القانون والأمن والإنسانية!‏

جاسم الشمري

يحكى أن شرطياً أمريكياً يدعى دينيس، من ولاية ألاباما، تسلَّم بلاغاً عن جريمة سرقة في مدينته ‏من البِقالة، وعندما حضر لاعتقال اللص وجد أن ما سرقته هيلين كان خمس بيضات فقط، ‏وقالت له: إنها لم تأكل منذ يومين هي وعائلتها.

 

وعلى خلاف القانون، قرر الشرطي عدم ‏اعتقالها، واشترى لها سلة بيض كاملة، وبعد يومين عاد دينيس ومعه زميله بسيارتين كانتا ‏محملتين بالطعام من تبرعات جمعها لعائلة هيلين، التي قالت له: إنك لا تحتاج لتفعل لي كل هذا ‏يا سيدي، فكان رده: إننا لا نحتاج إلى القانون أحياناً بقدر ما نحتاج إلى الإنسانية!‏

هذه الحادثة المليئة بالجوانب الإنسانية الممزوجة بالرحمة والرفق، تذكرنا بمواقف مغايرة ‏ومناقضة، ومنها شريط الفيديو الذي نشر قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي ويَظهر فيه ‏بعض أفراد الشرطة من دائرة سجن الناصرية المركزي، جنوب العراق، وهم يعذبون مجموعة ‏من السجناء، الذين يقضون محكوميتهم هناك، بعد صدور الأحكام القضائية النهائية بحقهم، وهم ‏ليسوا في مرحلة التحقيق، التي غالباً ما تكون مصحوبة بالتعذيب في عموم المعتقلات والسجون ‏العراقية.‏

الشريط أظهر أن السجناء تعرضوا للضرب والتعذيب في مناطق حساسة من أجسادهم العارية، ‏وعلى العمود الفقري بواسطة عِصِي غليظة، وتعذيبهم كان مصحوباً بألفاظ طائفية رذيلة ضدهم، ‏ووضع للأحذية في أفواههم.‏

الحيرة التي تراود المتابع لهذا الشريط – وبالمناسبة هو ليس الشريط الأول الذي يثبت انتهاكات ‏لحقوق الإنسان العراقي- هي: بأي حق قانوني، أو أخلاقي تجري عمليات التعذيب لسجناء ‏صدرت بحقهم أحكاماً قضائية؛ وبالتالي فهم - وبموجب القانون - نالوا عقابهم؛ وعليه فإن ‏عمليات تعذيبهم هي جزء من الإرهاب الرسمي، الذي تنفذه المليشيات الرسمية!‏

الإصلاحات التي تطالب بها الجماهير الغاضبة في عموم الجنوب العراقي ينبغي أن تكون متعلقة ‏بما يلامس حياة عموم الناس وكرامتهم، وليس الخدمات فقط. وهنا ندعو جماهير الناصرية ‏الأصلاء أن يطالبوا بعدم المساس بالسجناء لأنهم - وعلى الرغم من أنهم يقضون محكوميتهم في ‏سجن الناصرية المركزي- "نزلاء ضعفاء" تقع على كاهل أهالي الناصرية المسؤولية الأخلاقية ‏في ضرورة إيقاف عمليات التعذيب المنتظمة ضدهم من مليشيات معروفة للجميع.‏

إن رجال الأمن هم الركن الركين في بناء الدولة، وهم عيون الدولة والمجتمع، وهم الراعي ‏والمسؤولون أمام الحكومة عن الأمن وحياة الناس وممتلكاتهم، وسيادة القانون.‏

إن نشر الأمن لا يكون بعيداً عن القيم الإنسانية الرفيعة، والسجون لم توضع للعقوبة فقط، وإنما ‏هي دوائر للإصلاح السلوكي، فلهذا نجد أن اللوحات التعريفية لهذه السجون يكتب عليها: "دائرة ‏الإصلاح في بغداد أو الموصل أو غيرهما من المدن"، وهذا يؤكد أن الغاية من العقوبة هي ‏إصلاح الاعوجاج في سلوك بعض المواطنين، الذين يُلقى القبض عليهم، ثم يحاكموا في محاكم ‏عادلة، وهذا الكلام في الحالة الطبيعية، أما وضع العراق الراهن فمختلف تماماً!‏

الحال في بلاد الرافدين اليوم يتمثل بأجهزة أمنية غالبيتها تمتاز بالطائفية وبالحقد والكراهية على ‏المواطنين، وتعتقل الأبرياء من كل مكونات الشعب، وبعد ذلك تتم مقايضتهم بمبالغ خيالية ‏لإطلاق سراحهم، هذا فضلاً عن عمليات الاختطاف والتهديد بالقتل وغيرها من صور الابتزاز ‏والترهيب، فهل يعقل أن يكون جهاز الأمن هو مصدر الخوف الرئيسي للمواطنين، وتكون العدالة ‏هي منبع الظلم للناس؟! ثم إن لم يكن القضاء ملاذاً للمظلومين، فإلى أين يولي المظلوم وجهه؟!‏

الإصلاح الذي تدعي حكومة السيد حيدر العبادي أنها جادة في تطبيقه ينبغي أن يبدأ من المؤسسة ‏القضائية ودوائر السجون لأن هذا الظلم الرسمي يعني مزيداً من الناقمين والكارهين للحال في ‏الوطن، وهذا لن يكون سبيلاً للبناء، بل هي معاول للدمار النفسي والفكري والسلوكي للمواطنين!‏

الأمن والقضاء هما الحياة، ولا حياة للدول والأفراد إلا برجال أمن وقضاء نذروا أنفسهم وطلقوا ‏راحة أجسادهم من أجل أهلهم ووطنهم، وهذا هو سر الرفاهية والتطور والعمران الذي تتمتع به ‏دول العالم المتطورة القريبة والبعيدة.‏

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,048,807

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"