يحكى أن شرطياً أمريكياً يدعى دينيس، من ولاية ألاباما، تسلَّم بلاغاً عن جريمة سرقة في مدينته من البِقالة، وعندما حضر لاعتقال اللص وجد أن ما سرقته هيلين كان خمس بيضات فقط، وقالت له: إنها لم تأكل منذ يومين هي وعائلتها.
وعلى خلاف القانون، قرر الشرطي عدم اعتقالها، واشترى لها سلة بيض كاملة، وبعد يومين عاد دينيس ومعه زميله بسيارتين كانتا محملتين بالطعام من تبرعات جمعها لعائلة هيلين، التي قالت له: إنك لا تحتاج لتفعل لي كل هذا يا سيدي، فكان رده: إننا لا نحتاج إلى القانون أحياناً بقدر ما نحتاج إلى الإنسانية!
هذه الحادثة المليئة بالجوانب الإنسانية الممزوجة بالرحمة والرفق، تذكرنا بمواقف مغايرة ومناقضة، ومنها شريط الفيديو الذي نشر قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي ويَظهر فيه بعض أفراد الشرطة من دائرة سجن الناصرية المركزي، جنوب العراق، وهم يعذبون مجموعة من السجناء، الذين يقضون محكوميتهم هناك، بعد صدور الأحكام القضائية النهائية بحقهم، وهم ليسوا في مرحلة التحقيق، التي غالباً ما تكون مصحوبة بالتعذيب في عموم المعتقلات والسجون العراقية.
الشريط أظهر أن السجناء تعرضوا للضرب والتعذيب في مناطق حساسة من أجسادهم العارية، وعلى العمود الفقري بواسطة عِصِي غليظة، وتعذيبهم كان مصحوباً بألفاظ طائفية رذيلة ضدهم، ووضع للأحذية في أفواههم.
الحيرة التي تراود المتابع لهذا الشريط – وبالمناسبة هو ليس الشريط الأول الذي يثبت انتهاكات لحقوق الإنسان العراقي- هي: بأي حق قانوني، أو أخلاقي تجري عمليات التعذيب لسجناء صدرت بحقهم أحكاماً قضائية؛ وبالتالي فهم - وبموجب القانون - نالوا عقابهم؛ وعليه فإن عمليات تعذيبهم هي جزء من الإرهاب الرسمي، الذي تنفذه المليشيات الرسمية!
الإصلاحات التي تطالب بها الجماهير الغاضبة في عموم الجنوب العراقي ينبغي أن تكون متعلقة بما يلامس حياة عموم الناس وكرامتهم، وليس الخدمات فقط. وهنا ندعو جماهير الناصرية الأصلاء أن يطالبوا بعدم المساس بالسجناء لأنهم - وعلى الرغم من أنهم يقضون محكوميتهم في سجن الناصرية المركزي- "نزلاء ضعفاء" تقع على كاهل أهالي الناصرية المسؤولية الأخلاقية في ضرورة إيقاف عمليات التعذيب المنتظمة ضدهم من مليشيات معروفة للجميع.
إن رجال الأمن هم الركن الركين في بناء الدولة، وهم عيون الدولة والمجتمع، وهم الراعي والمسؤولون أمام الحكومة عن الأمن وحياة الناس وممتلكاتهم، وسيادة القانون.
إن نشر الأمن لا يكون بعيداً عن القيم الإنسانية الرفيعة، والسجون لم توضع للعقوبة فقط، وإنما هي دوائر للإصلاح السلوكي، فلهذا نجد أن اللوحات التعريفية لهذه السجون يكتب عليها: "دائرة الإصلاح في بغداد أو الموصل أو غيرهما من المدن"، وهذا يؤكد أن الغاية من العقوبة هي إصلاح الاعوجاج في سلوك بعض المواطنين، الذين يُلقى القبض عليهم، ثم يحاكموا في محاكم عادلة، وهذا الكلام في الحالة الطبيعية، أما وضع العراق الراهن فمختلف تماماً!
الحال في بلاد الرافدين اليوم يتمثل بأجهزة أمنية غالبيتها تمتاز بالطائفية وبالحقد والكراهية على المواطنين، وتعتقل الأبرياء من كل مكونات الشعب، وبعد ذلك تتم مقايضتهم بمبالغ خيالية لإطلاق سراحهم، هذا فضلاً عن عمليات الاختطاف والتهديد بالقتل وغيرها من صور الابتزاز والترهيب، فهل يعقل أن يكون جهاز الأمن هو مصدر الخوف الرئيسي للمواطنين، وتكون العدالة هي منبع الظلم للناس؟! ثم إن لم يكن القضاء ملاذاً للمظلومين، فإلى أين يولي المظلوم وجهه؟!
الإصلاح الذي تدعي حكومة السيد حيدر العبادي أنها جادة في تطبيقه ينبغي أن يبدأ من المؤسسة القضائية ودوائر السجون لأن هذا الظلم الرسمي يعني مزيداً من الناقمين والكارهين للحال في الوطن، وهذا لن يكون سبيلاً للبناء، بل هي معاول للدمار النفسي والفكري والسلوكي للمواطنين!
الأمن والقضاء هما الحياة، ولا حياة للدول والأفراد إلا برجال أمن وقضاء نذروا أنفسهم وطلقوا راحة أجسادهم من أجل أهلهم ووطنهم، وهذا هو سر الرفاهية والتطور والعمران الذي تتمتع به دول العالم المتطورة القريبة والبعيدة.