سمعنا أكثر من مرة، من يتهددنا، يتوعدنا، بالويل والثبور وعظائم الأمور ويحذرنا إن تصدينا لخطط الفرس ومؤامراتهم، بالخلايا النائمة، وبقوى خفية كامنة، غير ظاهرة، وبقدرات وإمكانات لا نراها ولا قبل لنا بها، وجاء هذا التهديد على لسان رؤساء، وحكام، وشخصيات نافذة في الحكم وخارجه.
والعقل السياسي العربي في سماته وسياقات عمله، لا يكترث كثيراً لمثل هذه التهويلات، ولكن هناك في معسكرنا من يريد أن يواصل مهمة التهديد والترغيب، فينطلق في التهويل وبث الذعر (كما يعتقد) ليواصل المهمة في إطار توزيع الأدوار والمهمات، بهدف التأثير في المعنويات وهز ثقة المواطن بكيانه بقياداته، ومحاولة للتأثير في المعركة بمهمة أشبة بالقصف المدفعي التمهيدي الذي يسبق الهجوم العام.
لم يفكر الكثيرون منا، من هم يا ترى الخلايا النائمة، (وقد بات هذا المصطلح تحديداً على رأس الطلقات التحذيرية لتلك الجهات البائسة) التي يهددون بها في اليمن والخليج البحرين والكويت والإمارات وقطر والسعودية، أو القوى الكامنة التي بها أيضاً يهددون؟
المبالغة والتهويل صفة معروفة لمطلقي هذه الحملات الخلَّبية (الخلَّب: طلقة صوتية لا أثر فعلي لها) ونحن في العراق نعرفها أكثر من غيرنا، نعم نحن نقر أنهم متعبون في التعامل، ولكن في النهاية يرضخون للأمر الواقع ويلحسون تصريحاتهم بكل امتنان وقلة حياء.
نعم إنهم يلحقون ضرراً بعملية التنمية في بلداننا، ولكنهم يلحقون الضرر بأنفسهم بأكثر من ذلك، فالأموال الطائلة التي تنفق على الأسلحة والتآمر والتخريب ضررها بالدرجة الأولى على شعبهم إذ هي على حساب التنمية والخدمات في بلادهم قبل كل شيئ، ثم أن هذه الأساليب الملائية لا تبعث على الاحترام.
من هم الطابور الخامس في أقطارنا؟
الطابور الخامس عناصر لا تحمل السلاح لتقاتل العدو، ولكنها تعمل على تخريب الخطوط الدفاعية، في جبهتنا، ويتألف بالدرجة الأولى من جماهير البسطاء السذج، الذين غسلت أدمغتهم بصورة دقيقة ثم استغفلوهم ويخاطبونهم بلغة يستولون فيها على عواطفهم ورؤوسهم وغرائزهم، ليكون الناتج النهائي عناصر مطيعة تقاد إلى مصائرها حتف أنفها. ولكن الأخطر من ذلك أن مفاتيح هذا الطابور وهي تلك العناصر التي تؤلف بمجموعها وعملها الذي يشابه تكوين وعمل الفرقة الموسيقية، فهناك من يضع الخطة لرجال الطابور، ثم ليعزف كل على آلته لينتج لحناً في النهاية ملائماً لكلمات نص الأغنية. فالفرقة هذه تتألف من :
1.(بعض) من رجال الدين المجيرة ولائهم للدولة الفارسية، بصرف النظر عن طوائفهم.
2.سياسيون تم تجنديهم في ظروف وأوقات متفاوتة.
3.صحفيون حرفيون أو يمثلون اتجاهات قومية وتقدمية، والبعض منهم يساريون، ومن ديانات مختلفة، يعملون وفق مبدأ العلاقات العامة، والعمل بالقطعة وتأجير الخبرة والقدرة.
4.(بعض) مثقفين من اتجاهات مختلفة ممن يتعاملون مع الثقافة كمهنة وليس كأهداف نبيلة.
الطابور الخامس في بلادنا تشكَّل عبر عمل طويل كان قد قطع شوطاً حتى في عهد السافاك/ نظام الشاه، وتواصل بناؤه بقوة في عهد الملالي الصفويين، ويلعب المال وشتى الإغراءات دوراً مهماً في كسب تلك العناصر، أو التهديد في بعض الحالات بالتصفية الجسدية، كما تعرض إلى ذلك إعلاميون وسياسيون وقادة رأي وشخصيات نافذة، في أكثر من قطر: سورية، لبنان، العراق.
ولا نريد هنا أن نرد على كل ما يروج له الطابور الخامس، ولكن نرى من الضروري الوقوف عند بعض اللافتات الرئيسية التي يدور العمل تحتها:
*الخلايا النائمة: لا يتردد حتى رؤساء (بالمنصب، كبشار الأسد مثلاً) وصحفيون كبار، وسياسيون أن يهددون من طرف اللسان بالخلايا النائمة، وأن هذه الخلايا ستحرق الأرض عاليها وسافلها، والحق أن هذه الخلايا دُرِّبت على عمليات التخريب والإرهاب، ويغض الطرف من يدعي الحرص على حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب عن فعاليات الخلايا النائمة، فيصح فيها القاعدة القانونية "من أمن العقاب أساء الأدب" ومع كل ذلك فحصاد التخريب كان مزدوجاً وليس أحادي الجانب، نعم كانت هناك تضحيات وخسائر، ولكن من ربى هذه الخلايا وأنفق عليها الكثير، وبالغ بقدراتها ثم خسرها بسرعة وبسهولة لم يكن يتوقعها.
*مفردات الحملة الشعوبية: وهي ليست جديدة في أساليبها وأهدافها: السخرية من التاريخ واللغة واللباس وسائر المكونات الثقافية، والعمل على إضعاف أصلب المكونات العربية: ثقة العرب بأنفسهم المتأصلة والمتجذرة عبر تاريخ يمتد لأكثر من 2000 عام في العهود التاريخية، والسخرية من العرب وكرامتهم ولغتهم وتقاليدهم، وسائر مكوناتهم الثقافية. متناسين أن العرب علَّموا العالم الحرف والرقم، ومعظم ثقافة وعلوم العالم جذرها في بلادنا!
وهناك من يروِّج أن العرب يحترفون الهزيمة، متناسياً أن الوطن العربي كان مقبرة الامبراطوريات العظمى عبر التاريخ، ربما هو يحاول أن يثأر لتلك الامبراطوريات المهزومة على أرضنا!
وحتى الولايات المتحدة انتهت هنا كقوة عظمى تقرر مصير المعارك الحاسمة، وهذه رؤية لقادة ومفكرين كبار. نعم هي تمتلك القوة لتدمر وتقتل، وربما تعثر مسيرة عمل سياسي ودبلوماسي، ولكنها لا تمتلك تقرير صورة نهاية الصراع وتلك هي الفقرة الأهم في أي مسيرة سياسية كانت أم عسكرية.
يخيفوننا بأميركا ... وأميركا كانت هنا ومعها 350 ألف عسكري عدا حلفائهم، وقد هزموا وفروا من العراق بالأقساط أو بالجملة، وها هم يديرون المعركة عن بعد وبواسطة وكلاء خدمة، وكل المؤشرات تدل أنهم ووكلائهم وعملائهم في مأزق.
* إيران تمتلك مشروعاً والعرب لا يمتلكونه: خرافة كبيرة يرددها عناصر الطابور الخامس ويرددها البعض عن سذاجة، أو من قبيل التهويل العاطفي. إيران تمتلك مشروعاً والعرب لا يمتلكونه!
العدوان والتآمر ليس مشروعاً لإقامة دول عظمى، ولا يسمى مشروعاً. إيران لم تكسب معركة عسكرية واحدة من مئات السنين، منذ خسارتها لمعارك: ذي قار، البويب، القادسية، النهروان، ومعاركهم مع الدولة العثمانية ...الخ وانتهاء بمعارك القادسية الثانية التي استطالت لثمان سنوات. واقتصادهم يعاني من أمراض مزمنة، ومن المخجل في علم السياسة اعتبار مشروعهم محترم، ونظامهم السياسي صالح للتعميم. والعرب يمتلكون مشروعهم الذي يزعج البعض من الصغار والكبار: التنمية وتحقيق النهضة، التي نقف على أبوابها وتدور المحاولات الحثيثة لتدميرها وإيقافها.
* إيران دولة عظمى: إبتداءً، نقول لا يضرّ العرب من تصبح دولة كبرى أو صغرى، فهذا شأن تختص به هذه الدول مع شعوبها، والعرب لم يدخلوا في مسابقة مع جهة، كلٌ خيره وشره لنفسه، فهي في آخر حرب خاضتها خرجت تلعق جراحها تجر أذيال الخيبة، وسياسياً هي دولة معزولة من جيرانها، ومهتزة اقتصادياً، والوحدة الوطنية مفقودة على نحو خطير. ونصاب بدهشة كبيرة عندما نقرأ أن إيران شيدت دولة حديثة، فليقل لنا من يريد أن يخاطب البسطاء والرعاع والغوغاء ماذا وجد في إيران يستحق أن نحسدهم عليه في نظام يشبه أنظمة القرون الوسطى، أو حتى أشد تخلفاً؟!
• هذا الولي الفقيه يسيِّر شؤون الدولة بأسرها ،وهو ليس بعبقري ليمسك بكل خيوط الحكم بين يديه، ويبقى في الحكم ولا توجد آليات لخلعه عن الحكم. ويقوم خامنئي بهذه الوظيفة منذ عام 1989 وحتى الآن (36 عام) يحكم إيران حكماً ثيوقراطياً إكريليكياً مطلقاً يقود مشروع التوسع القائم على أسس طائفية وعرقية.
• يقيم هذا النظام التحالفات المحلية والدولية السوداء والسرية الغير شرعية عون لكل من يريد التآمر، فهو مارس دور الحليف لكل من يخطط لحروب في المنطقة أو ضد نهضتها قديماً وحديثاً، فقد كان عوناً للإنكليز، والروس والأميركان، ويتوسل دور شرطي المنطقة، في دور يتقنوه.
• الأقطار العربية مجرد فسيفساء لا معنى لها، هكذا يكتب أحد عناصر الطابور الخامس، وينسى أن بغداد كانت عاصمة لقوة عظمى، وكذلك دمشق، واليمن شهدت دولاً كبيرة (سبأ، ومعين، وقتبان) قبل أن يعلم أحدهم مكانه على الخارطة. ليتفضل ويقرأ من هي الدول المهددة بالزوال ... وربما يتعلم أن المؤامرات لا تنهي شعوباً ودولاً ... دول مهددة بالاختفاء..
• إيران قررت أن تلتحق بالمؤامرة المعادية للعرب والإسلام، وأن تعمل مقاولاً ثانوياً لدى الولايات المتحدة الأميركية، التي تشاطرها قلبياً وعقلياً العداء للعرب والإسلام، وبمعيتهم العدو الصهيوني، ونسمع بين الفينة والفينة أنه مرشحة لأن تلعب دور الجندرمة في المنطقة، وتتطلع بشراهة لمطامع ومغانم تتخيلها وتحلم بها، نعم ستتمكن من إثارة متاعب هنا ومشاكل هناك، ولكنها سوف لن تستطيع أن تزدرها، لإنها تفتقر إلى الامكانات السياسية والاقتصادية والثقافية الضرورية.
ولكن هذا الدور والفعاليات، يمكِّن إيران من أن تحدث قرقعة وفرقعة ولكن لا يمكِّنها من مجاراة العصر، ولا يمكِّنها من تأسيس دولة حديثة بها، دولة لابد أن تزج بطاقة كافة مواطنيها، (بصرف النظر عن النسب في السكان) من أعراق وأثنيات ومذاهب دينية في بناء دولة حديثة محترمة، قائمة على مبدأ المواطنة كأساس جامع مانع لكل من يسكنها.
• إيران تصدِّر مشكلة جذرها يكمن في أراضيها، هي بالكاد وباستخدام مفرط للقوة والقمع قادرة على ضبط أرجاء كثيرة في البلاد (نفذت طهران 32 اعداما خلال اسبوع واحد ليبلغ عدد المعدومين في هذا البلد حوالي 2000 حالة خلال فترة رئاسة الرئيس الايراني حسن روحاني الحالية)، في الدولة الإيرانية التي لا يشكل الفرس سوى 30% من سكانها، هناك اقليات عرقية ودينية لو منحت حق تقرير المصير، لأختارت الالتحاق بكيانات سياسية أخرى(الآذريون مثلاً، والأكراد، والعرب الاحوازيون، والبلوش)، وليس سوى الديمقراطية الحقيقية يمكن تشييد دولاً لا يتسلل العطب إليها يوماً، فعندما يلتهب أحد الأجزاء المصابة، ربما سيسري لسائر الأرجاء، وسيكون العلاج قد فات أوانه ليكون البتر العلاج الأوحد الوحيد المتبقي، وإني أرجح أن إيران قد أدركت هذه النقاط الملتهبة في جسدها وما أكثرها، وأن هذا اليوم قادم لا محالة.
* حصاد المشروع الإيراني: لا أحد يشير أو يتساءل ما هو فحوى المشروع الإيراني: هل بوسع إيران أن تلتهم المنطقة اقتصادياً ، أم لديها نموذج نظام دولة ديمقراطي جذاب ينتمي حتى للقرون الوسطى؟!
ماذا لديها غير التآمر وبث الدسائس والتحريض والتهييج؟! وهل هذا يصلح أن يكون نموذجاً ومشروعاً قابلاً للتصدير؟!
ثم ماذا كان حصاد المشروع الإيراني طيلة 36 عاماً؟!
ماذا كان حصادهم في لبنان وسوريا واليمن والبحرين والعراق سوى استنزاف للمال والعتاد والأرواح، وكره واحتقار أشاعوه بين 350 مليون عربي، ومليار ونصف مسلم، ليس من السهل إزالته؟!
إيران حقاً كمن قتله طمعه، أفلا يرون أننا، كعراق وكأمة عربية، هزمنا امبراطوريات عظمى كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في العصر الحديث، والرومان وبيزنطة وكسرى وأكسوم في العصور القديمة...!
* المشروع النووي الإيراني: الأمة العربية تعلم أن أشد من يعاديها في العالم هي الصهيونية، ومن ورائها الولايات المتحدة، وبدرجات أخف العالم الغربي، وهذه القوى كلها نووية، ولكن هذا لم يغير في جوهر المسألة شيئاً، فالقضية الفلسطينية لما تزل ساخنة، ولم يفد الصهيونية 120 قنبلة نووية في ترسانتها، والولايات المتحدة قاتلتنا في العراق ولبنان والسودان وليبيا وأرجاء أخرى، والولايات المتحدة خسرت معاركها السياسية والعسكرية في كوريا وفيتنام وكمبوديا والعراق وحيثما دسَّت أصابعها، وانكفأت إلى قلعتها حتى بعد انتصارها في أعقاب الحرب الباردة، وإقامتها النظام الإمبريالي الجديد (العولمة) وتخلت مرغمة عن عقيدة القوة العظمى المطلقة، وكل اعتبارات دولة القوة العظمى (Super Great Power)، القطب الأحادي، المهيمن على العالم، إذ خسرت الحرب في العراق بنتائجها السياسية والعسكرية والاستراتيجية، خسارة واضحة بينة لا لبس فيها، وها هي تمارس اليوم سياسة القيادة من الخلف (leading from behind) أو (behind Drive from )، ولسان حالها يقول وخاصة لحلفائها من يريد أن يصبح قوة عظمى فليتفضل.. نحن ندعم، نساعد سياسياً، بالأسلحة والخبرات، ولكن لن ندخل المعارك، وعلى كل طرف أن يتدبر أمره..! خطاب موجَّه ليس للإيرانيين والصهاينة فحسب، بل وحتى لحلفائها الأوثق من الأوربيين ضمن الناتو!
تنازل نظام ولاية الفقيه عن (البرنامج النووي) الذي يمثل إلى جانب القمع الداخلي و(تصدير الإرهاب) واحدا من الأجزاء الثلاثة لإستراتيجية المحافظة على النظام، فشكل الاتفاق هزيمة للنظام برمته النظام الإيراني کان العامل الأساسي في الأزمات والتوترات في المنطقة، وهو أمر مرغوب ومقبول بل هو مطلوب لإبقاء المنطقة العربية في حالة توتر يخدم المصالح الغربية عامة ويصرف الأنظار عن المواجهة الرئيسية مع الصهاينة، والمدهش أن دور مثير المشاكل (Troublemaker) هو دور يتلاءم مع مكونات العقل السياسي الفارسي قديماً وحديثاً.
سيقول لنا صحفي متأزم ولا ندري ما هي أزمته (!) إن الولايات المتحدة تستخذي الحكومات العربية، لمجرد أنه يريد أن يشعر بالسعادة للشتيمة..! ومثله شعراء يمتهنون الشتيمة والسب، فيسب أحدهم بلاده وشعبه ليبرهن أنه قد التحم بالغرب، أو ليقبض المزيد، أو ليظهر نفسه أنه من رجال الأدب الغاضب.. وآخر يفهم الصحافة على الطريقة الأميركية، أدفع نكتب لك ونروِّج مواقفك، وبعكسه سترى منا قذارة لسان يندى لها جبين الردّاحات، لهذه الأسباب وغيرها، فأنا أعرف على سبيل المثال صحفياً عربياً، كان يأمل أن تغدق عليه السعودية .. تعطيه ليسكت، فتمادى في الشتيمة وتمادى، ولما لم يجد من الشتائم فائدة، لاذ بصمت.. هو صمت الحملان!
سيأتي يوم سيصمت فيه مهرجو الطابور الخامس... إذ لا يمكنك المراهنة على جهل الناس إلى الأبد..