#واشنطن نحو #طهران.. و #الرياض نحو #موسكو!‏

صبحي غندور

هل هي صدفةٌ زمنية فقط أن يحصل هذا التطوّر الهام بالعلاقات الروسية مع المملكة العربية السعودية، في ‏الوقت نفسه الذي تقترب فيه الولايات المتحدة من توقيع اتفاقاتٍ مع إيران تنهي عقوداً من الخلاف والصراعات؟!

 

ثمّ ‏ما هي آفاق هذا التحسّن في العلاقات بين موسكو والرياض، وما هي انعكاسات المفاوضات الأميركية مع إيران ‏على أزمات المنطقة؟! ‏

بدايةً، فإنّ من المهمّ الإشارة إلى أنّ العلاقات الأميركية/الإيرانية وصلت في ظلّ الإدارة الأميركية السابقة إلى ‏ذروة السوء، خاصّةً بعدما وضعت إدارة جورج دبليو بوش إيران في "محور الشر" المطلوب مواجهته وإسقاطه ‏وتغيير أنظمة الحكم في بلدانه. وقد عملت فعلاً إدارة بوش وما كان فيها من تيّار أيديولوجي محافظ على محاولة ‏تغيير الأنظمة في إيران وكوريا الشمالية وسوريا (كما فعلت في العراق في العام 2003)، لكن هذه السياسة ‏الأميركية في "الشرق الأوسط" فشلت وأدّت إلى نتائج معاكسة أضرّت بالمصالح الأميركية، وسبّبت هزيمةً سياسية ‏لأصحابها أنفسهم داخل الولايات المتحدة، فجاءت إدارة أوباما تحت هدفٍ معلَن هو وقف الحروب العبثية الانفرادية ‏والدعوة إلى التفاوض مع خصوم السياسة الأميركية.‏

وقد خضعت إدارة أوباما طيلة السنوات الست الماضية لضغوطٍ داخلية أميركية من أجل سياسةٍ أكثر تصلّباً ‏مع إيران، ومن أجل التراجع عن هدف التفاوض معها. وهذه الضغوط كان، وما يزال، مصدرها مزيج من قوى ‏الحزب الجمهوري المعارض، ومن التيّار الديني المحافظ في أميركا، ومن تأثيرات اللوبي الصهيوني المؤيّد ‏لتوجّهات الحكومة التي يرأسها نتنياهو، والتي تسعى للضغط على إدارة أوباما من أجل التصادم مع ‏إيران وليس التفاوض معها الآن.‏

لقد أضحى المجال الحيوي السياسي والأمني لإيران في العقود الثلاثة الماضية شاملاً للصراع ‏العربي/ الصهيوني بجبهاته السورية واللبنانية والفلسطينية، وأصبحت طهران معنيّةً مباشرةً بتفاعلات وتعقيدات ‏العلاقات العربية/ العربية، وبالصراعات المحليّة في عددٍ من بلدان المنطقة. فجاء الملف النووي الإيراني ليزيد، ليس ‏فقط من تأزّم علاقات طهران مع الغرب، بل أيضاً من تعاظم دورها كقوّة إقليمية كبرى، وبأن يُسبّب ذلك اتّساع ‏رقعة خلافاتها مع عددٍ من دول مجلس التعاون الخليجي العربي.‏

ولقد أدركت إدارة أوباما أنّ المشكلة مع إيران لن تُحلّ بمزيدٍ من قرارات مجلس الأمن، بل بأحد طريقين: ‏الحرب أو التفاوض. وقد تجنّبت إدارة بوش أصلاً خيار الحرب على إيران بسبب محاذيره العسكرية والسياسية ‏والاقتصادية على أميركا، وعلى المنطقة والعالم عموماً. لذلك، سارت الإدارة الأميركية الحالية بالخيار الآخر (أي ‏التفاوض)، فالتفاوض أصبح الخيار الأفضل المتاح الآن للتعامل مع إيران من أجل تحقيق تسوياتٍ تحقّق "سلاماً ‏مؤقتاً" في إطار مناخ دولي وإقليمي مناسب لتراجعاتٍ متبادلة ولتنازلاتٍ ومكاسب على مستوى كلِّ طرف، ممّا ‏جعل إدارة أوباما تطمح إلى فتح صفحة جديدة مع طهران، بغضّ النّظر عن نظام الحكم فيها، وبشكلٍ مشابه ‏لعلاقات واشنطن مع الصين، ولما يحدث الآن مع نظام كاسترو في كوبا.‏

لكن هذه المفاوضات والنتائج التي قد تصل إليها، لن تؤدّي إلى صفقة دولية شاملة لكل الأزمات القائمة الآن ‏في المنطقة، إضافةً طبعاً لمسألة الملف النووي الإيراني، بل إنّ الآمال المرجوّة من هذه المفاوضات الأميركية – ‏الإيرانية، العلنية والسرّية، هي تفكيك الأزمات وفكّ الارتباط بينها وحلّ ما أمكن منها، علماً أنّ تسويةً ما لأيٍّ من ‏الأزمات ستكون قوّة دفعٍ إيجابية لتسوية الأزمات الأخرى.‏

 

العلاقات بين موسكو والرياض

هناك تساؤلات وتفسيرات عديدة جرت عقب زيارة ولي ولي العهد ووزير الدفاع في ‏المملكة العربية السعودية، الأمير محمد بن سلمان، لسانت بطرسبورغ في الشهر الماضي ولاجتماعه مع الرئيس الروسي بوتين لحوالي ‏الساعتين، ثمّ لحجم الاتفاقات التي جرى الإعلان عنها بعد الزيارة، وكذلك دعوة الرئيس بوتين لزيارة الرياض، كما ‏وجّهت الدعوة إلى الملك سلمان لزيارة موسكو، وسوف تحدّد مواعيد الزيارتين لاحقاً‎.‎

وهذه كلّها مؤشّرات على أنّ هناك تطوّراً إيجابياً يحدث في العلاقات بين موسكو والرياض، لكن كيف يمكن ‏تفسير ذلك في ظلّ وجود تباينات كثيرة بالمواقف بين البلدين؟!. فروسيا الاتحادية تقف إلى جانب إيران وتدعم ‏النظام السوري الحالي وترفض التدخّل العسكري الخارجي في اليمن، إضافةً إلى الخلافات الكبيرة القائمة الآن بين ‏موسكو والولايات المتحدة (الحليف المهمّ للسعودية) بعد اشتعال الأزمة الأوكرانية، ووجود عقوبات أميركية وأوروبية ‏بحقّ روسيا ومحاولة عزلها دولياً، بينما زيارة الأمير محمد بن سلمان لروسيا والاتفاقات التي نجمت عنها تتناقض ‏مع السياسة الغربية الراهنة الهادفة إلى معاقبة روسيا!.‏

فكيف ولماذا يحدث هذا التطوّر الإيجابي في العلاقات السعودية – الروسية رغم التباينات في السياسة ‏الخارجية ورغم الخلاف الحاصل أيضاً بين موسكو والغرب؟!.‏

البعض حاول تفسير الأمر وكأنّه مجرد انفتاح سعودي على دولةٍ كبرى وبأنّ المسائل هي في إطار المصالح ‏الاقتصادية المشتركة فقط، أو هو مجرّد توسّع استثماري سعودي لا يرتبط بخلفيات سياسية، وهذه تفسيرات محدودة ‏الأفق ولا تعكس واقع حال السياسات السعودية في قضايا دولية عديدة. فالمملكة العربية السعودية هي ليست ‏كالصين أو الهند أو اليابان وغيرها من الدول التي تشهد نمواً اقتصادياً واسعاً وتبحث عن أسواق عالمية ‏لمنتوجاتها، بغضّ النّظر عن الخلافات والأزمات السياسية السائدة في العالم. فالسعودية هي طرفٌ مهمّ جدّاً في ‏عدّة قضايا مشتعلة في منطقة "الشرق الأوسط"، وهي تُحاسب وتعاقِب وتكافئ الكثير من الدول والجهات تبعاً ‏لمواقف هذه الأطراف من تلك القضايا. فلا يعقل أن يكون التحسّن في العلاقات مع موسكو منعزلاً عن السياسة ‏الخارجية السعودية في هذه المرحلة.‏

لكن هل يحصل هذا الأمر بتناقض سعودي مع واشنطن أو بتفاهمٍ مسبَق معها؟!. فالبعض يربط بين هذا ‏التطوّر المهمّ في العلاقات السعودية - الروسية وبين ما حدث في نهاية العام 2013 من خلاف بين الرياض ‏وواشنطن بشأن الأوضاع في سوريا، وامتناع إدارة أوباما حينها عن استخدام القوة العسكرية ضدّ النظام السوري بعد ‏الحملة التي ادّعت استخدامه للسلاح الكيمائي. ففي ذلك الوقت، خرجت تصريحات سعودية تتحدّث عن إمكانية ‏التوجّه نحو موسكو كبديل للعلاقة الخاصة مع واشنطن. لكن كان واضحاً أنّها تصريحات تكتيكية لا قيمة عملية ‏لها، ليس فقط بسبب طبيعة العلاقات السعودية – الأميركية، بل لأنّ الحديث عن "البديل الروسي" لم يكن أمراً ‏منطقياً، فموسكو هي الحليف الدولي الأكبر للحكم في سوريا، فكيف تكون هي البديل عن واشنطن؟!.‏

ربّما يكون الهدف من زيارة الأمير محمد بن سلمان لروسيا يرتبط بالحرب الدائرة الآن على اليمن، ‏وبالمساعي التي تقوم بها الرياض من أجل تأمين إجماع دولي يدعم موقفها في الحرب اليمنية، وفي كيفيّة إنهاء ‏هذه الحرب، خاصّةً أنّ روسيا قادرة على التأثير على الموقف الإيراني الداعم للحوثيين في اليمن.  ‏

أيضاً، فإنّ التطور الإيجابي الحادث الآن في العلاقات بين الرياض وموسكو، يمكن وضعه في إطار السعي ‏السعودي/ الأميركي المشترَك لتخفيف حجم الدعم الروسي للحكم السوري ولتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، من ‏خلال تطوير صيغ التعاون الروسي – السعودي، لكن هذا الهدف الذي تُشجّع عليه واشنطن لا يمكن تحقيقه ‏بسهولة. فالرئيس بوتين أكّد أكثر من مرّة حرصه على مواصلة سياسته الراهنة تجاه الأزمة السورية، وهو ليس بوارد ‏التخلّي عن البلد الوحيد في المنطقة العربية الذي لروسيا نفوذٌ فيه، بما في ذلك المنفذ البحري الوحيد على البحر ‏المتوسط المتاح للسفن الحربية الروسية في مدينة طرطوس السورية.‏

‏ في الموضوع الآخر، فإنّ هناك من يتخوّف الآن من تحسّن العلاقات الأميركية/الإيرانية، ومن إمكانية أن ‏يكون هذا التحسّن على حساب علاقات واشنطن مع أطراف أخرى حليفة لها بالمنطقة، بينما واقع السياسة الخارجية ‏الأميركية يؤكّد أنّ واشنطن لا تستبدل حلفاء بآخرين. فالولايات المتحدة حسّنت علاقاتها مع الصين في العقود ‏الماضية دون التخلي عن حليفها الآسيوي الكبير اليابان، وفعلت واشنطن الأمر نفسه مع الهند دون التراجع في ‏العلاقات الأميركية الخاصة مع باكستان. فواشنطن تستفيد جداً من علاقاتٍ إيجابية مع أطراف تختلف فيما بينها ‏لكن يحرص كلٌّ منها على العلاقة مع واشنطن!. فهذه السياسة الأميركية القائمة على "التوازن بين الأضداد" أثبتت ‏فعاليتها في أمكنة عديدة من العالم، وهي تُنفَّذ الآن حتّى في سياسة واشنطن تجاه أزماتٍ عربية مشتعلة.‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,619,181

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"