البعث والديكتاتورية/ 2‏

صلاح المختار

ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني

علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)‏

 

بعد توضيح النقاط الاساسية السابقة يبقى توضيح الحالة الواقعية كما حصلت وليس كما يتصور البعض ‏فالواقع قوة حاكمة عندما نراه كما هو وليس كما نرغب او نريد ، ولتجاوز تشابك الموضوع لابد من طرح اسئلة والاجابة ‏عليها : ‏

س1. هل بيئة الوطن العربي مدنية تخلصت من علاقات ما قبل الامة والوطنية ؟ كلا فهي في طور التبلور ولم ‏تتخلص بعد من تلك العلاقات وان كانت الوطنية قد تغلبت على ما عداها . ولذلك فان ازمات ساخنة يمكن ان تعزز ‏علاقات ما قبل الامة كالطائفية والاثنية والمناطقية والاسرية ...الخ وتعيد لها قوتها فتتلغب على الرابطة الوطنية والهوية ‏القومية ، وهذا احد اهم مصادر تعدد الولاءات وضعف  النظام المؤسسي وتغييره عشوائيا او قصديا وخارج سياقات ‏ستراتيجية وطنية او قومية . بتعبير اخر تعرض التغييرات ذاتها  التي يقوم بها طرف ما للتغيير من طرف اخر لا يحافظ ‏عليها او يبني فوقها لتصبح بنيانا راسخا  بتقاليده وضوابطه المعترف بها من قبل الجميع او على الاقل من قبل الاغلبية ، ‏ومن ثم ضعف امكانية بناء ديمقراطية حقيقية  في مجتمع غير مستقر .‏

وهذه المشكلة وان كان مفروضا ان تتحرر منها القوى الحزبية بصفتها نظريا طليعة متقدمة بوعيها وادراكها ‏لكن الواقع في العقود السابقة اثبت ان الكثير من النخب الطليعية كانت متأثرة وبدجات مختلفة بالتربية ‏الاجتماعية بما تحمله من تأثيرات علاقات ما قبل الامة . وهنا نرى احد اهم اسباب ضعف الموضوعية وتحكم ‏التحزبية والتي ينظر فيها الفرد الى حزبه بصفته منزها من الاخطاء وحزب غيره هو الذي يرتكبها .‏

س2. هل البنية الاجتماعية قائمة على نزعة استبدادية ام انها تصلح للديمقراطية ؟ نعم الى حد كبير ‏فالاستبداد يتعلمه الفرد في اسرته ومحلته وقبيلته حيث السلطة للرأس ، كما يتعلم التمييز بين الرجل والمراة ‏ويحط من شأن الثانية ، ‏

س3. كيف انعكست تلك البنية على السلوك الفردي والجمعي ؟ اهم الانعكاسات هي بقاء المجتمع اسير انتاج ‏مستمر للاستبداد مهما تبرقع الفرد بالنزعة الديمقراطية والليبرالية وهذا ما رأيناه في العقود السابقة حيث كانت الانا ‏الحزبية تسبقها الانا الاستبدادية لدى الفرد دافعة العمل السياسي في متاهات غامضة اذا تجاهلنا طبيعة تكوين الفرد ‏والمجتمع وتقاليده . وفي بيئة ينبع فيها الاستبداد من الاسرة وبقية العلاقات السابقة للامة تصبح الديمقراطية بشكل ‏خاص والحرية بشكل عام داخل الجماعة الواحدة معرضة لدرجات مختلفة من تاثيرات علاقات ما قبل الامة ‏واسيرة تفسيرات فرد تحركه نوازع متعددة بعضها يتناقض مع علاقات الامة والعصر الحديث ومنها الديمقراطية ‏والاعتراف بالاخر وتجنب اقصاءه . وهذا احد اسباب انشقاقات وفشل اغلب تلك الجماعات وتعرضها للتأكل .‏

س4. هل انفرد حزب بذاته بممارسة الاستبداد ام انها شملت الاحزاب عامة ؟ ان ما سبق يفضي الى اعتبار ‏كافة القوى السياسية معرضة لتلك التأثيرات ولهذا فان الجماعات التي حكمت مارست  الاقصاء المباشر او المموه ‏بما في ذلك ما سمي ب ( الانظمة الديمقراطية ) في العراق ومصر قبل التغييرات الجذرية في الخمسينيات تلك ‏الانظمة اقصت اليسار العربي تحت غطاء محاربة الشيوعية مثلا . فمجلس النواب كان يتشكل بالتزوير او بتأثير المال ‏والمناطقية والعشائرية غالبا ، وكانت الكتل الاجتماعية في حالة ركود نسبي بعد قرون من التبعية لغير العرب وتفكك اخر ‏الدول العربية وهي الدولة العباسية ، فكان طبيعيا ان تظهر حالات تبدو مستقرة لكنه استقرار مؤقت وقائم على التمييز ‏الطبقي والفساد والتبعية للخارج . ‏

س5. هناك خطأ تاريخي روج على نطاق واسع يقول بان البعث  هو من دشن  مرحلة العنف والاستبداد فهل ‏هذا صحيح ام انه ترويج منحاز ومناقض للواقع ؟  لكي نجيب بصواب حاسم من الضروري التذكير بان البعث ‏استلم الحكم لاول مرة في عام 1963 في العراق ولكن العراق شهد موجات من العنف المتطرف القائم على القتل ‏والاعدامات والسحل والتحريض على ابادة الاخر قبل ذلك العام ففي عام 1959 وقعت مجزرة الموصل نتيجة ما ‏سمي ب(قطار السلام) .‏

لقد تعمد الحزب الشيوعي وبدعم كامل من عبدالكريم قاسم وهو كان الديكتاتور الاوحد الدعوة الى تجمع من ‏كل العراق في الموصل التي كانت مركزا للقوميين العرب وقام هؤلاء برفع شعارات معادية لهم وشتم اهل الموصل ‏والاعتداء عليهم بطريقة مباشرة فادى ذلك الى تفجر انتفاضة  مسلحة ضد النظام قام بها الشهيد العقيد ‏عبدالوهاب الشواف والتي اجهضت بسرعة لعفويتها وفرديتها وترتب على ذلك بدا عصر ما سمي ب (الارهاب الاحمر‏‏) حيث قتل العشرات وسحلوا في الشوارع حتى تفسخت اجساهدهم واجسادهن وكانت ابرز الشواهد قتل وسحل ‏الشهيدة حفصة العمري وتعليق جثتها في عمود نور امام الناس رغم انها لم تكن لا عسكرية ولا مقاتلة . ‏

ثم تكرر الامر في كركوك في نفس العام حيث تعرض التركمان الى عمليات تصفيات دموية قامت بها عناصر ‏كردية وشيوعية بدعم من قاسم لكنه عندما لاحظ تعاظم الغضب الشعبي انتقد تلك الجرائم . وكان من مظاهر ‏التطرف في العنف اعدام اغلب الضباط الاحرار وفي مقدمتهم الشهيدين ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ‏والاخير هو مؤسس حركة الضباط الاحرار التي اطاحت بالنظام الملكي .‏

في تلك المرحلة ( بين عامي 1959 و1963) تعرض البعث واكثر من غيره للقتل والاعدامات والاعتقالات ‏فاستيقظت النزعة الانتقامية الكامنة في نفوس كتل بشرية تنتمي لتقاليد ما قبل الامة ومنها الاستبداد الاجتماعي ‏والثأر . فهل يجوز تحميل البعث مسؤولية اندلاع اعمال العنف والقتل في العراق مع انه لم يكن يحكم وكان من بين ‏اهم ضحايا ذلك العنف المتطرف ؟ ‏

س6. هل بالغ البعث في ردود فعله عندما حكم ام انه انتقم ثم توقف وصالح وقلب صفحة لبدء مرحلة جديدة ‏؟ في يوم 8 شباط من عام 1963  قام البعث باسقاط قاسم بعمل ثوري عسكري ومدني مشترك فواجه موقفا خطيرا وهو ‏دعوة الحزب الشيوعي لقمع الانتفاضة الشعبية المسلحة فحمل السلاح وقاوم التغيير واغتال الكثير من مناضلي البعث ‏ومنهم مسؤولي الحزبي وقتها الشهيد خالد ناصر الذي قتلته هو ورفاق كانوا معه مجموعة شيوعية كانت تحمل السلاح ‏وتقاوم التغيير ، وبعد نجاح التغيير شنت حملة اعتقالات ضد الحزب الشيوعي تميزت بالقسوة وذلك رد فعل متوقع ‏تماما ففي مجتمع القبلية والثأر فيه قويان والاستبداد متجذر ماذ نتوقع ؟ ‏

نعم كان رد فعل البعث طبيعيا رغم انه خاطئ ، من وجهة نظر وعي لاحق ، فهو طبيعي لانه قام على قاعدة ‏حماية التغيير الثوري وانجاحه فلو فشل فسوف تكون النتيجة ابادة الاف البعثيين والقوميين كما حصل في عام ‏‏1959 ولكن على نطاق اوسع بكثير لذلك كان متوقعا حصول رد فعل قاس تجاه من حمل السلاح ضد التغيير لانهاء ‏خطره الداهم ، لكنه رد فعل مبالغ فيه بسبب تفجر نزعات الانتقام والثار بطريقة كان يجب ان تمنع لان البعث ‏نظريا حزب متجاوز للقبلية والثأرات ويعتمد على نظرة موضوعية تخدم المجتمع ولا تعمق جروحه .‏

س7. من اصر على ممارسة الاقصاء اولا ؟ تلاحظون ان البعث لم يكن المبادر  بالعنف بل كان يتصرف برد فعل ‏قاصر ضد من مارس العنف في اقصى اشكاله ضده وهو الاعدام والقتل والسحل ، ولكن هل توقفت عمليات اظهار ‏الاستبداد واحد اشكاله اقصاء الاخر وتحكم التفكير القاصر ؟ كلا ، فبعد تسعة اشهر فقط من استلام البعث للسلطة ‏عجز خلالها عن اقامة حكم مستقر لنقص التجربة من جهة ووجود تأمر من عدة جهات عليه من جهة ثانية ، فاسقطه ‏انقلاب قام به من عينه البعث رئيسا للجمهورية وهو عبدالسلام عارف والذي قام باعدام كوكبة من شباب البعث في يوم ‏انقلابه وفي مقدمتهم الطالب في كلية الطب ممتاز قصيرة والذي علقت جثته في باب الكلية . تخيلوا البعث يعين عارف ‏رئيسا للجمهورية وهو لم يكن له اي صلة باسقاط نظام قاسم الديكتاتوري لكنه بدلا من الاعتراف بفضل البعث ‏عليه ، والاعتراف بالفضل ايضا تقليد قبلي وميزة اخلاقية ، يقوم بانقلاب ضد البعث ويعدم شبابه !!! كيف يكون رد ‏فعل البعث على هذه الجريمة المنكرة ؟ اليس الانتقام ؟ ‏

كلا البعث استفاد من تجارب اعوام الدم بين سنة 1958 و1963 فقرر كسر هذه الحلقة المفرغة والقاتلة ‏وتجنب العنف واللجوء للحوار السلمي مع مناهضيه لذلك عندما عاد في عام 1968 للحكم بعد اسقاط حكم ‏عارف اكتفى بنفي عارف للخارج ووصف ثورة البعث بانها ثورة بيضاء لان قطرة دم واحدة لم تسفح فيها ، ودعى كافة ‏القوى السياسية للمصالحة وتحقيق عمل جبهوي يدشن مرحلة تعاون القوى الوطنية بدل احترابها ، وهذه خطوة ‏ايجابية كان يجب ان تقابل بمثلها من الا خرين . ‏

ورغم رفض الحزب الشيوعي والحركة الكرية المسلحة  لتلك الدعوة الا ان البعث اصر على تحقيق مصالحة ‏وطنية تنقذ العراق من كارثة العنف المتطرف ، وبعد جهود طويلة قامت الجبهة الوطنية التقدمية وضمت البعث والحزب ‏الشيوعي والاكراد وكتل اخرى صغيرة وبدات مسيرة سلمية لكن الحزب الشيوعي خرق الاتفاق بقيامه باعداد تنظيم ‏عسكري سري في الجيش رغم ان الاتفاق بين الحزبين قام على تعهد مكتوب من قبل الحزب الشيوعي بعدم انشاء خلايا في ‏الجيش فانتهت الجبهة وعاد الصراع .‏

س8. ماهي البيئة التي تشكلت بعد استلام البعث الحكم؟ هل كانت سلمية ام انها كانت مشحونة بروح التامر ‏وتواصله؟ ‏‎

 ‎يتبع..


comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,064,946

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"