البعث والديكتاتورية/ 3‏

‏صلاح المختار

ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني

‏علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

 

س8. ماهي البيئة التي تشكلت بعد استلام البعث الحكم ؟ هل كانت ‏سلمية ام انها كانت مشحونة بروح التامر وتواصله ؟ ‏‎ ‎اضافة لاقامة الجبهة ‏الوطنية التي كان مفترضا قيامها بتضميد جراح العراقيين وانهاء الصراعات ‏الدموية بينهم فان البعث اقدم على خطوة اخرى ايضا غير مسبوقة في مجال انهاء ‏الصراعات بين العراقيين فيما يتعلق بالقضية الكردية فقد بادر وطرح مشروع ‏الحكم الذاتي لاكراد العراق ضمن العراق ووحدته الوطنية ونجح في توقيع ‏اتفاقية 11-3-1970 مع الملا مصطفى البارزاني التي اقرت الحكم الذاتي .‏

وكانت تلك الخطوة فريدة من نوعها فاكراد تركيا وهم اكثر من 20 مليون ‏كردي واكراد ايران 10 ملايين كردي - بينما في العراق كان عدد الاكراد وقتها ‏اقل بكثير من  مليوني كردي- لم يتمتعوا بأي نوع من انواع الاعتراف بهويتهم ‏القومية واصرت كل من تركيا وايران على عدم الاعتراف بوجود قومية كردية ‏واعتبرت  تركيا الاكراد (اتراك الجبل) بينما اعتبرتهم ايران الملالي (مسلمين ولا ‏فرق بين المسلمين) علما ان الشاه عدهم آريين ولذلك لا مبرر لمنحهم حقوقا ‏قومية متميزة! ‏

لكن العراق وتحت قيادة البعث اعترف منفردا بوجود قومية كردية ‏وقدم لهم اكثر مما طالبوا به وقتها وهو الحقوق الثقافية فأقر تطبيق نظام ‏الحكم الذاتي وفتح جامعة ومدراس تدرس باللغة الكردية وتلفزيون واذاعة ‏باللغة الكردية وصحف ومجلات باللغة الكردية وشكل برلمانا محليا وحكومة ‏محلية تنفيذا لما اضيف للدستور العراقي من اعتراف بان القومية الكردية هي ‏القومية الثانية في العراق وان اللغة الكردية هي اللغة المعتمدة مع اللغة ‏العربية في منطقة الحكم الذاتي . كل ذلك فعله البعث من اجل تحقيق ‏الاستقرار وبناء علاقات ايجابية وعلى مستوى الدولة وانهاء الصراعات ‏الدموية غير المبررة .‏

ولكن ولان الاهداف كانت موضوعة من قبل قوى خارجية ليس لتحقيق ‏اهداف مشروعة بل لتمزيق العراق بمنع حل مشاكله وزيادة حدتها فان الجبهة ‏الوطنية والحل السلمي الديمقراطي للقضية الكردية فشلا وعادت الصراعات ‏الحادة . فمن المسؤول عن ذلك ؟ يقولون البعث كان يريد ان يقود الحكم ‏وفقا لنظرية الحزب الواحد بينما كانت الاطراف الاخرى تريد مشاركة فعلية ‏وبدور رئيس فهل هذا المطلب منطقيا في بيئة مثل بيئة العراق والمنطقة كلها ؟ ‏

أ- ليس اولا لنوضح حقيقة تم تجاهلها وهي ان النظام لم يكن نظام ‏الحزب الواحد كما روج بل نظام الحزب القائد حيث يوجد حزب يقود ‏السلطة مع شركاء له ، لانه من اسقط النظام السابق بتضحياته وبفاعليته ‏المتميزة بالاضافة لهيمنة نزعة التفرد بالحكم لدى الاخرين دون استثناء ‏ووجود روح العداء بين القوى السياسية ، لهذا فليس منطقيا ابدا مطالبة ‏حزب يحكم باقامة شراكة متساوية في الحكم ، فحتى في اوربا وأميركا الشمالية ‏عندما يفوز حزب ما بالحكم ينفرد بالحكم ، فكيف يمكن اعتبار مطلب ‏المشاركة المتساوية في الحكم مطلبا معقولا مع انه تعجيزي ويحتوي في قلبه ‏على لغم خطير ؟

‏ كان موقف البعث يقوم على ان الزيادة  التدريجية لمشاركة الاطراف ‏الاخرى في الحكم يفرض بناء الثقة اولا لتجنب التأمر من داخل الحكم لانه ليس ‏منطقيا ان تمنح حزبا او جماعة دورا رئيسيا وهي في حالة عداء معك او شك ‏عميق باستمرار حالة العداء السابق ؟ وبعد بناء الثقة من خلال العمل الوطني ‏المشترك لفترة كافية  يمكن ممارسة شراكة متساوية او متقاربة الصلاحيات ‏بشرط وجود تقارب في الدور الفعلي في بناء الدولة والمجتمع ،والا كيف يمكن ‏مساواة حزب يقوم بدور كبير وله قواعد ضخمة مع حزب صغير وليس له دور ‏رئيس في المجتمع ؟ من البديهي وفي كل مجال ان الدور تقرره القدرة ‏والامكانية وليس الرغبة فكيف يمكن المطالبة بالمساوة في الدور بوجود ‏اختلافات جوهرية في الدور الفعلي ؟ ‏

ب- ان كافة الاطراف كانت متأثرة بهذا القدر او ذاك بعلاقات ما قبل الامة ‏وما قبل الوطنية مثل النزعة الاقصائية للاخرين والتحزب الاعمى والطائفية – ‏وان كانت ضيقة جدا ومموهة - والعرقية والعشائرية والمناطقية ...الخ ، بالاضافة ‏لوجود معارضات مسلحة اخذت تقاتل ضد البعث في شمال العراق وفي الجنوب ‏‏– في الاهوار – من اجل اسقاط نظام البعث ، مما عزز القناعة بوجود الدور ‏الخارجي الواضح والصريح وتمثل في وقوف الغرب الاستعماري ومعه الكيان ‏الصهيوني ضد حكم البعث خصوصا بعد تأميم النفط وكانت خطوة تاريخية ‏حسمت اهم القضايا العراقية وهي اعادة ثروات العراق لاهله وطرد الشركات ‏الاحتكارية .‏

‏ وزاد العداء لعراق البعث حينما اكتشف الغرب والصهيونية ان قيادة ‏العراق الوطنية وعلى العكس من دول النفط الاخرى سخرت موارد النفط ‏وغيرها لتنمية الانسان والعمران فقد تحولت موارد النفط الى وسيلة جبارة ‏لاعداد سريع وممتاز لألاف المختصين والخبراء ولتحقيق الرفاهية للعراقيين ‏كلهم وليس لبعضهم لاول مرة وبناء دولة عصرية متقدمة وجيش وطني متميز ‏بقدراته العسكرية وتربيته الوطنية . ‏

وطبقا لما حصل في العراق خصوصا تأميم النفط فان العداء لقيادة البعث ‏صار يستند على وينطلق من قاعدة ستراتيجية واضحة تقوم على تحقيق هدف ‏اسقاط النظام ان لم تنجح عملية احتواءه ، وتحقيقا لهذا الهدف كان يجب دعم ‏ما يسمى (المعارضة العراقية) ضده وبكافة الطرق من اجل عرقلة التنمية ‏الانسانية والعمرانية ومنع انتقال العراق من منطقة التخلف الى نادي الدول ‏المتقدمة ، وتلك حقيقة اكدتها تقارير الامم المتحدة في نهاية السبعينيات ‏حينما قدرت ان العراق اذا واصل تنميته البشرية والعمرانية فانه سيدخل ‏نادي الدول المتقدمة في نهاية القرن العشرين . ‏

لهذا فان من يدرس تاريخ العراق بعد عام 1972 وهو عام تأميم النفط ‏سيجد ان دولا عديدة عربية واجنبية وفي مقدمتها أميركا واسرائيل الغربية ‏واسرائيل الشرقية قد وقفت ضد العراق وسخرت كافة قواها لتطويقه ‏واستنزافه ومنعه من تحقيق الاهداف التي وضعتها قيادته . وبناء عليه فقد ‏كان من حق القيادة الوطنية العراقية اتخاذ كافة اجراءات الحذر والحيطة ‏لتجنب نجاح عمليات التأمر على النظام الوطني واسقاطه  مرة اخرى قبل ‏اكمال تحقيق ستراتيجية التنمية المستدامة بشريا وعمرانيا  كما حصل في ‏عام 1963 عندما اسقط نظام البعث بعد تسعة اشهر على استلامه الحكم ‏دون اعطاءه الفرصة لتطبيق اهدافه .‏

فهل هذه البيئة بيئة سلم كي تنعدم ردود الفعل لدى قيادة النظام في ‏دولة تعرضت لاكثف عمليات التأمر واخطرها ؟ بالتاكيد فان من حق اي نظام ‏يتعرض لما تعرض له نظام البعث ان يحمي نفسه واول من اكد هذه القاعدة هو ‏أميركا واوربا الغربية رغم انهما لم تتعرضا لتهديد وجودي مثل التهديد الذي كان ‏العراق يتعرض له وتوج بغزوه بعد عقود من الحصار والتأمر والتخريب، ومع ‏ذلك فان أميركا واوربا الغربية  قلصتا حريات مواطنيهما وجمدتا فقرات من ‏دساتيرهما التي تحمي الفرد والانسان من اي عدوان وخرق لحقوقه الانسانية، ‏وتم ذلك تحت غطاء حماية الامن القومي من التهديدات الخارجية والداخلية . ‏

هل العراق الذي كان يبني دولة مؤسسات –كانت في طور التكون - ‏ويرسخ بيئة اجتماعية حضرية متجاوزة لعلاقات ما قبل الوطنية محرم  عليه ‏ممارسة الحق الاول للانسان وللجماعة – وحتى للحيوان - وهو (حق الدفاع ‏عن النفس ) كي لا يدافع عن نظامه وعن ارواح اعضاءه ومواطنيه عندما ‏يشتد التأمر عليه وعلنا ورسميا؟ هنا نختصر هذه الفقرة بتأكيد ما قلناه ‏مرارا وتكرارا وهو اننا لا نتحدى احدا ولكن نقول من يرفض ما سبق قوله ‏ليقدم دليلا  على ان البعث هو من بادر في الاعتداء على غيره وانه هو من اصر ‏على مواصلة الصراع ولم يحاول حله . كما ان من ينكر ان البعث اقدم على ‏خطوات مصالحة وطنية كثيرة وتحمل بصبر تجاوز صبر ايوب وقلب صفحات ‏العداء  وصفح عمن قام بالقتل لكثير من العراقيين مرارا وتكرارا ولكن ‏الاطراف الاخرى كانت هي التي تصر على مواصلة تصعيد الازمات ومنع حلها  ‏نقول من ينكر ذلك عليه تقديم دليل واحد على خطأ ما قلناه .‏

‏9. ألم يعترف اكثر من طرف بعد غزو العراق بانه تأمر على النظام ‏الوطني وافتخر بتأمره ؟ ولكي نحسم هذا الموضوع علينا التذكير بان الدول - ‏خصوصا أميركا والاسرائيليتين الغربية والشرقية  -  قد اعترفت بعد غزو العراق ‏بانها وضعت خططا لاسقاط النظام وانها دعمت ما سمي ب(العارضة العراقية) ‏لتحقيق هذا الهدف . كما ان اكثر اطراف تلك المعارضة اعترفت وبلا تردد ‏خصوصا بعد غزو العراق بانها تأمرت وواصلت التامر على قيادة العراق ، وهذا ‏الامر لم يعد موضع جدل الان ، وفي ضوءه لابد من التساؤل : في اجواء تأمر ‏مثل هذا ماذا يتوقع من البعث ان يفعل ؟ المقاومة  والدفاع عن النفس ‏حقان شرعيان وهذا ما فعله البعث ودائما في رد فعل وليس بفعل مبادر  .‏

‏10. هل كانت البيئة توفر الوعي المطلوب للتعاقد الاجتماعي – نظرية ‏العقد الاجتماعي الاوربية - ام انها سابقة لمرحلته وتتميز بنقص وعي نتائج ‏الصراع ونزعات الاقصاء ؟ هل وقع عقد اجتماعي سابقا في الوطن العربي ؟ ‏ولم زال ولم يستمر ؟ حينما نؤكد بان الوطن العربي لم يتوصل الى الاتفاق على ‏عقد اجتماعي ينهي الصراعات الدموية ويضع قاعدة الاحتكام لدستور فان ذلك ‏لا يعني ابدا عدم حصول ذلك سابقا ، فثمة فرق كبير بين اقرار وجود نزعات ‏استبدادية في الوطن العربي مصدرها التاريخ والمجتمع والجغرافية وبين انكار ان ‏النظام العربي التقليدي خصوصا في الجزيرة العربية قبل الاسلام كان نظاما  ‏ايجابيا متكامل الاركان من حيث التقاليد والممارسات .‏

‏ الاستبداد كان سائدا لكنه كان تعبيرا عن ميكانزم حماية الوجود في منطقة ‏قتل هي الصحراء ، ولهذا فان الاستبداد العربي بخلاف الاستبداد الاوربي مثلا ‏كان منظما على قاعدة تقاليد هدفها حماية المجتمع ومنع تفككه في بيئة ‏صحراوية قاسية يندر فيها الماء ومناطق الخصب ، كان الاستبداد العربي يقوم ‏على مبدأ الخدمة العامة للقبيلة او تحالف القبائل وكانت علاقات الرحم ‏قوية فيقوم الشيخ بتوفير الحماية لقبيلته وتقديم جزء مما يحصل عليه ‏لابناءها ولم يكن نظاما اقطاعيا اصلا يستغل الفلاحين  ويجوعهم ويحتقرهم ‏‏.‏

كما ان الاستبداد العربي كان مبينا على ما يسمى ب ( الشورى ) وهو ‏مبدأ ظهر قبل الاسلام لان القبيلة كانت تعتمد على مشورة الحكماء وكان ‏هؤلاء يساعدون الشيخ والذي كان بدوره يحترم اراءهم ، فالاستبداد هنا ‏يختلف نوعيا عن الاستبداد في اوربا مثلا والذي كان قائما على نظام العبودية ‏وليس صلات القربى والرحم . بهذا المعنى فان تأكيدنا عن استبدادية تربيتنا نابع ‏من حصول تخريبات واضحة في العلاقات الاجتماعية نتيجة افساد بعض الحكام ‏والشيوخ للاصل وهو مبدأ الشورى والاعتماد على الحكماء لاجل اتخاذ قرارات ‏صائبة لا تفضي لكوارث في حالة الاستبداد الفردي المطلق . ‏

وفي اطار ذلك النظام وضعت قواعد ملزمة للشيوخ والناس عامة وكانت هي ‏اصل العقد الاجتماعي وهو سابق بألفيات كثيرة للعقد الذي توصلت له اوربا في ‏القرون الوسطى ، لكن تعرض الوطن العربي للغزو الاستعماري الخارجي ‏خصوصا الفارسي- التركي  ثم الاوربي احدث تغييرات نوعية في مفاهيم الاستبداد ‏وتكوين القبيلة بعد ان اقترن بسيادة الامية والجهل والتنازع على الموارد التي ‏شحت . اذن نحن نعيش في بيئة متناقضة التأثيرات وهي بيئة تنعكس على ‏السلوك العام والخاص ولهذا فنحن بحاجة لتحليل موضوعي للممارسات ‏وفهم الاليات التي اوصلت اليها وكيفية معالجتها بعقلانية وحكمة وهذا ماكان ‏شبه غائب في العقود السابقة والتي شهدت اقسى انواع الصراعات غير ‏المبررة خصوصا بتأثير العقلية الانتقامية والاستحواذية .

 

يتبع..‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,028,732

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"