قبل أن يجرف الطوفان كل شيء، المثقف العربي قبل الخامس من حزيران.. بعد التاسع من نيسان..

فؤاد الحاج

كأن قدر المثقف الوطني والقومي الأصيل أن يصبح مؤرخاً لحقب تاريخ المآسي التي تمر بها الأمة منذ نكبة 1948 مروراً بنكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 واجتياح بيروت عام 1982 وصولاً إلى احتلال العراق في التاسع من نيسان/إبريل 2003، على الرغم من المآسي الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها أبناء الأمة نتيجة لسياسات الأنظمة العربية التي باعت كل شيء في الوطن وتنازلت عن كل حقوق الوطن والوطن لأعداء الأمة بعد أن رهنت البلاد والعباد لصندوق النقد والبنك الدوليين ولم يبق عند تلك الأنظمة حتى ورقة توت تستر بها عورتها مع الأسف الشديد، حيث لا يزال الجهل والفقر والمرض المسيطر على الأغلبية المطلقة من أبناء الأمة وشرائحها المجتمعية بالرغم من ازدياد نسبة المتعلمين خلال العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين المنصرم!.

وكأن أيضاً قدر المواطن أن يتلقى الصدمات المتتالية منذ منتصف خمسينات القرن المنصرم، ويتحمل نتائج أخطاء سياسات الأنظمة، وتبعات تقيؤات ما تقذفه أفواه بعض المثقفين الذين يهدمون المجتمعات العربية في الفضائيات وعبر وسائل الإعلام المقروءة بحجة "الديمقراطية" وهم أبعد ما يكونون عنها وعن مفهومها!.

فبعد قرون من الضياع ومحاولات شتى للعودة إلى الذات العربية الأصيلة، واستجلاء صورتها وواقعها ومراحلها التاريخية من قبل بعض المثقفين الوطنيين والقوميين في معظم بلاد العرب وبلاد المهاجر من أجل النهوض بواقع حال الأمة بما يحقق عزتها وكرامتها ووجودها الإنساني وما يطمح إليه المواطن المغلوب على أمره، وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والنهضة العربية في كافة المجالات، نجد أن قوى الشر الاستعمارية التي كانت السبب الأساس في تخلف الأمة لا زالت تعمل على منع تحقيق نهوض الأمة بطريقة مباشرة من خلال احتلال فلسطين، رغم تراجعها المؤقت في فترة الستينات إلى منتصف سبعينات القرن الماضي لتعود بمخططات جديدة لتطويق التحرك العربي الجماهيري وقواه الحية، حيث بدأت الأحزاب العربية تتراجع وتنقسم على بعضها البعض وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي لم تعد تؤمن فيها الجماهير بكل تلك القوى عملياً، لأن واقع الحال يثبت أن التخلف الموجود في عدد من الأقطار العربية التي نجد فيها أعداد ضخمة من الأحزاب والتنظيمات المختلفة التوجهات وكلها تعمل على تحقيق سياسة فرق تسد بدلاً من أن تلتقي تلك القوى على برنامج عمل موحد لمواجهة الأخطار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتهدد الوطن والمواطن، ووضع برامج في مستوى إدراك أبعاد الصراع القومي التحرري الذي تخوضه الأمة، أو على الأقل الإحاطة بالمخططات المعادية والمؤامرات والأفخاخ التي تنصبها قوى الشر الصهيو-أمريكية في مراحل نضال الأمة!.

قد يكون هذا الكلام كما يقول بعض السياسيين المتفذلكين الذين يطالبون بوضع النقاط على الحروف وذكر التفاصيل، أن هذا الكلام هو "نظري فقط" لا يقدم ولا يؤخر!. لذلك نقول لتحقيق ذلك ما على هذا المتفذلك أو ذاك إلا أن ينزل إلى الشارع ويعيش مع المواطنين المقهورين في قاع المدينة ليعرف حقيقة الأمراض التي يعاني منها أبناء الأمة أولاً دون أن يتفذلك ويقول أن هذه النقطة هي "خط أحمر" ممنوع تجاوزه في هذه المرحلة، لأن المواطن الذي ضحى هو ووالده وجده كما استشهد الملايين من أبناء الأمة من أجل استقلال البلاد وتحقيق القضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض وانخرط في صفوف الجيوش العربية طوعاً للدفاع عن عزة الوطن وكرامة شعبه، لم يعد اليوم يؤمن بكل ذلك لأن واقع الحال يقول أن سارقي قوت الشعب والمستحوذين على مقدرات البلاد هم معظم أولئك الذين انتخبهم الشعب نواباً عنه ليحققوا له طموحاته، وأهمها تعليم أبنائه في كافة مراحل التعليم وإيجاد فرص عمل لهم وتطبيبهم وتطبيب كبار السن مجاناً وتحقيق العدالة الاجتماعية دون أن يكون هناك سيد ومسيود أو ابن ست وابن جارية كما يقال.

وإلا فليسأل ذلك المسؤول نفسه أولاً لماذا تم فرض التجنيد الإجباري أو الإلزامي في عدد من بلاد العرب؟!. ولماذا يحاول المواطن بكافة السبل تهريب ابنه من تلك الخدمة بعد أن كان في الماضي يهب من تلقاء نفسه للذهاب إلى التطوع للخدمة في الجيش للذود عن حياض الوطن ضد المعتدين؟!.

وفي هذا الصدد نطرح السؤال التالي ما هو دور المثقف العربي الوطني والقومي الذي تحول إلى مؤرخ لمراحل الصراع العربي – الصهيوني؟ الجواب برأيينا هو محاولة منه لتبرئة ضميره أمام التاريخ ووضع الحقائق كما شاهدها وعايشها أو كما طالعها أمام كل أولئك السياسيين والمتفذلكين للفت انتباههم إلى معاناة الوطن والمواطن عبر مراحل الصراع التاريخي بين أعداء الأمة وبين القوى الوطنية والقومية الحية من أبناء الأمة كي لا تتكرر التجارب والمآسي.

وهذا يعني أن المعركة بين الحكومات التي يستخدمها الاستعمار وقوى الشر الصهيو-أمريكية لعرقلة تحرر الشعب وتأخير نهضته وبين الجماهير العربية قد أخذت بعداً جديداً في مراحل النضال العربي، يكمن في دور المثقف الواعي الوطني والقومي الذي بدأ بإعادة صياغة مراحل تاريخ الصراع العربي - الصهيوني للدفاع عن الوطن والمواطن بأسلوب نضالي جديد سيأتي أكله ولو بعد حين.

من هنا نرى أن تاريخ الخامس من حزيران/يونيو لم يكن سوى نقطة البداية التي أفرزت ما آل إليه وضع العراق في التاسع من نيسان/إبريل 2003، على الرغم من محاولات القيادة السياسية لحزب البعث العربي الاشتراكي تثوير الرأي العام العربي، وبناء نهضة الأمة العربية، وتحقيق تطلعات الجماهير في كافة المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية التي تمثلت بالفكر الثوري والمنطلقات النضالية على مستوى الوطن العربي، حيث لا زال التخبط والإحباط هو المسيطر على أوضاع الشارع العربي الذي كفر بكل القيم والأنظمة التي لا تعمل إلا على تحقيق مآرب أعداء العروبة.

ومن يعيد النظر بمراحل الصراع العربي – الصهيوني قبل الخامس من حزيران/يونيو 1967 يجد أن مرحلة ما بعد التاسع من نيسان/إبريل 2003، تعيد نفسها ولكن بأساليب جديدة، مما يوصلنا إلى نتيجة منطقية وهي، أنه على كل قيادات الأحزاب والتنظيمات الوطنية والقومية المختلفة، أن يضعوا خطة جديدة ترفع مستوى النضال والتحكم بأسلوبه لإعادة تفجير طاقات الجماهير مجدداً، حتى يتحول الاستعمار مرة أخرى من الهجوم إلى الدفاع، وهذا لن يتحقق إلا بتلاقي الخيرين من أبناء الأمة وقياداتها الحية وذلك بالبدء بتحقيق مصالح أبناء الأمة في القضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض، وإغناء العمل العربي الوطني والقومي المشترك وإخصابه بالثورة الفكرية والاجتماعية، وإعادة ذر بذور الوحدة العربية لأنه عندما تكون الوحدة العربية هي المحور الذي يغذي الفكر العربي الثوري، وعندما تعتبر القضية العربية في فلسطين وفي العراق كلاً لا يتجزأ في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها الأمة تنتفي عندها كل الأسباب والمحاذير التي جعلت المواطن يكفر بكل القيم ويبتعد عن تنظيرات هذا أو ذاك، لأنه يبدأ عملياً بمعايشتها يومياً، في الوقت الذي بدأ بعض أعداء العروبة والقومية العربية يجعجع ضد العروبة وضد القومية العربية في أكبر قطر عربي وهم بذلك يقدمون خدمة مجانية جلى لأعداء الأمة إن لم نقل أنهم متورطون في تلك الخدمة عن سبق إصرار.

وأخيراً نقول إذا لم تكن اليقظة الوطنية والقومية في مستوى التحدي الكبير الذي تواجهه الأمة، بدءاً بالمثقف الواعي الوطني والقومي، وصولاً إلى الأحزاب والتنظيمات الوطنية والقومية، هي المحرك الأساسي لنضال شعبي عربي شامل على مستوى الوطن الكبير ضد الاستغلال الطبقي، وضد سارقي لقمة عيش المواطن، فأن هذا المواطن لن يؤمن بكل ما يقال ضد التجزئة والتخلف، وضد الاستعمار.

فهل تعي القيادات الحية مغزى ومعنى تطوع مئات الآلاف من المواطنين العرب الذين هبوا في الشهر الثالث من عام 2003 للذهاب إلى العراق للدفاع عنه ضد تتار القرن الحادي والعشرين؟. وما معنى أن تهزج الجماهير العربية فرحاً من المحيط إلى الخليج بانتصارات المقاومة الوطنية العراقية التي أعادت الوجه المشرق للأمة في ظل أنظمة تحج إلى البيت الأبيض وتتهاوى في خلافاتها في قمم الذل والعار؟!. وما معنى أن تثور الجماهير في أي بلد عربي لتحرق الأخضر واليابس وما تطاله يدها من ممتلكات حكومية بغض النظر عن من يقف وراء ذلك، لو لم تكن هناك فعلاً بذور خطيرة للشقاق بين الشعب والحكومات كما حدث في بيروت مؤخراً؟!.

مما تقدم يجب على الواعين من أبناء الأمة العربية، أن يعرفوا، لماذا برز التطرف والإرهاب تحت مسميات دينية؟ وأن يعرفوا ما هو دورهم في تخلف أو تقدم معظم أبناء الأمة الذين كفروا بكل القيم والمعادلات السياسية والشعارات الوطنية والقومية. ويجب عليهم بحث سبل إعادة روح التضامن ضد طغاة العصر قبل أن يجرف الطوفان كل شيء فنصبح من النادمين، ونبكي على الأطلال. من هنا يمكن تقييم دور المثقف العربي قبل الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وبعد التاسع من نيسان/ أبريل 2003.

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,027,741

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"