من دونها، الانتفاضة العراقية في خطر!

عوني القلمجي

من غير مقدمات، أو الدخول في مناقشات مملة، سنطرق الحديد وهو حار. ‏فمن يراهن على حيدر العبادي بتحقيق اصلاحات ذات قيمة، أو تعيد للناس ‏ابسط متطلبات حياتهم الضرورية، كالماء والكهرباء، فهو في ظلال مبين.

 

‏ليس العبادي وحده العاجز عن فعل ذلك، وانما ايضا جميع عتاولة المنطقة ‏الخضراء، السابقون منهم واللاحقون، كونهم جميعا ادوات في يد ‏الاجنبي، وعلى وجه التحديد امريكا وملالي طهران. بمعنى اخر اكثر ‏وضوحا، فإن حكومة العبادي، والحكومات السابقة، قد حصرت مهامها في ‏تدمير العراق واهله، وليس في بنائه وتقدمه. وقد اثبتت سنوات الاحتلال ‏العجاف هذه الحقيقة الدامغة.‏

ومع ذلك، فان هذه الاصلاحات، بالاضافة الى كونها شكلية، فهي ليست ‏سوى محاولة بائسة لاقناع الناس المنتفضة بالعودة الى بيوتهم، وليس كما ‏صوَّرها البعض بأنها البوابة التي تؤدي الى الجنة التي "تفيض لبنا ‏وعسلا"!

فإقالة نواب لرئيس الجمهورية، او رئيس الوزراء، او عمل ‏‏"ريجيم" للحكومة، او تقليل حمايات، او تخفيض رواتب، لن توفر، حسب ‏احصائية الحكومة، سوى مئات الملايين من الدولارات، وهذه لا تعادل ‏نفقات قادة الاحزاب الحاكمة لمدة شهر واحد. ومعلوم ان الحكومات ‏السابقة قد تجاوزت وارداتها خلال السنين الماضية اكثر من ترليون (1000 مليار) ‏دولار، ومع ذلك لم تكلف نفسها ببناء محطة كهرباء فاعلة، او توفر ماء ‏صالحاً للشرب، او حتى بناء مدرسة او شارع!

لو توقفت مهزلة اصلاحات العبادي عند هذا الحد لهان الامر، ومنّينا ‏النفس بانتظار اصلاحات اخرى، لكن المصيبة تكمن بأن العبادي لم يلجأ ‏الى هذه الاصلاحات كمقدمة لانهاء معاناة الشعب العراقي، وانما لجأ اليها ‏بسبب عجزه عن استخدام القوة العسكرية لانهاء الانتفاضة.

ومردُّ هذا ‏العجز يعود الى فقدان العبادي اي مبرر، او حتى ذريعة واهية، لاستخدام ‏القوة، كالتي امتلكها المالكي ضد الانتفاضات التي قامت بعهده، بصرف ‏النظر عن عدم مشروعية ذلك الاستخدام. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن العبادي لا ‏يستطيع اتهام الانتفاضة بانها تمثل اجندات خارجية، لان الانتفاضة قامت ‏على اكتاف الناس في المدن الجنوبية، وهم اهله ومن مذهبه بلغة الاحتلال ‏الدارجة، وهو لا يستطيع وصف الانتفاضة بالوهابية او التكفيرية او ‏الداعشية، كونها نالت تأييد مرجعية النجف، بصرف النظر اذا كانت ‏مجبرة او مختارة، وشعارات الانتفاضة جسَّدت الوحدة الوطنية تحت راية ‏العلم العراقي. وبالتالي لا يمكنه وصفها بأحفاد معاوية او ابنه يزيد. ‏والانتفاضة ليس لديها مخيمات في الصحراء حتى تتهم بأنها مقرات ‏لتنظيم القاعدة ومخابيء للسلاح!

اما اذا تجرأ العبادي وتجاوز كل هذه المبررات واعتبرها غير ضرورية ‏لقمع الانتفاضة، فانه سيصطدم بجدار الانتفاضة المحصَّن. فهي، رغم ‏فترتها الزمنية القصيرة، شكَّلت ظاهرة نضالية متميزة لدى الجماهير، ‏وفجَّرت كل الامكانات الثورية والابداعية لديهم، واظهرت وحدة الشعب ‏العراقي باجمل صورها، بعد ان دنَّسها المرتزقة واصحاب النفوس ‏الضعيفة، كما اثبتت ولاء الفرد العراقي للوطن وليس للطائفة او العرق او ‏الدين او الحزب.

ليس هذا فحسب، وانما اصبح لدى الناس الاستعداد ‏للدفاع عن حقوقهم المشروعة مهما كانت التضحيات. باختصار شديد جدا ‏جدا جدا، لو كان بإمكان العبادي استخدام القوة العسكرية ضد الانتفاضة ‏في جمعتها الاولى لفعلها دون تردد، ليفوز برضى مراجعه المحلية ‏والاجنبية.‏

هل يعني ذلك استبعاد حكومة العبادي لخيار القوة العسكرية نهائيا، والسير ‏باتجاه تلبية مطالب الانتفاضة؟ ام انه لن يستسلم وسيعمل على خلق ‏المبررات والظروف الملائمة، التي تمكنه من استخدام القوة العسكرية في ‏الوقت المناسب؟

بعبارة اخرى، هل من مصلحة حكومة العبادي تحقيق ‏مطالب الانتفاضة؟ ام استخدام القوة ضدها؟‏

لكي لا نزعج مرتزقة واحباب "القائد المنتظر" حيدر العبادي، والذين ‏كانوا بالامس القريب مرتزقة واحباب "مختار العصر" نوري المالكي، ‏سنعتبر حكومة العبادي مستقلة ومنتخبة ولا سلطان لأحد عليها، وهذا ‏يفرض عليها الدفاع عن شرعية وجودها، شأنها شأن كل الحكومات في ‏عالمنا العربي التي تعتبر نفسها كذلك. والدفاع عن النفس يقتضي ‏بالضرورة صدَّ كل خطر محدق بها. ومطالب الانتفاضة المعلنة لحد الان، ‏في حال القبول بها، ستشكل خطراً جسيماً عليها، أليس كذلك؟ والا ماذا ‏يعني مطلب محاسبة كل مفسد، واعضاء الحكومة والبرلمان كلهم مفسدين؟ كيف تقبل الحكومة بتطهير القضاء، وهو غطائهم والمتستر عليهم؟ ‏وكيف توافق الحكومة بدولة مدنية علمانية تحقق العدالة الاجتماعية ‏واعضاءها تقاسموا المناصب على اسس طائفية وعرقية؟ وكيف ترتضي ‏بفصل الدين عن الدولة، والاحزاب الحاكمة كلها تتبرقع بعباءة الدين؟ ‏أليست هذه المطالب كافية لأن تؤدي بالضرورة الى اسقاط الحكومة ‏وبرلمانها وعمليتها السياسية برمتها؟!

اذا كان هذا الاستنتاج صحيحا، فان خيار استخدام القوة هو الذي سيجري ‏عليه العمل من قبل الحكومة لانقاذ نفسها من السقوط. بل ان العمل قد بدأ ‏فعلا وبقوة، هنا بيت القصيد ومربط الفرس من هذا الاستطراد كله. ‏فمكائن والات انتاج المبررات المطلوبة، تدور على مدار الساعة!

فمن ‏جهة وظَّفت الحكومة اعلامها  باتجاه تضخيم الاصلاحات والنفخ فيها ‏وتلوينها وتزويقها وتجميل قناعها، ليجري الوصول الى النتيجة التالية: ‏اذهبوا الى بيوتكم ودعوا الرجل، او الدكتور، او الحمل الوديع، حيدر ‏العبادي يعمل بهدوء، حيث الاصلاحات المطلوبة تحتاج الى وقت طويل ‏لتلبيتها، وبعكسه تكون الانتفاضة قد خرجت عن مسارها وباتت تستحق ‏العقاب. ‏

من جهة ثانية، بدأ الحديث عن المندسين والمغرضين واعداء العملية ‏السياسية، وتجسيد مخاطرهم على الانتفاضة البريئة، وسرد الروايات عن ‏نجاحهم في اختراق صفوف المنتفضين وحرف توجهاتهم السلمية ودفعهم ‏الى تصعيد مطالبهم وتشجيعهم على خلق الفوضى، الامر الذي يعطي ‏الحق للحكومة في الدفاع عن نفسها باستخدام القوة العسكرية ضد ‏المندسين والمخربين!

من جهة ثالثة، بدأ العزف على ذات الاسطوانة المشروخة المتمثلة بالعدو ‏الخارجي، او مقولة الذئب خلف الباب، الامر الذي يتطلَّب وقف الانتفاضة ‏والاكتفاء بما تحقق تحسبا من صدامات تفسح المجال امام داعش للدخول ‏الى بغداد وكربلاء والنجف! بالضبط نفس الذريعة التي استخدمها الحكام ‏العرب لإسكات شعوبهم. ولكن بمصطلحات اخرى، من قبيل لا صوت يعلو ‏على صوت المعركة!

بالمقابل، وعلى الجهة الاخرى، اخذ أتباع الحكومة ومنظروها، واقلامها ‏المأجورة، والذين يعيشون على فتات موائدها، بممارسة واجباتهم ‏المعهودة، ولكن باتجاه اخر يكمل ترهات الحكومة. فعلى سبيل المثال لا ‏الحصر، طالب، هؤلاء، المنتفضين باستخدام العقل والحكمة والتحلي بالصبر ‏والقبول بسياسة الخطوة خطوة التي ينتهجها العبادي!

البعض الاخر راح يدخل الناس في متاهات لإشاعة الياس في صفوف ‏المنتفضين، فمنهم من يقول المشكلة ليست بالاحتلال او الحكومة، وانما ‏المشكلة في الشعب، يا للعجب! واخر يدَّعي المشكلة في الدستور، اكتشاف ‏مذهل، واذا لم يتغير كذا وكذا فلا فائدة ترتجى، والثالث ينسبها للقضاء، ‏والرابع الى مجلس النواب وهكذا. في حين ان كل هذه المفردات هي ‏أركان اي نظام، وما لم يتغير النظام لن يتغير شيء. يا سادة يا لئام.‏

مهلا يا جماعة "ما هو البديل"؟!

قلنا ونقول وقد أتثبتت التجارب صحة ‏قولنا، والذي لخَّصناه مرات عديدة، البديل هو "الانتفاضة ثم الانتفاضة ثم ‏الانتفاضة، ولا شيء اخر غير الانتفاضة". فلقد جرَّب العراقيون العملية ‏السياسية، وجرَّبوا الانتخابات، وجرَّبوا الانتظار، وجرَّبوا التوسل ‏والاستجداء وتحملوا وجاعوا ولم يأت الفرج، فعلى العكس من ذلك، فكلما ‏ذهب رئيس او نائب او قاضي اتى الاسوأ منه، وكلما ترجَّوا خيرا ‏بالانتخابات القادمة جاءت نتائجها اسوأ بكثير من سابقاتها. وكلما ذهب ‏حرامي متخصص بسرقة الالوف من الدولارات، جاء الخلف ليتخصص بسرقة ‏الملايين، وخلف الخلف وتخصص بالمليارات، والقائمة بهذا الخصوص ‏طويلة ومؤلمة.‏

الانتفاضة حق مشروع للشعوب ضد الظلم والفساد، سواءً كانت سلمية او ‏مسلحة، وهي ليست ابتكاراً عراقياً، انها عمل انساني حظي باحترام الدول ‏المتحضرة وأقرَّتها القوانين الوضعية والسماوية، والانتفاضة لا تعني ‏اطلاقا دعوة للاقتتال بين ابناء الشعب، او بين طوائفه وتياراته المختلفة، ‏وانما هي دعوة لنيل المطالب المشروعة للناس، واي اعتراض على هذا ‏الحق هي اعتراضات باطلة، او في احسن الاحوال كلمة حق يراد بها ‏باطل، فدماء العراقيين ستظل تسيل بوسائل متعددة في حال استمرار ‏العبادي بالحكم او من يخلفه. والشعب العراقي ليس الوحيد بين شعوب ‏العالم الذي ينال حقوقه بالقوة، خاصة اذا كانت القوة وتكاليفها تعادل عودة ‏الوطن الى اهله وادارته من قبل ابنائه المخلصين وتوظيف ثرواته لصالح ‏اجياله المتتابعة، ألم يخبرنا الامام علي ابن ابي طالب، رضي الله عنه، حين ‏قال "اني لأعجب من انسان يجوع ولا يسلَّ سيفه"!

على هذا الاساس فانه لا خيار امامنا سوى دعم الانتفاضة واسنادها ‏ومطالبة كل العراقيين وفي جميع المحافظات العراقية ان تهب للمشاركة ‏فيها، وخاصة المحافظات الغريبة التي ان الاوان ليزحف اهاليها الى بغداد ‏وتلتقي كل الجموع هناك، ولكي لا تضيع هذه الفرصة التاريخية لإنقاذ ‏العراق واهله، على المنتفضين رفض المساومات الرخيصة، او المماطلة ‏والتسويف، او الوقوع في فخ الانتظار، لأن ذلك يمنح الحكومة التي بيدها ‏عناصر القوة وقتا كافيا لترتيب اوراقها والوقوف على رجلها وشن ‏هجومها على الانتفاضة واستخدامها للسلاح بكل انواعه.

بتعبير آخر اكثر ‏وضوحا، فان الانتفاضة اذا لم تحسم هذه المماطلة والتسويف، فانها ‏ستواجه نفس المصير المؤسف الذي واجهته الانتفاضات السابقة، لا سمح ‏الله، او تنتهي في احسن الاحوال الى القبول باصلاحات تافهة لا تقدم ولا ‏تؤخر.

ولكي نكون اكثر تحديدا فإن الانتفاضة مطالبة بالذهاب الى عقر دار ‏الحكومة والبرلمان واجبارهما على اختيار احد امرين، فإما القبول بجميع ‏مطالب الانتفاضة ومحاسبة كل المفسدين والحرامية دون استثناء، او ‏الاستقالة ووضع انفسهم تحت امرة حكومة وطنية تقوم بتشكيلها قيادة ‏الانتفاضة التي بإمكانها وضع برنامج فعلي لإقامة الدولة المدنية ‏المنشودة. ‏

التاريخ ليس كريما في منح الشعوب فرصها التاريخية.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,034,672

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"