الاحتجاجات العراقية ثورة أم فورة؟!

إبراهيم الزبيدي

من مراقبة التطورات الأخيرة، ومن مجمل الشتائم التي بدأت تتسارع ضد المتظاهرين على ألسنة ‏مسؤولين كبار جدا في نظام الولي الفقيه، ومن بعضِ وكلائه العراقيين واللبنانيين، ومن هجمة الحشد ‏الشعبي على المتظاهرين في بغداد بالعصي والقضبان الحديدية، يتوضح أن الاحتجاجات العراقية ليست ‏كلُها فورة سطحية يمكن تبريدها بتوفير بعض الخدمات، وطرد بعض المسؤولين، وإحالة بعض الفاسدين ‏إلى القضاء. بل إنها، على ما يبدو، لم تصبح بعدُ تحت سيطرة السلطة الحاكمة وأحزابها وميليشياتها ‏المتصارعة‎.‎

 

وهذا ما يشجعنا على استنتاج أمرين، الأول أن إيران والمرجعية وأحزابهما تتوقع وتخشى تحول هذه ‏التظاهرات إلى انتفاضة، وربما إلى ثورة تعصف بالنظام كله، إذا انضمت إليها محافظت سنية عربية ‏وكوردية. وثانيها أن (رقعة) العبادي أصغر كثيرا جدا من (شق) عباءة النظام، وأنه لا ينوي ولا يريد أن ‏يصبح جدية فيغوص بمضعه أكثر في شرايين النظام لتصل إلى عضلة قلبه المهترئ‎.‎

والظاهر أن بعض الشباب الثوريين المتنورين التقدميين بدأ يتمرد على السقف الأعلى من المطالب التي ‏في إمكان النظام بلعُها، والعملُ على تحقيق بعضها، لامتصاص النقمة، وتبييض وجه حزب الدعوة ‏والتحالف الوطني والمرجعية وإيران‎.‎

ولعل أهم ملامح التمرد على السطوة التضليلية التجهيلية الإيرانية الخانقة خلوُّ تظاهرات المئات من ‏الآلاف (الشيعية)، وليست السنية، من صور خميني وخامنئي، ومن الرايات السوداء والخضراء التي ‏تاجرت بها هي وأحزابها كل هذه السنين. وهذا وحده سبب يكفي للبطش بها، وبكل طريقة ممكنة‎.‎

طبعا، لم يعد خافيا على أحد مدى خيبة أمل المرجعية وإحباطها وغضبها من طبقة الحكام الذين اختارتهم، ‏ووثقت بهم، وكفلتهم، وسلطتهم على البلاد والعباد، والذين تأكد لها أنهم، بفسادهم وتفاهة الكثيرين منهم، ‏وخسته وبذاءته وجهالته ولصوصيته الزائدة جدا عن حدها المقبول، قد لا يتسببون بهدمهم، وحدهم، بل ‏بهدم المعبد كله على ساكنيه أجمعين‎.‎

فليس أكثر من المرجعية إدراكا لحجم النقمة الشعبية في الشارع الشيعي نفسه، والسني أيضا. وليس أشد ‏منها إيمانا بأن التدخل الإيراني، بضراوته وشدته وعمقه وسعته، تجاوز قدرة الوضع المتأزم في العراق ‏على احتماله، والسكوت عليه‎.‎

وقد يكون اقتناعُها بأن حملات عسكرة المجتمع الشيعي وتجييشه التي نجحت، طيلة الإثنتي عشرة سنة ‏الغاربة، باسم محاربة الإرهاب الوهابي السني، لم تعد تصلح الآن لمنع الأغلبية الغاضبة من التظاهر، ولا ‏لإسكاتها وتمييع نقمتها وتبريدها، الأمر الذي دفع بها إلى الإيعاز لـ (ولدها) المطيع حيدر العبادي ‏باحتضان المتظاهرين، وتطييب خواطرهم، وتبريد احتجاجاتهم، بعمليات جراحية عاجلة، ولكن بسيطة، ‏وبتخدير محلي، لاستئصال بعض الورم، وتصغير بعضه الآخر، أو تأجيل علاجه إلى ما بعد مرور ‏العاصفة‎.‎

لكن مسؤولين كبارا في النظام الإيراني أكثر خبرة بأمور السياسة من المرجعية، وأبعد نظرا من حيدر ‏العبادي، يرون غير ذلك. فهم يدركون أن مخزون الغضب الشعبي العراقي الشيعي، وليس السني فقط، ‏أكبر من الكهرباء والماء، وأكثر من مجرد محاسبة بعض الفاسدين، وطرد حفنة من المسؤولين ‏الفضائيين‎.‎

ويعرفون، بحنكتهم ودرايتهم، حجم الحقد المختزن في شعوب المنطقة، والإقليم، وربما العالم، على إيران ‏واحتلالها المفضوح والمكشوف للعراق وسوريا وللبنان، وما يشكله ذلك من خطر حقيقي وجاد على ‏مصالح حكومات مهمة عديدة في العالم. وقد تصبح التظاهرات الاحتجاجية العراقية، في هذا الوقت ‏بالذات، حواضن مناسبة لتدخلِ قوى وحكومات وأجهزة مخابرات عديدة، لتخرجها من كونها فورة (بسبب ‏نقص الخدمات)، وتجعلها ثورة (على الاحتلال والرجعية والظلم والفساد)، تمهيدا لتصفية حسابات دولية ‏كثيرة مؤجلة مع إيران في سوريا واليمن ولبنان وفلسطين والبحرين والكويت‎.‎

ومن الطبيعي، والحالة هذه، أن يُضطر الخائفون من هذا الاحتمال إلى تبديل نوعية الشتائم الموجهة ‏للمتظاهرين، واستخراج نمط جديد منها. فلن يكون مقبولا ولا مقنعا اتهامُ التظاهرات الحالية بـ ‏‏(الصدامية) و(الداعشية) و(الوهابية)، وهي التي لم يتورط فيها غيرُ أبناء المحافظات الشيعية، لحد الآن‎.‎

فقد أعلن رئيس الاركان العامة للقوات المسلحة الايرانية اللواء حسن فيروز آبادي في تصريحات نشرتها ‏وسائل إعلام إيرانية، يوم الاثنين الماضي، أن "فئات (غير مسلمة) تقود التظاهرات الشعبية الحاصلة في ‏مدن العراق، لاثبات عدم كفاءة الحكومة العراقية‎".

وهو بهذا التوصيف يعني واحدا من اثنين، إما أنه وجدَ أكثريةَ المتظاهرين من النصارى، وهذا ما يُحرم ‏على متظاهرين شيعة ومسلمين مجاراتَهم والانقياد لهم، (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى ‏أولياء، بعضُهم أولياءُ بعض، ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، أو أنه يعني أن ‏المتظاهرين المسلمين، وهم شيعة، قد ارتدُّوا عن دينهم، وأصبحوا

مشركين، وعادوا إلى معاداة الحسين، ومعاداة وكيله المهدي المنتظر، ووكلاء وكيله، أجمعين. وهو في ‏الحالين لا يختلف كثيرا عن داعش والقاعدة والإخوان المسلمين‎.‎

كما نقل تقرير أورده موقع “الوعي نيوز” الذي يموله مستشار خامنئي (علي أكبر ولايتي) رسالة قال فيها ‏‏"إن ولايتي أجرى خلال اليومين الماضيين اتصالات هاتفية مع زعماء سياسيين شيعية، بينهم رئيس ‏الوزراء حيدر العبادي، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى عمار الحكيم، حذرهم من السعي إلى تقديم ‏نوري المالكي للمحاكمة".

وفي سياق متصل، وصفت وكالة أنباء “تسنيم” الممولة من فيلق القدس التابع للحرس الثوري نوري ‏المالكي بأنه “قائد إسلامي عربي تجاوز حدود العراق”. وقالت الوكالة في مقال تحليلي بعنوان “ما الذي ‏يقرأه الإيرانيون الاستراتيجيون ولا يراه بعض العراقيين؟” إن المالكي “أحد أبرز أقطاب جبهة المقاومة ‏والممانعة في المنطقة.” وعادت الوكالة بالذاكرة إلى زيارة المالكي لطهران في نوفمبر/تشرين الثاني ‏الماضي، قائلة إن الإيرانيين “يدركون بعمق طبيعة التضحية التاريخية النادرة التي قام بها المالكي، والتي ‏أنقذ بها العراق وشيعته ومحور الممانعة برمته من أكبر كارثة تاريخية كانت ستحول العراق الى ساحة ‏حرب أهلية طاحنة لا تنتهي إلا بعد احتراق الوسط والجنوب، واحتلال كل المناطق السنية، وإعلان ‏كردستان استقلالها، ثم تنهار الجبهة السورية، ويضعف محور الممانعة الذي تتصدره إيران.” وختمت ‏الوكالة تقريرها بالإشارة إلى الصفات التي وصف بها الولي الفقيه نوري المالكي، والمديح الذي وجهه له، ‏وقالت إنه “تقويم شرعي واستراتيجي دقيق من مرجعٍ ديني كبير مبسوط اليد يعطي للسيد المالكي ما ‏يستحقه من التقدير والتبجيل والثناء‎”.‎

أما نوري المالكي، من جانبه، فقد استخدم أسلوبه المفضل في شتم المتظاهرين، حيث قال "لقد بدأت تظهر ‏في التظاهرات شعارات ضد الدين، وضد العلماء، وضد المراجع، وضد الحركات الإسلامية، وإن انزلاقة ‏هذه التظاهرات ستُذكرنا بانزلاقة تظاهرات الأنبار والموصل، وما ترتب عليها‎".‎

إن الحد الفاصل بين الثورة والفورة في التظاهرات العراقية المستمرة هذه الأيام، يكمن، دون ريب ولا ‏جدال، فيما سيطرأ من تطورات على جسد التظاهرات ذاته‎.‎

فسوف تصبح ثورة إذا ما تحركت الجماهير في المحافظات الأخرى العربية والكوردية، واشتعل الوطن ‏كله بالأصوات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة، وسلطة الدولة المدنية الحديثة العاقلة، وإذا ما ‏استطاع النصف العلماني التقدمي الوطني من المتظاهرين أن يفرض صوته على أصوات المتسللين الذين ‏دستهم المرجعية والائتلاف وميليشيات الحشد الشعبي لإفراغ التظاهرات من محتواها الثوري، وتحويلها ‏إلى حفلة تكسير عظام بين جبهة المرجعية (النجفية) ومعها النصف الحمائمي في المعسكر الشيعي، وبين ‏جبهة كبار المساعدين

المتشددين للولي الفقيه، ومعهم النصف الصقوري في حزب الدعوة والتحالف والحشد الشعبي وميليشياته ‏الطائفية المتشددة‎.‎

وسوف تكون فورة وتنطفيء شعلتها، رويدا فرويدا، إذا ما توقفت عند حدود المطالبة بالدواء والغذاء ‏والماء والكهرباء، واكتفت بما اتخذه العبادي من إجراءات سطحية عابرة. حينها لن يجد الإيرانيون ولا ‏نوري المالكي في المتظاهرين كفارا ولا وهابيين، ولا يحزنون‎.‎

أما الهيئة القياديّة للتحالف الوطني فقد سارعت إلى عقد اجتماع عاجل في مكتب رئيس التحالف إبراهيم ‏الجعفري، وبحضور نوري المالكي، نفسه، إلى جانب حيدر العبادي، ناقشت فيه الأوضاع المستجدة. وذكر ‏بيان لمكتب الجعفري أن “التحالف الوطني تابع الإصلاحات التي قدَّمها رئيس الوزراء بتوجيه من ‏المرجعيّة العليا التي دعت للإصلاح في المجالات كافة، وتدارَس تفعيل هذه الإصلاحات، بعد أن اعتمدها ‏مجلس الوزراء، وأقرَّها مجلس النواب، وناقش الإصلاحات الجديدة المطلوبة، خدمة لمصالح شعبنا ‏المُضحِّي، وتحقيق طموحاته المشروعة، وحاجاته الأساسيّة‎”.‎

وحيا التحالف الوطني “ تفاعل الشعب العراقي مع قواته المُسلـَّحة، وأبناء الحشد الشعبي، في الدفاع عن ‏العراق وشعبه"، وأكد أن " الحرب ضد الإرهاب لها الأولويّة في هذه المرحلة المصيريّة‎ ”.‎

يتمنى ملايين العراقيين في بغداد والمحافظات الجنوبية، ومعهم ملايين الذين احتل داعش والقاعدة ‏منازلهم ومزارعهم ومصانعهم ومدارس أولادهم، أن تتصاعد الاحتجاجات، وأن ‏تتسع، وأن ينخرط فيها المُهجَّرون، والمغتربون، وأن يعلن ثوارُها الأشاوس أن تحرير الموصل والرمادي ‏من داعش هو الجهاد الأصغر، وأن تحرير بغداد من الاحتلال الإيراني، ومن حكم الميليشيات ‏والمرجعيات، هو الجهاد الأكبر‎.‎

وهذا، لو حصل، ما سوف يعيد العراق، إلى الصدارة، وقد يغير تاريخ المنطقة والعالم، ويجعل من ‏العراقيين أساتذة وروادا في صناعة الثورات، وإشعال الانتفاضات، أكثر من المصريين والتوانسة. وهذا ‏هو ديدنهم، من مئات السنين‎.‎

هذا العراق، وهذه ضرباته

كانت له، من قبل ألفٍ، ديدنا

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,035,200

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"