الإعلام في خدمة من، وماذا؟! ‏

صبحي غندور‏

تحوّل الإعلام في السنوات الأخيرة إلى صناعةٍ قائمة بذاتها، بل إلى مؤسسات تجارية كبرى مثلها ‏مثل باقي الشركات والمؤسسات المالية التي تتحكّم في كثيرٍ من اقتصاديات العالم.‏

 

ويكفي الإشارة إلى أمثلة محدّدة حتّى ندرك خطورة ما يحدث على صعيد الإعلام وانعكاسه على ‏بلادنا العربية وقضاياها المتعدّدة. فروبرت موردوخ، مثلاً، وهو من أصل أوسترالي ومعروفٌ بتأييده الكبير ‏لإسرائيل، يملك امبراطوريةً إعلامية كبيرة تشمل الولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا وأكثر من خمسين بلداً ‏في العالم. وتضمّ إمبراطوريته، عدّة صحف ومجلات ودور نشر وشبكات تلفزيونية وشركات سينمائية ‏معروفة عالمياً، كشركة فوكس (‏Fox‏) للقرن العشرين، وخدمات على الكمبيوتر للمعلومات.‏

مثالٌ آخر، شركة جنرال إلكتريك في أميركا، وهي نفسها مالكة لشبكة ‏NBC‏ ولعددٍ آخر من وسائل ‏الإعلام الإذاعية، أمّا شركة "والت ديزني" فقد حازت منذ أكثر من عقدٍ من الزمن تقريباً على ملكية شبكة ‏ABC‏ الإخبارية المشهورة في أميركا..‏

طبعاً هذه الشركات لها مصالح وسياسات خاصّة داخل أميركا وخارجها، وهي تلعب دوراً كبيراً في ‏صنع السياسة الأميركية وفي ترشيح العديد من الأشخاص للمناصب الحسّاسة في الولايات المتحدة. لذلك ‏من المهمّ التساؤل عمّا يخدمه الإعلام وليس فقط عن من يملكه. ‏

فالإعلام، في أيّ مكانٍ أو زمان، هو وسيلة لخدمة سياسة أو ثقافة أو مصالح معيّنة. لذلك كان نشوء ‏الإعلام العربي في مطلع القرن الماضي انعكاساً لصراعات السياسات والمصالح والمفاهيم التي سادت ‏آنذاك. ولذلك وجدنا أنّ الدول الغربية الفاعلة آنذاك – خاصّةً بريطانيا وفرنسا- حرصت على موازاة تأسيس ‏الكيانات العربية الراهنة، واحتلال بعضها، بتكوين مؤسسات إعلامية، تخدم الطروحات الثقافية الغربية ‏وتعزّز أعمدة التقسيم الجغرافي الجديد للمنطقة. من أجل ذلك كانت الحاجة الغربية لمنابر إعلامية، ولأدباء ‏وكتّاب لا ينتمون فكرياً وثقافياً إلى المدافعين عن "الهويّة العربية". فالغرب أدرك أنّ تجزئة المنطقة العربية، ‏عقب الحرب العالمية الأولى، تتطلّب محاربة أي اتّجاه وحدوي تحرّري عربي مهما كان لونه، تماماً كما ‏أدرك الغرب في مرحلةٍ سابقة أنّ إسقاط الخلافة العثمانية ووراثة أراضيها يستدعي إثارة النعرات القومية بين ‏الأتراك وغيرهم من المسلمين في العالم.

لهذا تميّزت الطروحات الثقافية لمطلع القرن العشرين بألوان قومية ‏أولاً (في تركيا وفي البلاد العربية) مدعومةً من الغرب، ثمّ جرى الفرز الغربي فيما بعد بين تعزيزٍ للطرح ‏القومي التركي وبين محاربةٍ للطرح القومي العربي بعد أن استتبّ الأمر لبريطانيا وفرنسا في المنطقة ‏وأُقيمت الحدود والحواجز بين أبناء الأرض العربية الواحدة.‏

وفي المرحلتين، استهدِفت أيضاً الهُويّة الحضارية الإسلامية لأنّها تعارضت مع المشروع الغربي ‏الاستعماري بوجهيه (هدم الخلافة العثمانية أولاً، ثمّ بناء الكيانات العربية الإقليمية والسيطرة عليها بشكلٍ لا ‏يسمح بوحدتها في المستقبل). ‏

وأشدّد هنا على وجود المرحلتين في السلوك الغربي مع العرب لأنّ البعض يتجاهل هذه الحقيقة ‏ويحصر انتباهه في المرحلة الأولى فقط، أي مرحلة إثارة المشاعر القومية العربية قبل سقوط الخلافة. وأذكر ‏في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في مقالٍ للكاتب اللبناني المرحوم منح الصلح في ‏صحيفة الحياة (19/11/1993) حيث جاء فيه ‏"صحيفة البشير البنانية كانت وثيقة الصلة بالمفوض السامي الفرنسي على لبنان، وقد أشارت في أكثر من مقال صيف ‏عام 1937 إلى ابتهاجها وغبطتها بوجود بوادر يقظة للتثقيف بالثقافات الأصيلة القديمة، مشيرةً إلى الثقافة الفرعونية في مصر ‏والإسرائيلية في فلسطين والفينيقية في لبنان".‏

وأشير أيضاً إلى مجلة "المقتطف" (تأسّست في بيروت سنة 1876 ثمّ انتقلت إلى القاهرة سنة 1885 ‏واستمرّت حتّى سنة 1952)، وقد أصدرها يعقوب صرّوف وفارس نمر بتشجيعٍ وإشراف من الدكتور ‏كورنيليوس فان دايك عضو الإرسالية المسيحية في بيروت، التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم "الجامعة ‏الأميركية". والدكتور فان دايك كان عضواً في الإرسالية ومدرّساً فيها منذ عام 1840، وأنشأ مع بطرس ‏البستاني مدرسةً شهيرة في "عبيه" بلبنان. ‏

وأجد فيما قاله الدكتور أحمد حسين الصاوي، لدى تعقيبه على بحث الدكتور عبدالله العمر عن ‏مجلة "المقتطف"، خلال ندوة مجلة "العربي" بذكرى يوبيلها الفضي (عام 1984)، ما فيه خلاصة كافية عن ‏كيفية العلاقة بين نشأة الإعلام العربي وبين مصالح الدول الغربية المسيطرة آنذاك على بلاد العرب. يقول ‏الدكتور صاوي ‏"المقتطف والمقطّم كانا يمثلان تكتّلاً أو استقطاباً لجبهة واحدة، لأنّ التيّارات المتصارعة آنذاك في مصر اتّخذت شكل ‏الاستقطاب. فمثلاً كانت المدرسة الفرنسية مركزها صحيفة الأهرام، حيث يتكتّل أولئك الذين يدينون بالانتماء الكاثوليكي، وخاصّةً ‏الموارنة. القطب الثاني الذي كانت تمثله المقتطف كان يتمثّل في البروتستانت الذين كانت لهم جذور في ثقافة إنجليزية أو أميركية ‏معيّنة، وهؤلاء كانوا يلتفّون حول المقطّم والمقتطف. فكان المحفل الذي تنتمي إليه المدرسة الفرنسية يختلف تماماً عن المحفل ‏الذي كانت تنتمي إليه المدرسة الإنجليزية".‏

وهنا أودّ الإشارة إلى مسألتين تجنّباً للتعميم فيما سبق ذكره.‏

‏المسألة الأولى: أنّ الإعلام العربي في مطلع القرن العشرين (وهو هنا إعلام الصحافة) لم يكن ‏كلّه تغريبياً، بل ظهرت مطبوعات عربية كان لها الأثر البالغ في إحياء حركة الإصلاح الديني ‏والدعوة للنهضة الحضارية العربية ("العروة الوثقى" و"المنار").‏

المسألة الثانية: أنّ الكثير من الأدباء والكتّاب المسيحيين العرب قد لعبوا دوراً هامّاً في الحفاظ ‏على اللغة العربية وتنقيتها وتخليصها من الشوائب التي لحقت بها في عصور الانحطاط، وكذلك ‏في إعداد مجموعات كبيرة من كتب قواعد اللغة العربية (البستاني، اليازجي)، وكان لهم الفضل ‏أيضاً في استيراد المطابع وتسهيل عمليات النشر والطباعة وتكوين النواة التقنية لمؤسسات ‏إعلامية عربية كبيرة.‏

‏***‏

في النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد استقلال الدول العربية عن الانتداب الأجنبي، تميّز ‏الإعلام العربي عموماً بإخضاعه للرقابة الحكومية. وكان لبنان، في تلك الفترة، استثناءً إلى حدٍّ ما على ‏صعيد الحريات الإعلامية خاصّةً في مجال الصحافة. ويمكن القول أنّ حصيلة التجربتين الإعلاميتين في ‏المنطقة العربية (أي الانفتاح الكامل في لبنان والانغلاق الكامل في غيره بشكل عام) لم تساعد في صيانة ‏وحدة المجتمعات العربية أو تذويب الانقسامات داخل البلد الواحد.‏

إنّ الاستثناء اللبناني في مجال الحريات الإعلامية العربية، خلال عقود ما بعد مرحلة الاستقلال، لم ‏يمنع مثلاً من تفجّر الأزمات السياسية والأمنية داخل هذا البلد، بل على العكس، فالصحافة في لبنان ‏تحوّلت في تلك الفترة إلى سلع تُباع وتُشرى من أطراف عربية ودولية لتكون منابر إعلامية تخدم هذه ‏الجهات في صراعاتها ومشاريعها بالمنطقة العربية.‏

وللأسف ظهرت في مراحل مختلفة أصواتٌ وأقلامٌ عربية ارتضت أن تكون هي أيضاً عنصراً ‏مساهماً في إشاعة مناخ الانقسام الطائفي والمذهبي بين أبناء الأمّة العربية، فراحت تكرّر تصنيفاتٍ ‏وتسميات كانت في الماضي من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدّم التحليلات السياسية لبعض ‏الأقلام العربية، وأصحابها يتنافسون على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد فيما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل ‏الانقسام والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!. فكيف يمكن بناء مستقبل أفضل للشعوب وللأوطان ‏وللأمّة ككل إذا كان العرب مستهلكين إعلامياً وفكرياً وسياسياً بأمورٍ تفرّق ولا تجمع!.‏

هو الآن، في عموم العالم، عصر التضليل السياسي والإعلامي. فالتقدّم التقني، في وسائل ‏الاتصالات والشبكات العنكبوتية وإعلام الفضائيات، اخترق كلّ الحواجز بين دول العالم وشعوبها. وأصبح ‏ممكناً إطلاقُ صورةٍ كاذبة أو خبرٍ مختلَق، ونشره عبر هذه الوسائل، لكي يُصبح عند ملايين من الناس ‏حقيقة. هو أيضاً، كما كان في القرن العشرين، عصر "المال والإعلام"، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير على ‏صنع القرارات السياسية. هكذا فعل "اللوبي الإسرائيلي" في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث ‏تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب.‏

وجيّدٌ أن نجد الآن في المنطقة العربية من يدرك أهمية التفاعل الإيجابي بين الإعلاميين العرب، ‏ومحاولة تجاوز حدود المهنة المشتركة بينهم إلى آفاق التعاون والحوار والتفاعل الدوري، كما يحدث الآن ‏سنوياً في "منتدى الإعلام العربي" بدعوة من "نادي الصحافة" في دبي.     ‏

فمن المهم أن يُعنى الآن المفكّرون والمثقّفون والإعلاميون العرب بحجم مسؤولياتهم في صنع الرأي ‏العام العربي وبالتفكير في كيفيّة الوصول إلى "مشروع نهضوي عربي مشترك"، لا الاكتفاء بالتحليل ‏السياسي للواقع الراهن فقط .. فالملاحظ هذه الأيام في وسائل الإعلام العربية هيمنة التحليل السياسي ‏لحاضر الأمَّة، وأيضاً كثرة عدد "السلفيين" القابعين في ماضي هذه الأمّة، لكن عدد العرب المُعدّين والساعين ‏لمستقبلٍ أفضل لأوطانهم ولأمّتهم، يتضاءل يوماً بعد يوم .. علماً بأنَّ الأمّة التي لا يفكّر أبناؤها لمستقبلها ‏تنقاد لما يفكّره لها الغرباء.. وهاهم الآن في عقر الديار العربية!.‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,626,906

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"