حصاد الرقاب في #العراق

مثنى عبدالله

ما انفكت المؤسسات القضائية في دول العالم المتحضر عن البحث والتمحيص عن الأسباب التي تدفع المجرمين لارتكاب جرائمهم، قبل الإسراع بتحقيق العقوبة عليهم، وهو بحث متقدم في احترام إنسانية الإنسان، قبل الوصول إلى لحظة سلب الحياة منه بسبب جرم ارتكبه.

 

نعم، إن في القصاص حياة ونموذجا رادعا للاخرين، من ارتكاب الجرائم، لكن ليس قبل أن تنفذ جميع الوسائل والآليات الصحيحة التي تقود إلى التجريم العادل. إنها خسارة اجتماعية كبرى عندما يصبح لا بد من سلب حياة إنسان ارتكب جرما، والخسارة أكبر وأعظم عندما يتم سلب حياة إنسان بسبب جرم لم يرتكبه، لكن فقدان المعايير التحقيقية والقضائية الصحيحة هي التي أوصلته إلى حبل المشنقة. وإذا كانت منظمة «هيومن رايتس ووتش» قد دقت ناقوس الخطر بوجه هذه الكارثة في دول عدة، فإنها دقته مرات عديدة في وجه القائمين على السلطة القضائية العراقية بدون جدوى. ففي الاسبوع الماضي عادت المنظمة المذكورة للتذكير بالامراض الفتاكة التي تنخب جسد القضاء العراقي، حيث أصدرت تقريرها الجديد المتضمن تحذيراتها من أن الاجراءات الجنائية في المحاكم العراقية متخلفة تماما عن مستوى المعايير الدولية للمحاكمات العادلة، بسبب ابتلائه بالفساد وضعف الاجراءات القانونية الصحيحة التي يستند إليها، مما جعله في كثير من الاحيان يستند في الادانة إلى اعترافات مفبركة أو منتزعة تحت التعذيب. وإذا كان المبدأ القانوني يشير إلى أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإن ما لاحظته المنظمة، أن الكثير من المتهمين يتم عرضهم على شاشات التلفاز باعتبارهم مجرمين قبل مثولهم أمام المحاكم المختصة، مما يسبب ضغطا معنويا على القائمين على تطبيق القانون باتجاه إصدار عقوبة الإعدام عليهم، كذلك عدم وجود محامين يمثلونهم، أو أن تقوم المحكمة بانتداب من ينوبون عنهم، وعادة ما يحصل هذا الاجراء في يوم المحاكمة، مما يقضي على فرصة الاستماع إلى أقوال المتهمين بحرية، كي يعد المحامين دفاعهم عنهم، وبالتالي فإن دورهم سيقتصر فقط على طلب الرحمة، بعد أن يصدر القاضي الحكم عليهم ، وهذا ليس هو الدور المرسوم لهيئات الدفاع، خاصة في حالات الاشخاص الذين يمثلون في تهم تتعلق بما يسمى الإرهاب.

إننا لا نقول بضرورة إطلاق الحرية للمجرمين للايغال في دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، فليس من عاقل يدعو إلى هذا، لان هذه الأفعال تؤدي إلى تقويض السلم الاهلي وضياع الحقوق وسيادة شريعة الغاب، لكننا نتفق تماما مع مناشدات المنظمة الدولية التي تدعو الحكومة العراقية إلى تقوية النظام القضائي العراقي، وتحقيق مبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته، والابتعاد عن تسييس تطبيق عقوبة الاعدام، حيث أن السلطات العراقية لازالت حتى اليوم ترى أن زيادة عدد الرقاب المعلقة في المشانق، الدليل الوحيد على ضبط الامن، لذلك نسمع بين الحين والآخر أصواتا برلمانية وحكومية ترتفع عند حصول اختراقات أمنية كارثية، تدعو إلى الاسراع بإعدام كل الموقوفين في قضايا ما يسمى الارهاب، حتى أن الكثير من الميليشيات الحكومية المتنفذة، تجاوزت السلطات القضائية، واقتحمت السجون ومراكز الاعتقال، ونفذت عمليات إعدامات جماعية، بحجة أن هؤلاء الموقوفين إرهابيون يقتضي القصاص منهم مباشرة، بدون حق الوقوف أمام محاكم عادلة تنصفهم، كما أن الكثير من المتهمين تم القضاء عليهم بحملات قتل جماعي بالسكاكين، من قبل من يرتدون زي الجيش أو الشرطة، في عمليات تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة، بدون قرار من قاض أو محكمة عادلة. وإذا كان الوضع الاستثنائي في العراق يتطلب تنفيذ عقوبة الاعدام على نحو أسرع، حسب قول وزير العدل العراقي، الذي ينتمي إلى حكومة ديمقراطية منتخبة حسبما يدعون، فإن عليه أن يعرف أن القانون وضع لحماية حقوق القاتل والمقتول، والمجرم والضحية، وأن أي اختصار وابتسار لاجراءات العدالة وإمالة كفة الميزان لصالح هذا الطرف أو الاخر، سيضع حقوق الجميع في مهب الريح وأولهم الضحايا، لأن الخطأ في إقرار جرمية المجرم سيولّد الحقد الاجتماعي وسيدفع الاخرين للسعي لاخذ القصاص بأيديهم، بدون اللجوء إلى القانون، وقد وصل العراق واقعيا إلى هذا المستنقع، حيث بات القتل الفردي والجماعي يمارس يوميا في الشوارع والاحياء، وقد أعطى البعض لانفسهم الحق بالقصاص من الاخرين بدون الرجوع إلى المؤسسات القضائية.

أما تهمة الانتماء إلى الدولة الاسلامية فقد باتت اليوم شائعة في الوسط العراقي، حتى أصبحت من أسهل وأسرع وسائل الانتقام والابتزاز على الصعيد الشخصي أو السياسي أو الاجتماعي، وأنها لا تحتاج إلى أي دليل، فقط الاعلان عن أن هذا الشخص إرهابي، أو أن هذا الصحافي كتب مقالا إرهابيا، أو أن هذا المحلل السياسي كان حواره السياسي في قناة ما حوارا يتسق مع الارهاب، لانه كشف عورة من عورات النظام السياسي في العراق.

يقينا ليس إنجازا يحسب لأي حكومة في العالم ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية، عدد حالات الاعدامات لديها، بل هو إخفاق ما بعده إخفاق، وفشل كبير لا يمكن تجاهله، لأن السلطات الناجحة والعادلة هي وحدها التي تفشي الوئام والسلام في المجتمعات، فتتناقص الجرائم ويسود الأمن بين الجميع. أما في ظروف العنف الاستثنائي المنظم الذي يجتاح المجتمعات، فإن الحل الوحيد هو بالبحث العادل عن أسباب حصول ذلك والوقوف على مسببات العنف. أما القفز على الحقائق وتجاهل السلبيات والاصرار على انتهاج أساليب وطرق فاشلة، فإن كل ذلك يدفع إلى زيادة العنف والعنف المضاد في المجتمعات، فمحاربة «تنظيم الدولة» لا يفترض أن يكون بطريقة اعتبار كل من يسكن محافظات معينة أو من طائفة محددة، أو من ينتقد ممارسات الدولة وميليشياتها مواليا لهذا التنظيم أو أحد عناصره، لان التعميم آفة خطيرة تقوض مصداقية السلطات وتفقد هيبة الدولة وتزعزع سلطانها، وتجعل المظلومين يقارنونها بالطرف المضاد، ويصبحون أكثر استعدادا لموالاة من يسعون إلى تقويض سلطاتها.

إنها مفارقة كبرى أن يكون العراقيون مجرد رقم في قوائم إعدامات مستمرة في الصدور من قبل جهات كثيرة. فالسلطات مازالت ماضية في إصدار قرارات الاعدام، و»تنظيم الدولة» ماض في ذلك أيضا، والميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة، كلها تصدر قوائمها اليومية والشهرية بحق هذا الشعب، فيما يوقع العراق مع الاتحاد الاوروبي على اتفاقية لتمويل مشروع دعم الحكم الرشيد والعدالة الجنائية!

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,623,874

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"