البعث والديكتاتورية/ 4‏

‏صلاح المختار

ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني

‏علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)‏

 

‏11. هل الاستبداد والنزعة الشمولية ظاهرة شرقية ومقترنة بالتخلف ‏فقط ام انها ظاهرة عالمية توجد ايضا لدى اكثر الدول تقدما وقياما على نظام ‏المؤسسات  وتخطّيا لعلاقات ماقبل الامة وممارسة لعلاقات مابعد الامة ؟ ‏واذا كان الجواب نعم هل هناك اختلافات في اشكال وتبديات الاستبداد ‏والشمولية ؟ هذه التساؤلات جوهرية لانها عند الاجابة عليها تقدم لنا مفتاحا ‏لفهم الانسان بعموميته وليس الانسان العربي فقط ، فمن يعتقد بان الاستبداد ‏ظاهرة شرقية ، كما روج فلاسفة ومؤرخون غربيون مثل كارل ماركس وفردريك ‏انجلز في كتابهما ( في الاستعمار ) عندما تناولا مفهوم نمط الانتاج الاسيوي ، اما ‏واهم او يريد ايهامنا بان الاستبداد ظاهرة شرقية فقط ، لان واقع العالم ‏وماضيه القريب يؤكد بجزم كامل بان الاستبداد ونتيجته  الاهم الاقصاء من ‏صفات المجمتعات الاوربية وفرعها المسخ امريكا  مثلما هو نتاج مجتمعات ‏شرقية . فلو نظرنا الى العالم في القرون الثلاثة الاخيرة لوجدنا ما يلي : ‏

أ-ان حروب العالم الاكثر تكلفة في التاريخ الانساني كله بشريا وماديا ‏كانت من صنع الغرب ( اوربا + امريكا) فالحربين العالميتين الاولى والثانية لم ‏تكونا من صنع الشرق المستبد بل من صنع اوربا وفرعها امريكا ، وبلغ ‏ضحاياها رقما لم تخسره البشرية في كل تاريخها وفي كل حروبها المعروفة وهو ‏اكثر من 150 مليون انسان ، ماتوا بسبب تنافس الرأسماليات الغربية من ‏اجل احتكار المال واقصاء المنافس حتى وان كان من نفس الرحم والهوية ‏الحضارية ، في تعبير كارثي عن نزعة استبداد غير مسبوقة في التاريخ البشري . ‏

كما ان امريكا اخذت عشرات الملايين من السود من افريقيا الى قارتها مات ‏منهم حوالي 88 % ، وقتلت امريكا كذلك اكثر من 150 مليون هندي احمر من ‏شمال امريكا وجنوبها ، لاجل الانفراد الاناني بالقارة ، واباد البيض اكثر من 20 ‏مليون انسان من سكان استراليا الاصليون وايضا لاجل الانفراد بالارض والثروة ، ‏بل لجأ المهاجرون البيض الى شمال امريكا الى قتل اكثر من 50 مليون جاموسة ( ‏بوفالو ) وهي مصدر غذاء وبيوت وملابس الهنود الحمر ونشروا بينهم الاوبئة ‏بشكل متعمد لاجل ابادتهم . ‏

وفي الهند الصينية قتلت امريكا وفرنسا اكثر من اربعة ملايين انسان ‏واصابتا اكثر من ثمانية ملايين بالعاهات في حروب استمرت حتى السبعينيات ، ‏وفي اندونيسيا قتلت  مخابرات امريكا مليون انسان بواسطة جنرالهم سوهارتو ، ‏وفي العراق قتلت امريكا منذ عام 1991 وحتى الان اكثر من ستة ملايين عراقي بدم ‏بارد وشردت اكثر من عشرة ملايين عراقي ما بين نازح ومهاجر نتيجة الارهاب ‏والابادة والتمييز الطائفي واستخدام اسرائيل الشرقية في تنفيذ الجزء الاكثر ‏كارثية من هذه العمليات . وفي فلسطين سلمت بريطانيا وبدعم امريكي كامل ‏فلسطين للصهاينة وطردوا سكانها وجلبوا مواطنين من مختلف بقاع العالم ‏للسكن محلهم وفي بيوتهم ومزارعهم ، وفي جنوب افريقيا قام الاوربيون ‏بالسيطرة عليها واستغلال ثرواتها وابادة ملايين الافارقة وممارسة ابشع انواع ‏التمييز العنصري ضدهم . ‏

ان هذه الامثلة وغيرها كثير تؤكد بلا شك ان اشد البشر قسوة ‏ووحشية وممارسة للاقصاء والاستبداد هم الاوربيون ومسخهم امريكا وليس ‏الشرق فلم يسبق في التاريخ ان قتل بشر بهذا العدد في كل حروب التاريخ كما ‏قلنا واذا كان هناك من يشكك بهذه الحقيقة عليه ان يقدم لنا جردا بعدد ‏ضحايا حروب الشرق او ازماته لنرى من هو الاكثر ميلا لابادة الاخر  واصابة ‏بمرض الاستبداد  . ‏

ب- ولئن كان الشرق مارس ويمارس استبدادا مقننا ومقيدا بتقاليد ‏قبلية وانسانية تجعله بسيطا فان الاستبداد الغربي معقد جدا ومطلق ‏الابعاد والممارسات  ، فمن يعتقد بان المجتمع الامريكي مثلا حر وافراده ‏يمارسون حرياتهم  بصورة حقيقية واهم لان شكل السيطرة عليهم وان اختلفت ‏عن سيطرة الشرق فانها اكثر تأثيرا على حرية الانسان ، ولكي لا ندخل في تفاصيل ‏كثيرة لدينا الان امثلة صارخة تؤكد ما قلناه فامريكا التي انتقدت الاتحاد ‏السوفيتي لانه مجتمع كان شموليا ( توتاليتاريا ) فانها المجتمع الاكثر شمولية ‏في التاريخ الانساني لان الاتحاد السوفيتي راقب وسيطر على مواطنية ‏بالوسائل البوليسية  العنفية الساذجة والقمع الخارجي اي للجسد والفكر ‏اما امريكا فانها الان تقوم باستعباد البشر كلهم بما في ذلك مواطنيها من ‏داخلهم  بأعادة تشكيل الانسان .‏

امريكا الان لا تكتفي بقوة مخابراتها وتفوقها لانها تعمل وعملت على اختراع ‏او اكتشاف وسائل تمكن مخابراتها من التحكم في السلوك الانساني وتحويل ‏الانسان الى روربوت حي ، واخطر اسلحتها بالاضافة للادوية والمخدرات هي ‏المعلوماتية والانترنيت اللذان اصبحا ادوات استلاب حرية الانسان وقراراته حتى ‏الشخصية . والان على سبيل المثال تجري في امريكا حملة رفض لقوانين يسنها ‏الكونغرس لتقييد الشبكة العنكبوتية الانترنيت وزيادة سيطرتها على توجهات ‏الناس . لقد غسلت ادمغة مئات الملايين من الناس في الغرب وكل العالم عبر ‏الانترنيت ووسائل الاتصال الحديثة كاللابتوب والموبايل ، وصار الانسان مجردا ‏من اي خصوصية وتعرف اجهزة المخابرات ماذا يعمل في غرفة نومه وماذا يقول ‏لابناءه وزوجته . كل جهاز حديث من الثلاجة حتى ادوات الحلاقة والسيارة ‏اصبحت وسائل جمع معلومات عن الانسان وتثبيتها في سجله الخاص الذي ‏يستخدم عند الحاجة ضده . بل ان التكنولوجيا الحديثة سخرت لاحداث ‏تعديلات جينية في البشر من اجل احكام السيطرة على خياراتهم في الطعام ‏واللبس والمجتمع ! فهل وصل الاستبداد الشرقي في اسوأ حالاته الى 1 % من ‏سيطرة امريكا واروبيون على الانسان والتحكم في فعله وردود فعله ؟ ‏

نعم الاستبداد الشرقي ، بما في ذلك استبداد الاتحاد السوفيتي والصين ‏والانظمة العربية ، خشن ومباشر لكنه خارجي ولذلك يبقى الانسان مدركا ‏لحقيقة انه مقيد من الخارج فيقاوم ما يعده عملا مناقضا لحقوق الانسان ‏ويهيأ للتخلص منه ، اما الاستبداد الغربي الناعم فانه محاط بوهم الانسان ‏انه حر ومتحرر من الاستبداد وبعد ان تتكامل السيطرة على داخل الانسان ‏يبدأ الاستبداد المموه بذكاء فريد بفرز اثاره المميتة للانسان خصوصا ‏الاستلاب (‏Alienation‏)والضياع وتجريد الانسان من انسانيته وتحويله الى ‏روبوت حي لا يستطيع حتى اختيار ملابسه واكله وعلاقاته الاجتماعية والاسريه ‏بنفسه وتقرر ذلك اجهزة السيطرة كالاعلام !‏

‏ وفي هذه المرحلة  وبعد اكتشاف انه سجين بقيود داخلية اقوى واخطر ‏من القيود الخارجية يدرك بعد فوات الاوان انه مسير بقوة في قراراته العامة ‏والخاصة ومسخر لخدمة احتكارات كبرى لا ترحم الانسان ولا الحيوان ولا ‏البيئة ، وهنا تكمن مفارقة الاستبداد الغربي القاتلة حيث ان الانسان بعد ‏فترات طويلة من وهم انه حر لانه يملك حق الشتم والانتقاد والتحلل من ‏القيود الاخلاقية وينتخب ...الخ يكتشف انه لايملك الحد الادنى من الحرية  ‏لانه مسيطر عليه من الداخل وان الاستبداد الشرقي ارحم واهون واكثر ‏انسانية .‏

هل مجتمع السوفييت كما صوره جورج اورويل في روايته المشهورة 84 ‏سوى صورة بدائية لوسائل السيطرة على الانسان مقارنة بالوسائل التي ‏تستخدمها امريكا ؟ ألم يكن الاتحاد السوفيتي يسيطر على الانسان بالقوة الفجة ‏ومن الخارج  وهي سيطرة يسهل اكتشافها وادانتها ورفضها والنضال ضدها ؟ ‏

ما تقدم يؤكد لنا وبلا اي شك ان الاستبداد في الغرب اشد تأثيرا على ‏الانسان واكثر وحشية بكثير وبما لا يقاس من الاستبداد الشرقي المصنع اصلا ‏وابتداء لخدمة مطلب البقاء والمحكوم بقواعد اخلاقية وانسانية  قبل ‏افساده من قبل الاقطاع الشرقي  والرأسمالية الهجينين ،  لكن خديعة  ‏الاستبداد  الغربي  تكمن في انه خيط حرير لمسه لطيف وممتع ، وليس سلاسل ‏الفولاذ التي استخدمها مستبدون شرقيون ، يلف الانسان نفسه بخيوط ‏الحرير هذه بحماس ، كما نفعل الان مع الانترنيت والموبايل ، معتقدا انها لن ‏تؤذية وانه يستطيع تقطيعها بسهولة ولكنه ما ان يكمل لفها حول جسده ‏وروحه ويدمن عليها حتى يجد عقله عاجزا عن التخلص منها ويتحول الى عبد ‏كامل العبودية لها  ، اليس هذا هو الانسان  كما نراه الان عبدا لما انتجه ‏الغرب من وسائل تكنولوجية سلبته عقله وحصانته وجعلته يقبل باختراق ‏اكثر علاقاته خصوصية وحرمة بما في اسرار غرفة النوم  نتيجة الاغراء ‏الطاغي لتلك المنتجات ؟ ‏

ومن المؤكد ان كثيرين اصيبوا بالرعب نتيجة ملاحظة ان اولادهم اخذوا ‏يخرجون عن سيطرة العائلة لان الانترنيت والموبايل واللاب توب واللوحي قد ‏استحوذت على عقول الصبيان  والصبايا وحتى الاطفال واصبحوا يتطبعون ‏بقيم امريكا الفاسدة والمفسدة  ويعصون اوامر العائلة علنا او سرا واقعين ‏تحت التأثير القوي لتقاليد الغرب وقواعد سلوكه التي لم تنشأ لتكون قواعد ‏سلوك لنا  مثل الشذوذ والمخدرات وعدم احترام الاب والام والاخ والقيم ، انه ‏التفكيك المنظم والتدريجي لاساس المجتمع وهي العائلة التقليدية  وفرض ‏استبداد دولة واحدة . فهل نجح الاستبداد السوفيتي بالوصول الى هذا الحد ‏الاممي من فرض تأثيرات دولة واحدة ؟ ‏

اذا تذكرنا كل ذلك فاننا بأزاء حقيقة مخيفة جدا وهي ان الانسان يملك ‏الاستعداد الفطري للاستبداد وتزداد خطورة استبداده عندما يكون مجردا من ‏القيم الانسانية ، كما هو حال نخب غربية  اسيرة لتربية  التعالي والجريمة ‏المنظمة ، ويقترن ذلك بقدرته على استخدام العلوم والتكنولوجيا فيصبح ‏استبداده قرينا بابادة الاخر او تمهيدا لذلك ، وهو ما نراه الان في عالمنا المعاصر ‏بلا اي اوهام  بقيام امريكا وعلنا بتأكيد انها تريد السيطرة المنفردة على العالم ‏وفرض انماط قيمها وتقاليدها على الاخرين عبر الحروب وتفكيك الامم ونشر ‏الفوضى الهلاكة ، بل ان الدستور الامريكي يؤكد ان نشر القيم الامريكية في ‏العالم واجب امريكا ! ‏

فهل نشر القيم الامريكية – وهي قيم انحطاط اخلاقي وقيمي ونهب ‏مطلق - في بلدان مختلفة كليا عن امريكا بتقاليدها وثقافتها وغزوها تحقيقا ‏لهذا الهدف حالة غير استبداد فريد من نوعه يتخد شكل استعمار مزدوج من ‏داخل  الانسان ومن خارجه  واداته الرئيسة الوحشية المفرطة كما نراه في ‏العراق المحتل ؟  هل يوجد منصف يستطيع اتهام العرب بالاستبداد ، رغم ‏انهم ضحاياه الذين يتعرضون للابادة والتصفيات العرقية ، عندما يضطرون ‏للدفاع عن انفسهم بكافة الوسائل ، بما في ذلك اعتماد قوانين الطوارئ ‏العالمية الطبيعة ، سواء ضد عدو خارجي لا يخفي قراره بابادة الاخر او اطراف ‏داخلية تعمل تحت امرة تلك الدول المعادية للعرب مثل امريكا واسرائيل ‏الغربية واسرائيل الشرقية ؟ ‏

المؤسس الاول للاستبداد او داعمه الاقوى في الوطن العربي هو من ‏يضطهد العرب بغزوهم ومن يدعم حكاما فاسدين وطغاة لانه بذلك يدمر ‏البيئة الطبيعية لنشوء الديمقراطية وممارسة الحرية وهذا يقوي نزعة ‏الاستبداد الشرقي المشوهة ، لسبب بسيط ومعروف وهو السبب الذي دفع ‏ويدفع ما يسمى ب ( الديمقراطيات الغربية ) لتقليص الحريات فيها وتبني ‏قوانين مضادة لما تسميه الارهاب والوصول الى حد بدء تحويل المجتمع الى ‏دولة بوليسية تدريجيا واضح انها ستصبح اكثر استبدادا من السوفييت . الا ‏يبدو اثارة هذه المقارنة بين الاستبدادين الشرقي والغربي ضروريا في عصر بدء ‏الانسان فيه يفقد انسانيته من خلال ممارسة اشكال من الحريات الشكلية ‏التي تخفي عمليات اعادة تشكيل الانسان نفسيا وجسديا  بالعقاقير وتعديل ‏الجينات مثلا ؟ 

 

يتبع...

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,623,730

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"