((جزء مستل من كتاب "من اوراق سعادة السفير" د.سامي سعدونـ صادر في القاهرة عام 2010))
الصورة: زيارة الأستاذ طارق عزيز لجريدة الثورة في أواخر السبعينات، ويبدو المرحوم الأستاذ سعد قاسم حمودي برفقته. أرشيفية.
سامي سعدون
لقاء جنيف غير المباشر مع الإيرانيين
بعد عام على توقف الحرب الإيرانية – العراقية في 8/8/1988، وتحديداً في نيسان عام 1989 وافق الإيرانيون على اللقاء مع وفد عراقي في مفاوضات شرط أن تكون (غير مباشرة) برعاية الأمم المتحدة، وبالفعل جرى اللقاء في المقر الصيفي للمنظمة الدولية في جينف.. حيث جلس الوفدان متقابلين وفي الوسط جلس الأمين العام للأمم المتحدة، خافيير دي كويلار، ومعه بعض معاونيه، وعندما تحدث الإيرانيون كانوا يوجهون كلامهم للأمين العام وعندما يرد العراقيون بنفس الطريقة (مباحثات عبر الأمم المتحدة!) وقد كان الأستاذ طارق معترضاً على ذلك ومقترحاً أن تكون المفاوضات بشكل طبيعي ثنائي دون الحاجة إلى وسيط ، ولكن الإيرانيين أصروا على أن تكون (غير مباشرة )!
وخلال هذه المفاوضات كان الأستاذ طارق كثيراً ما أفحم الجانب الإيراني الذي كان يترأسه وزير الخارجية علي أكبر ولايتي .. بالحجة والحقائق يقابلها الإيرانيون بالتسويف والمماطلة، هدفهم اقناع الأمم المتحدة بأن العراق هو من بدأ العدوان ، ولكن شروحات ومداخلات الأستاذ طارق وما لدى العراق من ادلة على أن الإيرانيين هم من بدأ العدوان، وابرزها ان العراقيين اسقطوا طائرة إيرانية مغيرة على بغداد قبل 22/9/1980 تاريخ بدء الحرب بأسبوعين، وقبلها مقاتلة ايرانية مماثلة وظل طياراها محتجزين في العراق حتى عام 1999{على حد علمي إذ لا أعلم بعد ذلك إذ التحقت قبل ذلك في عملي في السفارة في بلغراد} فضلاً عن الاعتداءات التي تعرض لها العراقيون وعوائلهم ممن كانوا يعملون في البعثات والمدارس العراقية في ايران، والقصف الذي أستمر على القرى والمخافر الحدودية العراقية والتهديدات الإيرانية باجتياح العراق تحقيقاً لشعار خميني (تحرير القدس يمر بكربلاء!) وفق سترتراتيجة "تصدير الثورة". وعندما أيقن ملالي ايرانأن لا فائدة في أقناع العراقيين، فكروا بطريقة – خبيثة- أخرى لتحقيق مراميهم ضد العراق! وهذه الطريقة شراء ذمة الأمين العام (دي كويلار) .. وقد نصحنا أحد الوزراء الأشقاء الخليجيين، وكان مقيماً في نفس وقت المحادثات في فندق(انتركونتنتال) مقر إقامة الوفد العراقي .. بأن نتحرك على (دي كويلار) بقوله "حركوا جيبوبكم" كي ينهي المسألة ويقول ان الإيرانيين مذنبون مضيفاً [الله وكيل أبو زياد .. خشلات {مصوغات ذهبية} زوجة وابنة دي كويلار ومصروفاتهم من هذا الخرج! مشيراً إلى جيب دشاشته] وأضاف: تحركوا قبل فوات الأوان فاحتمال ان يسبقكم الايرانيون! إنه يأخذ ويمكن أن يفعل شيئاً لصالحكم! لم يعلق الأستاذ طارق كان مستغرباً، وقال أن الحق معنا وهم المعتدون.
وفعلها الإيرانيون واشتروا (دي كويلار) بدليلأنه بعد زيارد الاخير للعراق عشية عدوان عام 1991 على العراق عقد مؤتمراً صحفياً في الأردن (عمان) تحدث فيه عن لقائه بالرئيس صدام حسين وأنه لم يتوصل إلى نتيجة بخصوص الكويت واختتم المؤتمر، بشكل عرضي ومفاجئ ودون أن يسأله أحد عن الحرب بين العراق وإيران والتي صارت من الماضي قائلاً "العراق في حرب الثمان سنوات هو المعتدي على إيران"!
لقاء مع رفسنجاني
واثناء العدوان الثلاثيني الغاشم على العراق عام 1991 وعند مرور الوفد العراقي برئاسة الأستاذ طارق بطهران في طريقنا إلى موسكو لمناقشة المبادرة السوفيتية لوقف العدوان، أصرّ الجانب الإيراني على ترتيب لقاء للأستاذ طارق مع الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني، وكان اللقاء منفرداً حيث منعت من الدخول وقد استغرق اللقاء بحدود ساعة واحدة، خرج بعدها الأستاذ طارق محمرّ الوجه وعلامات الغضب واضحة قائلاً "سامي اجعل طريق العودة إلى بغداد عبر الأردن وليس طهران، لا أريد أن أرى هؤلاء"!!
فهمت من خلال إعداد المحاضر، أن رفسنجاني حاول التشفي بما يحصل للعراق بعد أن فشل في معرفة نوايانا وقدراتنا واستعداداتنا للصمود بعد حمم الاميركان ومعهم 33 دولة، ليساومنا بعد ذلك! إذ أسكته الأستاذ طارق بشجاعة رافضاً تهديداته، اذ طالب بتسليم العراق (مجاهدي خلق) او السماح للايرانيين بالدخول لتصفيتهم! لأنهم على حد قول رفسنجاني (منافقون) فرد الأستاذ طارق هؤلاء دخلاء أما المنافقون فلديكم يمثلهم (الحكيم) وفيلق بدر، والرسول محمد (ص) أجار حتى الكفار فكيف تريدنا أن نطرد مؤمنين دخلاء فغضب رفسنجاني ولم يعقب!
وهذا الموقف العراقي الشجاع تكرر في مباحثات بغداد مع (ولايتي).
عزيز وبيكر
وفي لقائه الشهير مع وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، في جنيف قبيل بدء العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991، وبعد تهديدات (بيكر) بأن أميركا ستعيد العراق إلى ما قبل العصر الصناعي، وأنها ستغير القيادة العراقية وتنصب حكاماً من أتباعها !أجاب الأستاذ طارق عزيز بكل رجولة وثقة "نعم انكم تستطيعون تدمير العراق بما تملكون من قوة غاشمة ولكنكم لن تستطيعوا القضاء على العراق فعمره سبعة آلاف سنة قبل الميلاد.. فسيبقى العراق وانتم الزائلون"، كما رفض استلام رسالة بوش الاب للرئيس صدام للغتها غير المؤدبة!
وفي كتابه الذي إصدره عن تلك الفترة وبالذات عن عدوان 1991 امتدح بيكر كفاءة وشجاعة الأستاذ طارق في الدفاع عن قضية بلده وقال " لقد صدقت نبوءة طارق عزيز فقد بقوا ونحن (يقصد بوش الأب وحلفائه تاتشر وميتران) الذين خسرنا السلطة وخرجنا".
لقاءات نيويورك
ومن اللقاءات المتعددة مع أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين التي استمرت لعدة سنوات (1991- 2000) والتي رافقته فيها، كان الأستاذ طارق– بحق– مدافعاً شجاعاً وجريئاً ومتمكناً، رغم أن كل الأجواء عدائية والجميع خائفون أمام طغيان الجبروت الأميركي، فكان يرد – بعنف- على مزاعم الأميركان وإذنابهم وبالذات البريطانيين ويفندها ويثبت للعالم أنها اتهامات باطلة، ولكن لا حياة لمن تنادي! إنهم يعرفون الحقائق ولكن الحكام مرعوبون من أميركا وفي الوقت الذي يقف فيه الأستاذ طارق، منتقداً ومتحدياً الأميركان من خلال المنابر الدولية في نيويورك، كان بعض وزراء الخارجية ورؤوساء دول اشقاء وممن لهم علاقات طيبة مع العراق وشخصية مع الأستاذ طارق، يتجنبون ملاقاة وفدنا ويتهربون حتى من إلقاء التحية والسلام!!
وفي نيويورك عقد أكثر من لقاء صحفي وكان دائماً ما يعطي الصحفيين مادة للحديث عن الموقف العراقي شارحاً دون كلل، وفي محاضرة له في معهد نيويورك للدرسات الاستراتيجية حيث قدمه مدير المعهد بطريقة استفزازية إذ وصفه بأنه أبرز معاوني (الدكتاتور صدام حسين) وأن يديه ملطختان بالدم، كما أمطروه بوابل من الأسئلة العدائية، ولكن وبكل هدوء ردّ عليهم مفنداً أكاذبيهم بكل شجاعة ورباطة جأش وجرأة، حتى أن مدير المعهد الذي وصفه بالدموي، اعتذر بشكل غير مباشر واثنى على براعته وطريقته في الدفاع عن قضيته، وخرج معنا إلى الباب مودعاً.
وفي أول لقاء تلفزيوني مع قناة (CNN) الأميركية في أول زيارة لنيويورك بعد عدوان عام 1991 استضيف في برنامج شهير يعده اثنان من أشهر مقدمي البرامج السياسية وكان أحدهما هجومياً وبنفس عدائي والآخر اهدأ، ومع هذا دافع الأستاذ طارق ببراعة ورجولة، وفي العادة عندما ينتهي اللقاء يأتي التقييم من قبل مقدمي البرنامج فجاء التقييم بما خلاصته [ نحن نعرف أن نظام صدام دكتاتوري حيث نسعى للقضاء عليه ، ولكن نظام لديه وزير خارجية بمثل براعة وحنكة ودبلوماسية وثقافة هذا السياسي المحنك والدبلوماسي اللامع طارق عزيز.. جدير بإدارة الرئيس كلنتون أن تفتح حواراً معه].
اللقاء مع أولبرايت
ولعل من اللقاءات الشهيرة لقاء الوفد العراقي برئاسة الأستاذ طارق عزيز مع رئيسة مجلس الأمن/ مندوبة أميركا (مادلين أولبرايت) عام 1994.. عندما قام بتسليمها أوراق الاعتراف بالحدود الجديدة مع الكويت، بناء على مبادرة روسية لرفع الحصار عن العراق، حيث أمرنا الأستاذ طارق بعدم الجلوس عند دخول مكتبها، وكانت أولبرايت تنتظرنا في الباب حيث دعتنا للجلوس فلم نفعل وقام الأستاذ طارق بتسليمها وثائق الاعتراف طالباً منها ان تبر أميركا بوعدها برفع الحصار احتراما لاصدقائهم الروس اصحاب المبادرة.
كانت أولبرايت متأنقة ومبتسمة على غير عادتها، وعند المغادرة تقدم منا صحفي أميركي سائلاً الأستاذ طارق " هل هناك شيء لفت انتباهكم في أولبرايت؟" قال الأستاذ "لا"، كرر الصحفي سؤاله اكثر من مرة مضيفاً "صدر أولبرايت ألم يجذب أنظاركم؟" أجاب الأستاذ طارق ساخراً "ما الذي يغرينا بالنظر إلى صدر (أولبرايت) هل هو صدر شارون ستون" وكان لـ (ستون فيلم مغر جديد) يعرض، وقتها، في صالات نيويورك!
بعد العودة إلى مقر الإقامة علمنا أن أولبرايت كانت تضع على الجهة اليسرى من صدرها دبوساً (بروش) عبارة عن أفعى وقد تقصدّت بوضعه بشكل لافت عند استقبال وفدنا لأن أحد الشعراء العراقيين (غزاي درع الطائي) قد وصفها في قصيدة منشورة في جريدة الثورة ببغداد بالافعى، وذلك قبل اللقاء بها بيوم واحد! الصحفي الاميركي نشر في اليوم التالي– وبخبث وبعنوان بارز"صدر أولبرايت لا يغري العراقيين"!
لقاء أنقرة العاصف مع تشيللر
وكان اللقاء مع رئيسة الحكومة التركية السيدة تانسو تشيللر، منتصف التسعينات في أنقرة عاصفاً، إذ رد عليها الأستاذ طارق بشدة موبخاً أياها لدفاعها عن موقف إدارة بوش في حصارها وعدوانها على العراق، غامزاً أن ذلك لا يخدم العلاقات بين العراق وتركيا وإنما يرضى الأميركان! أراد أن يقول لها إنك تحملين الجنسية الأميركية ومن الطبيعي أن يكون موقفك بهذا الانحياز! وقد انفض اللقاء بجو مشحون بالتوتر والزعل. ويبدو أن الأصدقاء الاتراك أدركوا أنه ليس من الصحيح تأزيم العلاقات مع العراق، فجاء السيد عبدالله غُل وكان وزير دولة، إلى مقر الاقامة وتناول العشاء مع الوفد العراقي في محاولة لتلطيف الاجواء حيث غادرنا أنقرة الى موسكو صباح اليوم التالي .
بعض وسائل الأعلام أشارت إلى الجو غير الودي للقاء، وفي موسكو قال مستشار الرئيس الروسي، آنذاك ومن ثم رئيس الحكومة الروسية، يفغيني يريماكوف، وهو مستشرق روسي ولديه علاقة طيبة مع الأستاذ طارق، قال مازحاً "هل هناك رجل يزّعل الجميلة والفاتنة (تشللير).. نعطيك الحق في قسوتك مع (أولبرايت) ولكن لاحق لك فيما حصل مع السيدة الجميلة تشيللر"!
مفكر ومبدع
والأستاذ طارق ليس فقط الدبلوماسي البارع والمحاور السياسي المقنع وإنما يعد من أبرز المثقفين والمفكرين والأعلاميين ليس على المستوى العراقي وإنما على المستويين العربي والعالمي، وهو صاحب مدرسة متميزة في كتابة المقال السياسي والافتتاحات والتحليل (أسلوبه السهل الممتنع) إذ قضى عشرات السنين من حياته في العمل الصحفي والأعلامي والثقافي والفكري، إذ عمل في الصحافة اللبنانية والسورية والعراقية وعلى يديه قامت مؤسسة (دار الثورة للصحافة والنشر) وهي المؤسسة التي أنجبت اقلاماً عديدة لمعت وأبدعت أعلامياً وصحفياً وفكرياً في أكثر من عاصمة عربية لأنها مؤسسة قومية لم تقتصر على العراقيين فقط وإنما كانت مفتوحة لجميع الأشقاء العرب، والأستاذ طارق صاحب فكر ملتزم سخر كل طاقاته لخدمة الأمة العربية وقضاياها المصيرية وله مؤلفات وكتابات وبحوث ودراسات ومشاركات عديدة تصب في هذا المصب.
والأستاذ طارق كما هو مجيد في الكتابة باللغة العربية مجيد ومتميز في الحديث والكتابة باللغة الانكليزية، وقد كان مثار إعجاب العديد من السياسيين الأجانب لسلاسة لغته وثراء وتنوع ثقافته، وهذا ما كان وراء اعجاب الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، في أول لقاء له مع الأستاذ طارق في الاليزيه منتصف الثمانينات إذ عرض، بعد نهاية اللقاء، على الأستاذ طارق.. أن يكون ضيفه يقضي معه إجازته الصيفية في بيته الخاص في الريف الفرنسي ليتطارحا في أمور الثقافة العامة أعجاباً من (ميتران) بشخصيته وثقافته المتنوعة!
وللأستاذ طارق أيضاً، وهذا ما يعرفه المقربون منه، معرفة جيدة بالموسيقى، كما أن له محاولات شعرية جيدة غير منشورة، ولذوقه الرفيع ولمساته المميزة أثرها في قيام صروح ثقافية وفنية وسياحية راقية أمثال (دار الأزياء العراقية) و(مدرسة الموسيقى والباليه) و(معهد الدراسات النغمية) و(الفرقة القومية للفنون الشعبية) و(دار ثقافة الأطفال) و(مؤسسة السينما والمسرح)، ويسجل له أيضاً فضل قيام أهم المرافق السياحية (المدينة السياحية في الحبانية) (البانوراما في سلمان باك) ومن الفنادق التي قامت على يديه وتحت إشرافه مجموعة فنادق (خمسة نجوم) ومجمعات رئاسية استعداداً لمؤتمر بغداد لعدم الانحياز الذي كان مؤملاً انعقاده في عام 1982 لولا الحرب الإيرانية العراقية حيث انعقد في نيودلهي، ومن هذه الفنادق (الرشيد) (المنصور ميليا) و(فلسطين ميريديان) و(عشتار شيراتون) و(بابل اوبروي) و(قصر المؤتمرات) ومجمع الجاردية ومجمع اليرموك ومجمع القادسية لإقامة كبار ضيوف الدولة.
وأتذكر أن الشركة المنفذة لفندق ميريديان حاولت، بمختلف الوسائل، أن تسقط كلمة (فلسطين) ويبقى اسمه (الميريديان) فقط، إلا أن الأستاذ طارق أصرّ مهدداً بالغاء العقد ومقاضاة الشركة فرضخوا وظل اسم (فلسطين ميريديان) مرتفعاً يطل على أجمل شواطئ دجلة الخير!
كفاءة وذاكرة وعقل منظّم
والمعروف عن الأستاذ طارق أنه كفوء وله ذاكرة قوية وعقل منظم، فهو لا ينسى أي شيء، وكان يثير استغرابي عندما يسأل عن أوراق وملفات كان قد طلب الاحتفاظ بها قبل عدة سنوات ويتذكر أين أمر أن تحفظ! ومن يرجع إلى مؤلفات ومقالات ويحوث وكلمات ومداخلات الأستاذ طارق فيما كتبه أو شارك فيه من مباحثات أو مؤتمرات أو ندوات.. فإنه يلاحظ هذه المنهجية التي تستعرض الوقائع حسب تواريخها وتسلسلها وتدرجها، ففكره منظم، وذاكرته نشطة ولو كتبت له الحياة والخروج من محنته ومنح الوقت الكافي لاستعرض بكل أمانه وموضوعية أحداث السنوات الخمسين لا بل الستين في تاريخ العراق والمنطقة العربية والعالم. وكل هذه الصفات وهذه المنهجية المبرمجة والنزاهة الفكرية والأمانة التاريخية والموضوعية هي وراء إصرار أعداء العراق من محتلين وعملائهم على التخلص منه ومن أمثاله من رجالات العراق الوطنيين والشرفاء.
إنسانية ومروءة
والأستاذ طارق معروف بإنسانيته وأخلاقه العالية وبتواضعه، حتى أنه كان يسبق العاملين في مكتبه للسلام عليهم، أما في المناسبات العامة، أعياداً وغيرها، فكان وهو عضو القيادة والشخصية العالمية البارزة، يقصد غرفة مدير مكتبه مهنئاً وكذا الحال مع الجميع وهذا ما لا يفعله مدير بسيط، كما أنه كان يتفقد الجميع ولا يتأخر عن مساعدة المحتاج، ولا أذكر أنه سألني أو ردّ لي اقتراحاً بمساعدة أحد العاملين معنا، وفي أيام الحصار الظالم وبعد اشتداد وطأته على أبناء العراق الصابرين، كان الأستاذ طارق، لمعرفته بالمعاناة وعدم كفاية الرواتب والحصص التموينية، عندما يستلم راتبه الشهري يقوم بتوزيع الجزء الأكبر منه بمظاريف مغلقة لأقربائه.. شقيقته وعائلة شقيقه وابن شقيقه، ولا يعرف أي أحد بذلك سواي والأخ أبو فارس (مرافقه) الذي يقوم بإيصال هذه المبالغ شهريا.
وعندما فقد مرافقه (ابو فارس) عينه في حادث المستنصرية الإجرامي (نيسان 1980) الذي استهدف حياة الأستاذ طارق، تكفل بعلاجه وتم إرساله إلى لندن على نفقة الدولة وبمساعدة شخصية من الأستاذ طارق الذي لم يتركه بل، حتى عند إحالته على التقاعد، لم يحرمه من امتيازات عناصر الحماية وكان يشركه في مهمات خارج العراق، وكان في الفترة الأولى يصرف له راتبه من جيبه الخاص وظل الحال حتى نيسان 2003.
كانت يده معتادة على الخير دائماً، مرة قصد المكتب أستاذ فاضل كان زميلاً لي وشغل منصب مدير عام وسفير وانتهى به الأمر أستاذاً في الجامعة المستنصرية، شكا من عدم كفاية الراتب لحجم عائلته الكبير وأنه لم يعامل بشكل جيد من عمادة الكلية، وعندما اخبرته بذلك، اتصل بمكتب السيد الرئيس فحصل له على مساعدة بـ (100) ألف دينار ثم كلم السيد وزير التعليم العالي، د.هـمام عبدالخالق، وكان أحد المعاهد بدون عميد فعين عميداً لذلك المعهد، وكان لا يتخّلف عن حضور المناسبات الاجتماعية وبالذات مجالس (الفاتحة) ومرة عاتبني بتألم عندما سمع متأخراً بوفاة الكاتب عبد الامير معلة) وكان مديراً للسينما والمسرح ووكيلاً لوزارة الثقافة والاعلام ورئيساً لبيت الحكمة قائلاً "لماذا لم تخبرني لنحضر فاتحته" قلت "أستاذ أنا لم أسمع إلا اليوم ومع الأسف مجلس الفاتحة قد انتهى".
وكم كان متألماً عندما سمع بنبأ مقتل الزميل ابو ايمن (حكمت الهجو) نائب السفير العراقي في عمان، حيث دخل علىّ الأستاذ طارق وكان قادماً من اجتماع للقيادة قائلاً بعصبية وألم "سامى تدرى قتلوا حكمت" فزعت وتساءلت باستغراب كيف؟ قال "قتل بوحشية هو ومجموعة من العراقيين كانوا في بيت أحد العراقيين" ثم عرفنا أنه قتل وزوجته بعد أن ذهب بعد الإفطار إذ كان شهر رمضان الفضيل ليسلم جواز سفر لأحدهم وهو صديقه. فعندما دخل قتل طعناً بالسكاكين. وعندما تأخر دخلت زوجته تسأل عنه فقتلوها أيضاً. في أول زيارة لنا إلى الخارج، بعد الحادث، مررنا بعمان وكان ضمن المقتولين شقيق رجل أعمال عراقي (صديق) حيث ظن الأخير بأن العراق وراء مقتل هؤلاء. وعندما التقانا كان الزعل بادياً عليه ولما علم الأستاذ طارق، قال "ما مصلحة العراق في مثل هذه الجريمة البشعة؟" مؤكداً أن ليس للعراق أية صلة بذلك، وبعد مرور سنة وأثناء أحدى السفرات إلى باريس التقينا هذا ( الصديق!) فذكر أن التحقيقات الأردنية اثبتت أن الجناة ليسوا عراقيين! وفي وفاة صديق ورفيق عمره وزوج شقيقته (ابو يعرب) بكى الأستاذ كثيراً وأصرّ على أن يشارك في حمل نعشه ومواراته في قبره، وقد كان حزيناً طلية أيام.
وعندما سجن ابن المرحوم كاظم جواد، أحد الأدباء والشعراء العراقيين المعروفين والذي كان بدرجة مدير في وزارة الثقافة والاعلام عندما كان الأستاذ طارق وزيراً {وهو بالمناسبة شقيق حازم جواد من قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق عند التأسيس وأحد قادة ثورة 14 رمضان عام 1963} سجن ابنه الذي يحمل ماجستير بامتياز في الفيزياء من أميركا والذي رفض الاغراءات الأميركية بالبقاء والعمل في بلد يعادي العراق!! سجن في بغداد لأنه نصب صحن التقاط إشارة القنوات الفضائية عبر الأقمار الصناعية على سطح داره (وكان هناك قرار يمنع ذلك) وهو بالمناسبة ابن الشاعرة الفلسطينية المعروفة سلافة حجاوي، مستشارة الرئيس ياسر عرفات في وقتها. تدخل الاستاذ طارق لدى مدير الأمن العامة ولما لم ينفع ذلك قصد السيد الرئيس وحصل على أمر بإطلاق سراحه.
وكانت المصلحة العامة فوق كل شيء في قاموس الأستاذ طارق، ذات يوم كان السيد وزير الثقافة والأعلام حامد حمادي منزعجاً لتخلف الفنان كاظم الساهر عن المشاركة في مهرجان بابل الفني منتصف التسعينات قائلاً "عدم مجيء كاظم سيعرضه الى عدم السماح له بدخول العراق ومنع بث أغانيه" قال الأستاذ طارق، مع أن مشاغله اكبر ومهامه اعظم، "ابا رند {يقصد وزير الاعلام } كم كاظم الساهر لدينا؟ ربما لديه ظروفه وأسبابه في عدم الحضور!" وقتها لم اسمع ان اي اجراء قد اتخذ بحق الساهر! والذي منعته ظروف البلد انذاك من المجيء ثانية، وكان قد أشيع في الشارع العراقي أن سبب عدم حضور كاظم الساهر هو تعرضه لمحاولة أختطاف في آخر مرة زار فيها العراق وذلك عند مغادرته براً باتجاه الأردن.
وكان يجير أي أديب أو مثقف أو صحفي أو فنان أو أي مواطن عندما يستنجد به ويرى انه يستحق المساعدة، مما أذكره أن الفنانة العراقية هند كامل قبلت في كلية الادارة والاقتصاد عام 1980 وفقاً لمعدلها في الاعدادية، وكانت ترغب في أكاديمية الفنون الجميلة لأنها موهوبة وأمها الفنانة المعروفة السيدة فوزية الشندى ومع هذا لم يشفع لها في القبول في الاكاديمية، حاولت عن طريق رئاسة الجمهورية في مساعدتها وأخيراً زارتنا في المكتب والتقت مع الأستاذ طارق فتدخل، وكما اعتقد تم أصدار أمر رئاسي خاص بقبولها في الأكاديمية وأصبحت فيما بعد من الفنانات المرموقات وذات الحضور الجماهيري وقد تزوجت بالمخرج المعروف فيصل الياسري.
وأتذكر رسالة وصلتنا من الفنان المعروف محمد حسين عبدالرحيم، وهو فلسطيني الأصل ولكنه وعائلته مقيمون في العراق من خمسينيات القرن الماضي، يستنجد فيها بالأستاذ طارق لمساعدته بمنحه موافقة على شراء بيت لعائلته لتورطه ببيع البيت القديم في بغداد، دون علمه بوجود قرار يمنع من لم يولد في بغداد وغير المسجل في إحصاء عام 1957 من شراء أرض أو عقار في بغداد، وقد قام الأستاذ برفع طلبه مع توصيه ورجاء الى السيد الرئيس لاستثنائه والموافقة له على شراء بيت واعتقد أنه تمت الموافقة على الطلب.
وذات يوم تموزي قائض عام 1979 زار السيد الرئيس صدام حسين موقع (البانوراما) السياحي في منطقة سلمان باك الأثرية، والبانوراما عمل فني ضخم يجسد معركة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس وطردوا ملكهم الذي كان يتخذ من تلك المنطقة مقراً وسكناً له (حيث ما يزال ايوان كسرى الأثرى شاخصاً هناك)، وحتى كلمة (سلمان باك) هي التسمية الفارسية للصحابي الجليل (سلمان الفارسي) ، و(باك) تعني الطاهر.. وما أن جلس السيد الرئيس في الكازينو السياحي إلى جانب البانوراما حتى بادر أحد الخدم (النادل) بتقديم زجاجة (سفن آب حار) لسيادته، فقال له السيد الرئيس "ابني لماذا المشروب حار؟" قال العامل "سيدي فرحتي بسيادتكم جعلتني أجلب الزجاجة دون أن أتأكد من برودتها اعذرني سيدي" ثم قام بإبدالها.
كان مع السيد الرئيس مرافقه وصهره فيما بعد (حسين كامل) الذي اتصل بمدير عام الضيافة في المؤسسة العامة للسياحة، أميرالحلو، مهددّا وواعداً بمعاقبته بسبب فعلة عامله (النادل) وأمره بالمجىء فوراً إلى موقع البانوراما، يقول الحلو "ذهبت وسمعت من (حسين كامل) كلمات قاسية وخشنة" وخوفاً من الأذى جاء الزميل أمير راجياً الأستاذ طارق الذي كان مشرفاً على الثقافة والاعلام والسياحة باعفائه من مديرية الضيافة وتكليفه بمهمة أخرى تجنباً لمثل هذه الاشكالات، طمأنه الأستاذ طارق بأنه سيتدخل وينهي الموضوع، وفعلاً اتصل وقتها مع (حسين) وأغلق الموضوع.
المخرج المصري توفيق صالح هو مخرج فلم (الأيام الطويلة) الذي يمجد نضال حزب البعث وبالذات شجاعة الرئيس صدام حسين ومشاركته بعملية اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم، بعد انتهاء العمل أهمل المخرج تماماً فيما كرم الأخرون تكريماً مبالغاً فيه، فالممثلة الناشئة التي مثلت دور السيدة عقيلة السيد الرئيس (ام عدي) قد أغرقت بالذهب والنقود، كذلك بطل الفلم الشاب الغرّ (صدام كامل) الذي أصبح فيما بعد صهر الرئيس هو الآخر كرم بالأموال والهدايا والتي من ضمنها سيارة حديثة، وكذا الحال بالنسبة لباقي الممثلين والفنيين إلا المخرج صالح! في زيارته للأستاذ طارق برفقة أمير الحلو أشار بشكل غير مباشر للتكريمات واستغرابه من نسيانه! تدخل الأستاذ طارق وكرمه الرئيس التكريم اللائق، فضلاً عن الأستاذ طارق الذي ساعده كذلك من نثرية المكتب.
ومن طيبة وكرم وعلو أخلاق الأستاذ طارق وإنسانيته أن الرجل الطيب والمؤمن (الحاج حسن) الفراش الخاص بالسيد الوزير في وزارة الثقافة والاعلام كان خريج الدراسة الابتدائية وقد شمل بقرار التوظيف لخريجي الابتدائية فأبدلت عناوينهم من عمالية إلى عناوين وظيفية، فأصبح بدرجة (رئيس ملاحظين) إلا أنه بقي في خدمة الأستاذ طارق رافضاً الالتحاق بوظيفيته الكتابية الجديدة، قائلاً وعلى مسمع الكثيرين "أنا على وشك التقاعد والعمل مع الاستاذ طارق يشرفني ومهما كان نوعه".
"سجّلْ طارق عزيز"
وكان الأستاذ طارق شخصيته محبوبة على الصعيدين العربي والعالمي، وكان حتى الأعداء يحترمونه ويقدرون شجاعته في الدفاع عن بلاده ، وكان كثير المساهمات في أبرز النشاطات والفعاليات السياسية والثقافية والفكرية، وكانت رعايته أو حضوره في هذه الفعاليات يعطي لها وزناً وحضوراً متميزاً.. لثقافته الغزيرة ولكفاءته وقدرته على الاقناع وشدّه للمستمع بأسلوبه المحبب وبذوقه الرفيع وحلاوة حديثه .
مرة في مؤتمر للتضامن مع الشعب العراقي والدعوة لرفع الحصار الظالم عنه، عقد مؤتمر للشباب الآفرو- آسيوي في فندق الرشيد عام 1997 ، وبعد أن انتهى الأستاذ طارق من كلمته وتعقيباته ومداخلاته على كلمات المتحدثين وأجاباته عن الأسئلة .. نهض أحد المشاركين وكان ملثماً على طريقة الطوارق في المغرب العربي، وبعد أن امتدح الأستاذ طارق وأشاد بكفاءته وثقافته وأخلاصه لقضيته ولكل القضايا العربية اختتم حديثه بقصة طريفة قال "بعد أم المعارك والعدوان على العراق عام 1991 كثر في ريف بلادنا وفي المناطق الصحراوية تسمية (صدام حسين) إذ راح الناس يطلقون هذا الاسم على كل مولود جديد، الأمر الذي أفزع السلطات فأصدرت أوامرها إلى دوائر التسجيل المدني (الجنسية) بمنع تسجيل أي مولود بهذا الاسم (صدام حسين) وعندما جاء مواطن لم يسمع بأوامر المنع وأراد تسجيل اسم وليده باسم الرئيس صدام قال له الموظف .. ممنوع .. اختر اسماً آخر، قال: طيب .. حسين فقط، قال: ممنوع! حاول البدوي إقناع الموظف إلا أن الأخير أمتنع لأوامر عليا! فقال البدوي.. طيب بدلا من (صدام حسين) سجّله (طارق عزيز)" فضحك من في القاعة.