ذهب بعض المؤرخين في وصف حال تباغض العرب وتنازع قبائلهم، للحد الذي اعتبروا فيه أن مجرد قدرة النبي محمد «عليه الصلاة والسلام» على توحيدهم بالاسلام هو معجزة بذاتها.
ومن هذا الباب، تطل علينا معركة ذي قار من جديد، لكن هذه المرة ليس بالسردية المعتادة عن انتصار العرب على الفرس، بل من جزئية مغايرة، وهي خيانة قبائل عربية لرابطة الدم والقومية، وقتالهم الى جانب جيش كسرى (اكبرهم قبائل تغلب وطي)، ليشكلوا أشبه ما يعرف اليوم بـ»الصحوات».. ويقاتلوا ضد قبائل عربية على رأسها بكر بن وائل، رفضت الخضوع لإذلال كسرى وسطوته، وهم لم يقاتلوا الى جانب كسرى، إلا أن احد المقربين من كسرى من العرب (زيد بن عدي) هو من اشعل غضب كسرى وأوغر صدره، واوقد نيران الحرب على النعمان بن المنذر، ثأرا منه لقتله ابيه عدي بن زيد.. بل أنه، وحسب بعض الروايات، أن زيد بن عدي اغرى كسرى بجمال بنات النعمان ملك الحيرة، فارسل اليه يطلب الزواج من إحدى بناته، فرفض النعمان، فوقع الغضب في نفس كسرى.
الاستقواء على اخوة العروبة بالأعداء بدا أمرا مباحا، وهو ما درج في حروب الغساسنة والمناذرة، وهو تهاوٍ لرابطة الانتماء القومي الجامع للعرب، بل والقبلي، امام نوازع الثأر الضيقة، بما يفسد وحدة صفهم ومنعتهم، ولعل العقيدة الاسلامية أصلت لعلاج هذه «المتلازمة» عند العرب الذين دخلوا الاسلام، بالنهي عن «موالاة» و»مظاهرة» غير المسلمين، وإعانتهم على المسلمين، وجعلها من نواقض الاسلام والخروج من الملة، ووصفت حال من يستقوي بالاعداء ضد قومه و»يتولاهم» لغاية في نفسه بأن «في قلوبهم مرض»، فكان تأليف قلوب العرب المتباغضين مهمة الاسلام الاصعب، قبل اطلاق الدعوة وبناء الدولة «وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم».
كما تشير الرواية التاريخية في ذي قار، إلى أنه رغم ان المروءة العربية والنخوة هي التي دفعت بهاني بن مسعود الشيباني لقتال كسرى وتحمل عبء مواجهة جيشه، بعد ان أمنه النعمان بن المنذر بوديعة من نسائه واهله، رفض ان يسلمها لكسرى، الا ان كثيرا من قبائل العرب ممن انتخاهم لقتال الفرس احجموا، ومالوا للهدنة، حتى دبت الحمية في عروق قادة بكر بن وائل، فقال حنظلة العجلي رافضا النزول للهدنة (فقبح الله هذا رأيا، لا تجر أحرار فارس غرلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع الصوت ثم نزل ببطحاء ذي قار وخطب بالناس حاشدا هممهم للقتال «لا أرى غير القتال، فإنا إن ركبنا الفلاة متنا عطشا، وإن أعطينا ما بأيدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذرارينا. ثم قال لهاني بن مسعود: يا أبا أمامة إن ذمتكم ذمتنا عامة وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا».
وفي ارض المعركة شحذ الشيباني همم المقاتلين عندما رأوا جموع الفرس وحلفائهم العرب قد اقبلت وزادت عنهم عددا وعدة فقال خطبته الشهيرة «يا قوم مهلك معذور خير من نجاء معرور، وإن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره والطعن في الثغر خير وأكرم من الطعن في الدبر».
وهي خطبة تحمل معاني التضحية بالنفس والذود عن الاعراض واستقبال الموت بشرف، التي عززها الاسلام بمفهوم «الشهادة» العقدي.. الذي مكن العـــرب بعدها بسنوات قليلة في القادسية من الانتصار على الفرس مرة اخرى، لكنها كانت تحت راية الاسلام الذي وحَّدهم لأول مرة في تاريخهم.
وهو تاريخ شهد الكثير من النزاعات الداخلية الدموية بين قادة المسلمين، بدءا من عهد الخلافة الراشدة، لكن ايا منها لم يشهد استقواء بعدو ظاهر، كما رد معاوية على قيصر الروم الذي عرض دعمه في قتال علي بن ابي طالب قائلا « أخان تشاجرا».. لذلك فالصحوات من ذي قار أيام كسرى، الى صحوات ايران والأميركيين اليوم في العراق وسوريا، تبدو وكأنها متلازمة ضعف انتماء قومي للعرب تقترب منهم كلما بعدت عنهم رابطة الاسلام..