكل رسمي في قصر دولمة باهشة، التي تم التوقيع عليها من قبل مندوبين عن الحكومة التركية وحزب ديمقراطية الشعوب، الذي يتحرك بإيحاء من أوجلان، قبل أيام من إصدار رسالة أوجلان.

وأعقب أوجلان ذلك بقوله، «أرى من الضرورة والاهمية عقد مؤتمر لإيجاد اتفاق وفق مبادئ مشروع الحل، ولإنهاء الكفاح المسلح، الذي خاضه حزب العمال الكردستاني ضد الدولة التركية خلال اربعين عاما، ولتحديد التكتيك والاستراتيجية المتوافقة مع جوهر وروح المرحلة الجديدة».

إذن اوجلان يتحدث عن جوهر روح المرحلة الجديدة، التي ينبغي التوصل لحل سياسي سلمي من خلالها، والدعوة لهذا المؤتمر لا تزال قيد البحث والتحضير، وشرط نجاح هذا المؤتمر عند عقده هو اعتماده على الروح التي سرت في رسالة أوجلان، سواء في تشخيص المشكلة وعلاقة الدولة الاستعمارية فيها، ثم القاسم المشترك بين الشعبين التركي والكردي العقدي الديني المشترك، والمسؤولية الاخلاقية والسياسية، التي توجب عليهما معالجة المشكلة، واخيرا القواعد العشر التي تم التوقيع على بنودها الأساسية بين الطرفين في قصر دولمة باهشه، ولذلك يقول أوجلان «آمل ان نحقق نجاحا في هذا المؤتمر من خلال الوصول الى اتفاق مبدئي خلال فترة قصيرة عبر تشكيل لجنة الحقيقة والتسوية، التي ستتشكل من البرلمانيين وهيئة المتابعة. فمع مؤتمرنا هذا سيتم البدء بمرحلة جديدة، استناداً الى دستور المواطنة الحرة ضمن الجمهورية التركية، نحن كمجتمع ديمقراطي صاحب هوية ديمقراطية ندخل مرحلة التآخي ضمن السلم. بهذا الشكل نتجاوز تاريخ الجمهورية المليء بالصراعات منذ 90 عاما ونسير نحو مستقبل منشود بالسلام الحقيقي ومعايير الديمقراطية الكونية. فالشيء الذي يليق بالتاريخ الحقيقي لنيروز هو ان احيي مرحلة كهذه بوجودكم. الحقائق الصحيحة من اجل منطقتنا وشعبنا، يجب ان تخص في الوقت نفسه المقدسات في منطقتنا، فالامبريالية الرأسمالية خلال القرنين الأخيرين، وعلى وجه الخصوص خلال القرن الأخير، دفعت بالهويات الدينية والاثنيات إلى الانغلاق على ذاتها بشكل يعاكس جوهرها ومعاداة بعضها بعضا على أساس قومية الدولة القومية، وفق سياسة فرق تسد».

هذا تشخيص يؤكد عليه أوجلان لكي يصل إلى كل كردي، وينبغي أن يكون واضحاً لكل عناصر حزب ديمقراطية الشعوب وقيادته التي لا تزال تعزف على وتر القومية، بينما أدرك اوجلان انها سبب ضياع القوميات العثمانية كلها، وليس الكردية فقط، ويختم اوجلان رسالته بالحل الذي أصبح يؤمن به فيقول « اننا مضطرون لتجاوز الدولة القومية التي ولدت الصراع والهدر والدمار والقومية، بالسياسة الديمقراطية والانتقال الى حياة مشتركة مع الهويات الأخرى بالديمقراطية المباشرة. لهذا السبب ادعو الدول القومية الى ان تقوم بإحلال نوع جديد من الاخوة الديمقراطية عن طريق السياسة الديمقراطية وإنشاء البيت المشترك. بهذه الوسيلة اناشد جميع الشباب والنساء بأن يناضلوا من أجل المساواة والحرية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية في المرحلة المقبلة».

بهذه الروح فقط يستطيع الشعب التركي بكل قومياته تجاوز أمراض الماضي ومعاناته، وتحقيق المصالحة الداخلية، إنها الروح الجديدة التي يحملها أردوغان واوجلان عن قناعة حقيقية، وهي التي ينبغي أن تواجه كل المعارضين لها من الأتراك والأكراد معاً، فصراع الأحزاب التركية ينبغي ان ينتهي كما صراع الأحزاب الكردية، فلا معنى للمدافعة عن الدولة القومية، التي أضعفت تركيا أولاً ، وعمل حزب العدالة والتنمية على تجاوزها، ويطالب اليوم عبدالله أوجلان الشعب الكردي إلى تجاوزها أيضاً، بعد أن ثبت فشلها ومخالفتها لمعتقداتنا.

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,624,676

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"