في غياب المرجعية وتعطّل البوصلة..‏ #العرب إلى أين؟!‏

صبحي غندور‏

لا أعتقد أنّ هناك أمَّةً في العالم تشهد خليطاً من الصراعات والتحدّيات كما هو عليه حال الأمّة ‏العربية. فهذه الأمَّة تشهد، وعلى مدار قرنٍ من الزمن، مزيجاً من الأزمات التي بعضها هو محصّلة ‏للتدخّل الخارجي والأطماع الأجنبية، وبعضها الآخر هو إفراز لأوضاع داخلية يسودها الاستبداد السياسي ‏والتمييز الاجتماعي والفوضى الإقتصادية والفساد الإداري، إضافةً إلى جمود فكري في كيفيّة فهم الدين ‏وعلاقته بالمجتمع.‏

 

 

ورغم ومضات الأمل التي ظهرت عربياً بين فترةٍ وأخرى، واستمرار إرادة العمل من أجل التغيير على ‏أكثر من ساحة عربية، فإنّ المراوحة في المكان نفسه، بل التراجع والانحدار الخطير، هما السمة الطاغية ‏الآن على الأوضاع العربية.‏

وقد تعرّضت أممٌ كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي واجهت العرب، كمشكلة ‏الاحتلال  والتدخّل الأجنبي، أو كقضايا سوء الحكم والتخلّف الاجتماعي والاقتصادي، أو مسألة التجزئة ‏السياسية بين أوطان الأمّة أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها .. لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة ‏امتزجت فيها كلّ هذه التحدّيات في آنٍ واحد كما يحدث الآن على امتداد الأرض العربية. ‏

فخليط الأزمات يؤدّي إلى تيه في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات ‏المحلية تبعاً لطبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة بينما هو الهمّ الشاغل ‏للطرف الآخر، خاصّةً بعد غياب دور المرجعية الفاعلة الذي كانت تقوم به مصر، وبعدما تعطّلت ‏البوصلة التي كانت تُرشد العرب، وهي القضية الفلسطينية كرمز للصراع العربي/ الصهيوني.‏

لقد عاش العرب حقبةً زمنية مضيئة في منتصف القرن العشرين حينما كانت هناك مرجعية فاعلة ‏وبوصلة سليمة، فكانت أولويات العرب واحدة وجهودهم مشتركة من أجل معارك التحرّر الوطني من ‏الاستعمار الأجنبي، ثمّ جاءت حقبة الستينات التي طغت عليها قضية الصراعات الاجتماعية إلى حين ‏الهزّة الكبرى للمنطقة التي أحدثتها هزيمة العام 1967.‏

إذ تبيّن أنّ الصراع مع الكيان الصهيوني، بل وجود الكيان الغاصب نفسه في المنطقة، قادرٌ على الإخلال بأي توازن ‏يصنعه العرب لأنفسهم، وبأنّه يدفع الكثير من الأولويات إلى الخلف، وبأنّه يهدم إنجازاتٍ كبرى تكون قد ‏تحقّقت في قضايا أخرى. هكذا كان الدرس الذي أدركه جمال عبدالناصر في مصر عقب حرب العام ‏‏1967، حيث تراجعت أولويات مصر الناصرية في قضايا الوحدة والتغيير الثوري للمنطقة، وبرزت أولويّة ‏المعركة مع العدو الصهيوني التي من أجلها جرى آنذاك التحوّل الكبير في سياسة القاهرة. فكان التركيز الناصري ‏هو على مواجهة التحدّي الصهيوني ووقف الصراعات العربية/ العربية مهما كانت مشروعيّة بعضها، وبناء ‏ركائز سليمة لتضامن عربي فعّال ظهرت نتائجه الهامّة في حرب أكتوبر عام 1973، رغم وفاة جمال عبد ‏الناصر قبل حدوثها، لكنّها كانت محصّلة للسياسة الداخلية والخارجية التي وضعها ناصر بعد حرب ‏‏1967.‏

وكم كان جهلاً متعمّداً للحقائق حينما أصرّ البعض على اعتبار أنّ ما عاشته الأمّة العربية في ‏العقود الأربعة الماضية هو إفراز لنتائج هزيمة عام 1967 بينما الواقع أنّ التحوّل السلبي الخطير قد حدث ‏بعد حرب أكتوبر 1973، حينما عملت الإدارة الأميركية آنذاك على إخراج مصر من الصراع ‏العربي/الإسرائيلي، وما سبّبه ذلك من انهيار للتضامن العربي ومن بدء الصراعات العربية الأهلية (كحرب ‏لبنان التي انغمست فيها سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية وقوى عربية أخرى) أو الحروب الحدودية كما ‏حدث بين عدّة دول عربية، إضافةً إلى إشتعال الحرب العراقية/ الإيرانية ثمّ قضية ‏الكويت، وما أدّت إليه هذه الحروب الخليجية من استنزاف هائل للثروات العربية ولطاقات دول عديدة في ‏الخليج العربي. وهذه الحروب "الأهلية" و"الحدودية" و"الخليجية" كلّها كانت تحدث في الربع الأخير من ‏القرن العشرين بينما تسرح إسرائيل وتمرح في المشرق العربي وتجتاح لبنان وعاصمته، وتزيد من ‏المستوطنات اليهودية ومن تدمير مقوّمات الحياة للشعب الفلسطيني.‏

حدثت هذه الحروب الاستنزافية للأمَّة العربية في الوقت نفسه الذي ازدادت فيه مشكلة انعدام ‏الديمقراطية والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وسوء إدارة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فزادت ‏الحكومات تكلّساً وتكاسلاً بينما زادت الشعوب تخلّفاً وفقراً.‏

ثمّ جاء مطلع القرن الحادي والعشرين ليحمل معه المزيد من المآسي لأوضاع هذه الأمَّة، حيث ‏انفجرت قضية "الحرب على الإرهاب" لتكون أرض العرب ساحتها الرئيسة، في ظلّ إدارة أميركية وظّفت ‏الإرهاب على أميركا والحرب على الإرهاب لصالح أجندة خاصّة بها، كان الأساس فيها الشرق الأوسط ‏عموماً والمشرق العربي خصوصاً.‏

الآن، تعيش الأمّة العربية كلّ أنواع الحروب الأهلية والأزمات الإقليمية والصراعات الدولية وأعمال ‏العنف والإرهاب وبروز جماعات متطرّفة في أكثر من بلد عربي.. وكلُّ ذلك يحدث دون بوصلة سليمة ‏ترشد هذه الأمّة إلى الهدف الصحيح، وفي غياب قيادة عربية جامعة لإرادات الأمَّة المبعثرة.‏

لذلك، هي حاجة كبرى الآن إعادة تصحيح البوصلة في الحدِّ الأدنى، وتلك مسؤولية تقع على عاتق ‏مفكّري هذه الأمَّة وقياداتها المدنية الفاعلة، وممّا يستوجب أيضاً ضرورة صياغة "مشروع عربي مشترك" أو ‏رؤية عربية لمستقبلٍ أفضل، تحمل في مضامينها حسماً لمنطلقات، ورسماً لغايات، وتحديداً لوسائل تؤدّي ‏بمجملها إلى تصويب منشود للصراعات، وإلى إعادة ترتيب أولويّات هذه الأمَّة وطنياً وعربياً.‏

صحيحٌ أنّ المسألة الديمقراطية هي أساس مهمّ للتعامل مع كلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، لكن ‏العملية الديمقراطية هي أشبه بعربة تستوجب وجود من يقودها بشكل جيّد، وتفترض حمولةً عليها، وهدفاً ‏تصل إليه. وهذه الأمور ما زالت غائبة عن الدعوات للديمقراطية في المنطقة العربية. فتوفُّر آليّات  الحياة ‏السياسية الديمقراطية وحدها لن يحلّ مشاكل الأوطان العربية، بل العكس حصل في عدّة بلدانٍ عربية ‏شهدت من الديمقراطية مظاهرها فقط وآلياتها الانتخابية.‏

ومهما توفّرت أفكارٌ جيّدة في الساحة العربية، فإنّ وجود الفكرة وحده لا يكفي. فالفكرة، كي تتحوّل ‏إلى دعوة ناجحة، تتطلّب وجود أربعة عناصر لهذه الدعوة : ‏

‏1.‏ وضوح الفكرة وسلامتها وانسياقها مع الواقع، وانطلاقها من الأصول المبدئية للهويّة الثقافية ‏العربية ولمضمونها الحضاري، لا من الفروع التفصيلية الموجودة فيها. ‏

‏2.‏ وجود الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين يحملون هذه الفكرة، والذين ينسجم سلوكهم مع ‏طرحهم الفكري، بحيث لا تبرز مشكلة الانفصام بين الفكرة والتطبيق، وممّا يجعلهم - بما ‏يجب أن يتحلّوا به من كفاءة وقيم ومبادئ - نقطة جذبٍ للفكرة نفسها. ‏

‏3.‏ بناء مؤسسات متنوّعة المجالات، متعدّدة الرؤى لأساليب العمل، ديمقراطية الأسلوب والبناء ‏الداخلي . ‏

‏4.‏ رفض استخدام العنف بكافّة أشكاله في أسلوب العمل من أجل التغيير، ثمّ التعامل مع ‏الظروف المحيطة بحكمة ومرونة من أجل تحسين هذه الظروف لتنسجم مع إمكانات الدعاة ‏ومؤسساتهم. ‏

أيضاً، إنّ التوافق على فهمٍ مشترك لمعنى أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي حوار أو عمل ‏يستهدف تحقيق نهضة عربية. فالتشويه حدث ولا يزال في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت ‏هي الأساس في تغييرٍ إيجابي بكثيرٍ من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش ‏مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم ‏بها. فمصطلح "الشرق الأوسط" أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير "الأمَّة العربية". ومصطلح "المصالح ‏الطائفية والمذهبية" أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن "المصلحة الوطنية أو القومية". ‏

إنّ التحرّر الوطني، واستقلالية القرار الوطني، هما الأساس والمدخل لكلّ القضايا الأخرى بما فيها ‏مسألة الديمقراطية. وإنّ أولويّة الإنسان العربي، في أيِّ بلد عربي، هي تأمين لقمة العيش بكرامة وتوفير ‏العلم والسكن والضمانات الصحّية لأفراد العائلة. وهذه الأولوية للمواطن لا تتناقض مع أولويات الوطن من ‏حيث التحرّر والبناء الدستوري السليم. فإذا كان واجب المواطن هو العمل الصالح في المجتمع، فإنّ واجب ‏الحكومات هو توفير معاني المواطنة لكي يتعزّز الولاء الوطني لأبناء الوطن الواحد.‏

إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى بناء مؤسسات وروابط عروبية ديمقراطية تحرّرية ‏تستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، ‏مؤسسات فكرية وثقافية وسياسية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية.. وإذا ‏ما توفّرت القيادات والأدوات السليمة يصبح من السهل تنفيذ الكثير من الأفكار والمفاهيم والشعارات ..‏

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,047,333

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"