البعث والديكتاتورية/ 6

‏صلاح المختار

ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني

‏علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)‏

 

هل توجد ديمقراطية  فعليه في العالم ؟ نظريا نعم توجد ولكن عمليا كلا لا يوجد نظام ديمقراطي حقيقي في  ‏امريكا بشكل خاص لانها غطاء ذكي لنظام سيطرة متطرفة تتجاوز حدود الاستبداد التقليدي (‏absolutism‏) وتدخل ‏في اطار شمولية تتجاوز ايضا  طبيعة الشمولية (‏Totalitarianism‏) كما حددها الغرب لوصف انظمة شيوعية ‏وعالمثالثية التي تهيمن على الانسان سياسيا وتترك له حريات مختلفة في المجالات الاخرى ، لكن شمولية امريكا ‏اخطر بكثير لانها تتدخل في التكوين الجيني والنفسي للانسان في عملية مخططة للتحكم ليس  فقط في ردود افعاله  ‏بل وفي جعله يقوم بفعل مبادر  وهذا هو الاخطر في سلوك الانسان ، والهدف العملي هو ضمان السيطرة على ‏سلوكه العام  الخاص . ‏

هنا يكمن مفتاح فهم عالمنا  بصورة صحيحة وواقعية وبعيدا عن عمليات غسل الدماغ الجماعية للنخب ‏وللشعوب التي جرت وتجري لايهام الناس بوجود ديمقراطية تعبر عن تطلعات الناس العاديين لكنها مصممة لاخفاء ‏نظام السيطرة الذكية للرأسمالية على المجتمع ، وبما ان العالم كما نراه عالم صراعات دموية وحروب متعددة ‏الاطراف معقدة وغامضة المحرك والاهداف النهائية وليس عالم استقرار وسلام فان البحث عن الديمقراطية عالميا ‏لابد وان يقترن بتذكر مستمر لتلك الحقيقة  ويحدد المياسم الحقيقية للنظم عامة : ‏

‏1-بعد ما حصل من حروب عالمية واقليمية في فيتنام وغيرها يكفي ان ننظر الان الى العراق وسوريا واليمن ‏وليبيا والسودان ، وما بدأ يحصل ويكبر تدريجيا في مصر وتونس ولبنان وغيرها من الاقطار العربية اضافة لما حصل ‏في اوربا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وكانت  حرب اوكرانيا اخر فصول الوحشية العالمية ، يؤكد باننا نمر ‏بفترة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية من حيث الاستبداد الشمولي المتجاوز لكافة اشكال الوحشية والاستبداد في ‏التاريخ الانساني .‏

عندما يقول الدستور الامريكي بانه يجب نشر القيم الامريكية في العالم وجعلها عالمية ، اي تلتزم بها كافة الامم ‏والشعوب وبغض النظر عن تميزها الحضاري والثقافي وتناقض مفاهيمها مع القيم الامريكية ، وعندما يترجم تلك المقولة ‏رؤوساء امريكيين مثل بوش الاب بتأكيده بان القرن 21 سيكون قرنا امريكيا ، وعندما يؤكد مسؤولون وخبراء في امريكا ‏بانها هي التي تقود العالم ويجب ان تواصل قيادته وعلى كافة الدول ان تتبع امريكا ، وعندما تلجأ امريكا للحرب والضغوط ‏الاقتصادية والاعلامية ، وهي اخطر من الضغوط الاقتصادية ، لابتزاز الدول في كل القارات من اجل اخضاعها علنا فاننا ‏بأزاء مشروع كوني للسيطرة المنفردة على العالم ليس اقتصاديا وعسكريا فقط كما كان عصر الاستعمار التقليدي بل اننا ‏بمواجهة ستراتيجية متطرفة لفرض انماط السلوك والتفكير الامريكيين على كل العالم ! ‏

كيف نصف هذا السعي السوبرستراتيجي لامريكا ؟ ما تريده امريكا وتعمل من اجله وتخصص مئات المليارات ‏من اجل توفير وسائل تنفيذه هو اقامة ديكتاتورية عالمية هي الاكثر استبداد وشمولية ، فلم يسبق ابدا ان سيطرت  ‏دولة بواسطة اجهزة متخصصة ، المخابرات عبر الانترنيت وغيره مثلا ، على الناس  العاديين بوسائل غير عسكرية ‏مثلما يحصل خصوصا منذ ما يسمى ب( ثورة المعلوماتية والاتصالات) حيث فقد الانسان ليس خصوصيته فقط ‏بل ثقافته وهويته وهجّن ودجّن مليارات الناس بحيث هيمن تفكير فردي واجتماعي مختلف عما سبق تلك الثورة . ‏ان العالم كله  يشهد مرحلة ابتدأت بانهيار الاتحاد السوفيتي ومازالت مستمرة حتى الان  تتميز بوجود نهج جامح لتغيير ‏قيم العالم الاخلاقية والحضارية وفرض انماط اخلاقية امريكية متناقضة مع العالم بما في ذلك القيم الاوربية التي ‏ولدت من رحمها القيم الامريكية ولكن بصورة مسخ مشوه ، وقيم امريكا كما عرفناها نحن في العراق وفلسطين وسوريا ‏وليبيا وفيتنام مثلا تتميز بالعنف المتطرف والوحشية غير المسبوقة متجسدة الحروب والفساد والافساد  المنظم والحط ‏الشامل للانسان والالغاء الكامل لحرية الاخرين واجبارهم على الخضوع لاول عبودية للانسان تشمل داخله اي حوافزه ‏النفسية وحثه البيولوجي  .‏

في عصور ما قبل هذه المرحلة كانت السيطرة على الانسان من خارجه عبر الاستبداد والديكتاتورية والغزو ‏ولذلك فشلت في تغيير هويته الثقافية والقومية والدينية وبقيت طبيعته الانسانية دون تغيير اضطناعي ، اما الان ‏فقد جرد عشرات ان لم يكن مئات الملايين من البشر من اهم ميزات البشر وهي  عفويتهم وتصرفهم وفقا لقوانين ‏الجسد وعقله الصافي والطبيعة كما خلقها الله ، فاصبح يخضع لتأثيرات التدخل العلمي في جيناته ونفسه والتاثير ‏الاصطناعي على عقل الانسان وغزوه من داخله من اجل تحويله الى روبوت  لكنه حي ، وتلقينه الكذب والنفاق ‏والخداع وشرعنة النهب والفساد والشذوذ الجنسي والفردية المتطرفة ، كما تفعل امريكا التي كان اخر مبتكراتها ‏الاكثر غرابة في التاريخ الانساني وهي تشريع الزواج المثلي  ! ‏

وتتوسع امريكا في نهجها الشمولي المتطرف داخلها وخارجها بالدعوة عالميا لشرعنة الشذوذ الجنسي وابرز محطات ‏ترويج ذلك مؤتمرات السكان العالمية التي تدافع عن الشذوذ وتضع قوانين لحماية الشواذ ! وما فعلته السفيرة الامريكية ‏في الاردن بدعم وحضور مؤتمر للشاذين جنسيا وما فعلته امريكا بعد غزو العراق من دعم للمثليين وحمايتهم والسماح ‏لهم بممارسة طقوسهم الشاذة امام الناس بوقاحة ليس سوى مثالين حيين لما تريد امريكا فرضه على العالم . فقط ‏تخيلوا اي نوع من الاستبداد والشمولية اللتان تمارسهما امريكا واللتان وصلتا حتى الى اخص خصوصيات الانسان ‏وهي علاقاته الجنسية !!! هل فعلت روسيا الان والاتحاد السوفيتي سابقا او اي دولة في التاريخ القديم والحديث ما ‏نفعله امريكا ؟ هل فرض الاتحاد السوفيتي انماطا من السلوك مثل التي تفرضها امريكا تحت غطاء الاستجابة لفئة ‏اجتماعية لا تشكل الا جزء صغيرا من الناس ولذلك يطلق عليهم وصف (الشاذين) ؟ ‏

والاخطر من كل ما تقدم هو ان امريكا تعلن صراحة انها استخدمت وتستخدم وسوف تستخدم قوتها ‏المتفوقة لفرض قيمها !!! هذا هو عالمنا الذي يجب ان نواجه تحدياته غير المسبوقة بخطورتها وقدرتها على تحقيق ‏اختراقات مباشرة لروح الانسان ولجسده وتجريده من اهم ما منحه الله وهي  فطريته  وحريته الفطرية .‏

نحن نتناول هذه المفاهيم لان الاعلام الغربي والصهيوني قد غسل الادمغة عالميا  بترويجات خاطئة ومضللة الخلط ‏فيها هو احد اهم اساليب التضليل الناجحة ، فوعي العالم في عصر المعلوماتية  ضخم كميا وافقر نوعيا فصار قاصرا ‏لانه سطح ولم يعد التفكير العميقة والشمولي موجودا على مستوى العامة  وتراجع دور المفكرين والمثقفين بصورة مذهلة ‏وسادت انماط التفكير الجاهز في كل مجال ، لذلك سهلت عملية الخلط بين المفاهيم واستخدمت لجر الناس الى ما ‏تريده الاحتكارات الغربية . ومن بين اخطر الاكاذيب التي روجت واقتنع بها مليارات البشر الادعاء بوجود ديمقراطية ‏حقيقية في امريكا ودول اوربية مع ان ذلك مجرد غطاء يخفي ابشع انواع الاستبداد والشمولية كما وضحنا . ‏

لنبدا بقراءه كيفية تعامل المفكر والسياسي الغربي مع الديمقراطية لنتأكد من الواقع كما هو ، هناك مقولات ‏وحكم غربية مستخلصة من واقع الحياة الغربية في اوربا وامريكا الشمالية منها ما يلي : (الديمقراطية هي ان تختار من ‏سيأكلك) و(اذا كنت لا تستطيع اقناعهم ، حاول ان تسبب لهم الارتباك. ~ الرئيس الامريكي هاري ترومان) و(يعاقب ‏الاذكياء الذين يرفضون الانخراط في العمل السياسي بان يحكموا بواسطة الاغبياء. ~ أفلاطون) وهذا يذكرنا بقوة ‏باختيار بوش الصغير رئيسا رغم غباءه ,( الديمقراطية هي اثنين من الذئاب وحمل يقوم بالتصويت على من سيحظى ‏بتناوله على الغداء.. ~ مجهول) و( كلمة السياسة في الانجليزية تتكون من مقطعين: بولي= "العديد" و تيكس= "طفيليات ‏تمتص الدم" ~ اري هارديمان ) و (السياسيون والحفاضات لديهم شيء واحد مشترك. في انه ينبغي لهما أن يتغيرا بانتظام ‏ولنفس السبب. ~ مجهول) هذا القول يوضح حجم الفساد والتلاعب باسم الديمقراطية . (تسمح لك الديمقراطية ‏بالتصويت لصالح المرشح الذي تكرهه بدرجة أقل. ~ روبرت بيرن ) و(السياسة هي البندول الذي يتأرجح بين الفوضى ‏والطغيان وتغذيها بأوهام متجددة على الدوام. ~ البرت اينشتاين) و( الديمقراطية تعني ببساطة ضرب الشعب بالهراوات ‏بواسطة الشعب لصالح الشعب. ~ أوسكار وايلد) .‏

هذه اقوال منتقاة من بين مئات الاقوال التي تصف طبيعة وحقيقة الديمقراطية في الغرب ، وهي كلها تتفق على ‏عدة حقائق منها ان الديمقراطية وعالميا وفي مراكزها التقليدية عبارة عن قناع يخفي ابشع انواع الاستغلال والاستبداد ‏واكثرها خطورة في كل التاريخ الانساني . وبسبب ذلك نشبت اخطر الحروب ومازالت مستمرة وتضربنا نحن العرب بشدة ‏وتطرف اكثر من اي شعب اخر فهل يوجد انسان عاقل ويملك ذرة منطق ويتحدث عن نواقص الديمقراطية ووجود ‏استبداد متجاهلا  ان العالم يعيش في بيئة لا تنتج الا الاستبداد  وتحول اي نظام ديمقراطي الى واجهة كبيرة لابشع ‏استبداد في التاريخ ؟ وهنا نذكر باحد اهم حكم ومقولات العرب وهو ( نقول له انه ثور ومع ذلك يقول احلبوه ) .‏

عندما نـأخذ كل تلك الحقائق بنظر الاعتبار فاننا نواجه سؤالا لا مفر منه ابدا وهو : في عالم تقوم به دول عديدة ‏منها امريكا و(اسرائيل الشرقية) و(اسرائيل) الغربية بتنفيذ اخطر الخطط ضد هويتنا القومية ووجودنا الانساني ‏وتشعل حروبا تدمر الانسان والعمران هل بالامكان تطبيق الديمقراطية وممارسة الحرية بصورة صحيحة ؟ ام اننا ‏سنجبر كل مخلوق حي يتعرض للتهديد المباشر بالموت المقترن بعذابات قاسية على اما تغيير هويته وثقافته وهو ما ‏تريده امريكا او اللجوء للعنف المضاد فيتحول العالم كله الى ساحة حرب شاملة تشن عليه من داخله بالتلاعب ‏بجيناته وبالتأثير على دماغه  ومن خارجه  باخضاعه لاكثر نظم التاريخ شمولية واستبدادا ؟

ما نواجهه في العراق وسوريا واليمن وليبيا بشكل خاص وفي اماكن اخرى ، يؤكد بالقطع بان حربا عالمية شاملة ‏تجري بطريقة مختلفة عن الحروب العالمية السابقة منذ عام 1991 وهي مازالت تشتعل وتحرق الاف الناس شهريا بلا ‏رحمة ، والحرب هدفها وضع العالم كله على حافة الموت من اجل اجبار الناس على قبول السخونة – الاستسلام لامريكا - ‏لتجنب الموت الاكيد .‏

ان الفوضى العارمة التي تجد كافة الدول انها معرضة لها نتيجتها الاولى انهاء العالم الذي عرفناه خلال الاف السنين ‏وبدء حقبة استعباد الانسان بارادته الاصطناعية وافضل وسيلة لاجبار الانسان على قبول العبودية هذه هو نشر ‏الفوضى في اركان كل مجتمع ،ولهذا استنفرت كل الدول وتحولت الكتل البشرية الى ما يشبه الات تخزين قلق متطرف ‏قابل للانفجار وتوقع الكوارث في كل لحظة . ‏

فهل يمكن اقامة نظام ديمقراطي في بيئة مثل هذه اذا تذكرنا ان الديمقراطية لا تقوم الا في ظل السلام والاستقرار ‏وحماية الانسان من التهديد والابتزاز؟ اذا كانت امريكا واوربا الغربية وهما الانموذجان الافضل للديمقراطية قد شرعتا ‏في تقييد الحريات تحت غطاء مواجهة الارهاب رغم انها دول مؤسسات دستورية وتقاليد راسخة وامكانيات هائلة ‏عسكرية واقتصادية وتكنولوجية فكيف نتوقع من قطر مثل العراق نام ويتقدم وسط الغام خطيرة تتفجر في وجهه ‏بانتظام ان يصبح ديمقراطيا وعلى الطريقة الغربية ايضا ؟ اليس منطقيا ان ندين اولا وقبل كل شيء الحروب ‏والفوضى ونحدد من ينشرهما وكشف اهدافه واعتبار انهاءهما مقدمة لابد منها لاستتباب السلام  الذي بدونه ‏يستحيل اقامة اي نوع من انواع الديمقراطية وانهاء الاستبداد ؟ اليس ضروريا كشف كيفية تزوير ارادة الناس ‏باساليب ذكية تستخدم للسيطرة على الانسان وتحديد فعله خصوصا في الانتخابات ؟

 

يتبع.‏.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,042,703

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"