"إخرق القانون والاعراف ولكن إن كشفت تتحمل المسؤولية وحدك"
قاعدة سلوك أميركية
الاعترافات الأميركية بخطأ غزو العراق وفي مقدمتها تصريحات الرئيس اوباما ادخلت البعض في منطقة الوهم خصوصا وهم ان هناك تغييرا في الموقف الأميركي تجاه العراق وكارثته، ولكي نبتعد عن منطقة الوهم ونمنع التوهم من الضروري معرفة ما قاله اوباما وما قصده فعلا، يقول اوباما "الناس الذين دافعوا عن الحرب في العراق هم أنفسهم الذين يسوقون الحجج الآن ضد الاتفاقية النووية مع إيران. ويضيف : عندما خضت انتخابات الرئاسة قبل ثماني سنوات بصفتي مرشحاً عارض قرار الحرب في العراق قلت إنه ليس على أميركا فقط وضع حد لهذه الحرب، وإنما أيضا علينا أن نضع حدا للعقلية التي أوصلتنا إلى هناك في المقام الأول.إنها عقلية تتسم بتفضيل العمل العسكري على الدبلوماسية، عقلية تعلي قيمة العمل الفردي من جانب الولايات المتحدة على المثابرة والدأب لبناء إجماع دولي، عقلية بالغت بالتهديدات إلى درجة تتعدى ما يمكن أن تدعمه المعلومات الاستخبارية".
ويضيف "ها نحن، بعد عقد من الزمان، ما نزال نعيش الآثار المترتبة على قرار غزو العراق لقد حققت قواتنا كل مهمة كلفت بها، ولكن ألوف الأرواح أزهقت، وعشرات الألوف قد جرحوا- ناهيك عن الأرواح التي أزهقت بين العراقيين، وما يقرب من ترليون دولار قد أنفقت.اليوم، العراق ما يزال في قبضة الصراع الطائفي، وتحول تنظيم القاعدة في العراق الآن إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وللمفارقة، كان المستفيد الأكبر والوحيد في المنطقة من تلك الحرب هي جمهورية إيران الإسلامية، التي تـَعززَ وضعها الاستراتيجي بفعل إزالة عدوها قديم العهد صدام حسين".
هذا هو ما قاله حول العراق، وكما ورد في مقال الدكتور عبدالله الغني في موقع (وجهات نظر هنا)، والذي فسره البعض على انه تغيير في الموقف الأميركي العام وقد يكون مقدمة لسياسة أميركية افضل تجاه العراق! لهذا لابد من طرح ملاحظات اساسية حول هذه التصريحات لتجنب الوقوع في فخاخ او الغام أميركية جديدة:
1-حينما تنفذ أميركا ستراتيجية ما فانها تحتفظ بخطط بديلة ليست خارج الاهداف الستراتيجية العامة بل من ضمنها فهي تضع عدة خطط بديلة توقعا لفشل احدى الخطط عندها تنفذ الخطة البديلة ، وهكذا كلما فشلت خطة اختيرت خطة بديلة موضوعة سلفا لمعالجة الفشل في الخطط التفصيلية او المرحلية ، ولهذا فان اعتراف اوباما بخطأ ادارة بوش في العراق او في غيره لا يعني التخلي عن الاطار الستراتيجي الذي وضعت الخطة المرحلية ضمن خطواته المتعددة بل هو محاولة لانجاحه ببديل اخر افضل .
فمثلا عندما فشل الحل العسكري في غزو العراق نتيجة تعاظم المقاومة المسلحة وايصالها أميركا حافة الانهيار الاقتصادي والعجز عن تجنيد البشر ، اجبر كثيرون ومنهم مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية السابقة على تلخيص وصف غزو العراق بانه (اكبر كارثة ستراتيجية في التاريخ الأميركي) وقالت ذلك في عام 2009 اي في عام تسلم اوباما الادارة وذكرت فيه نفس ما قاله اوباما حول الغزو .
وفي ضوء تلك النتيجة تقرر بعد معركة الفلوجة الثانية تغيير الخطة بجعل العمل المخابراتي هو الموجه للعمل العسكري وتنفيذ خطط متعددة تقوم على اختراق بعض فصائل المقاومة وانشاء تنظيمات مسلحة متطرفة تزايد على الفصائل الاصلية التي كانت وراء الحاق الهزيمة بالقوات الأميركية وتكبيد الاقتصاد الأميركي خسائر عجز عن تحملها بعد ان تجاوزت التريليون دولار ووصلت الى ثلاثت تريليونات وهذا رقم مخيف يعادل عدة اضعاف تكاليف كل حروب أميركا في العالم . اوباما يلمح لهذه الحقيقة تماما بتفضيله العمل الدبلوماسي المدعوم بعمل استخباري وما الجيوش الخاصة التي نراها الان الا نتاج العمل المخابراتي.
2-يبقى التنافس داخل الكونغرس واجهزة المخابرات والاعلام ومراكز البحوث قائما وكل طرف من هؤلاء لديه بديل مفضل يدافع عنه ويروج له ما ان تبرز ملامح فشل او ضعف اداء في الخطة المنفذة ، لهذا نلاحظ ان التصريحات المتضاربة تصدر من تلك الجهات وتشكل مصدرا للاضطراب احيانا في رؤية الانسان العادي داخل وخارج أميركا ، وهذا هدف مطلوب ايضا لان ارباك الانسان خصوصا داخل أميركا يساعد على امرار خطط لا يمكن تبنيها في حالة وجود وضوح لدى الانسان العادي .
3- بل يمكن التأكيد على ان كبار المسؤولين اثناء تحملهم المسؤولية لا يترددون في انتقاد الخطة المنفذة ويروجون لتنفيذ خطة بديلة وهذا ما فعلته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية حينما اخذت تروج لنظرية (الفوضى الخلاقة) كبديل للعمل العسكري العنيف الذي جسدته نظرية ( الصدمة والترويع ) التي ابتدأ بها غزو العراق لتحقيق اكبر ارهاب وتخويف للعراقي العادي واجباره على الاستسلام وترك المقاومة . اما بعد الفشل في ارهاب الشعب العراقي وتعاظم مقاومته على عكس ما توقعت أميركا فان نشر الفوضى الهلاكة كان هو البديل المطلوب لتدشين اكبر ربيع لبني صهيون رأينا تباشيره في عام الشؤوم 2011 ليس في العراق فقط بل في كل الوطن العربي .
4-عندما تفشل خطة ويعرف الراي العام بفشلها فان النقد يوظف لاحتواء الغضب الشعبي الأميركي ومنع تطوره الى رفض للستراتيجية ذاتها ، ولهذا يبدا الاعلام او الخبراء او المسؤولين الرسميين بنقد الحالة تمهيدا لتغير الخطة المرحلية التي فشلت واحتواء الادانة الشعبية .
5-وفي حالة وجود ادلة لا تدحض على تنفيذ خطط مرفوضة من الرأي العام الأميركي وتتعارض مع الدستور الأميركي مثل التعذيب والقتل غير المسوغ عسكريا فان المخابرات تنفذ خطة احتواء ما تسرب وعرف وتسبب في ادانات عن طريق تحميل افراد مسؤولية التجاوز واعتباره عملا فرديا غير مقبول ! وابرز الامثلة فضيحة ابو غريب التي مارست فيها الاجهزة الأميركية اساليب تعذيب تجاوزت كل الحدود القانونية التي يتقيد بها الجيش الأميركي فكشف جزء صغير من المعلومات الحقيقية وادين اشخاص لتجنب تحميل الادارة كلها المسؤولية رغم انها هي التي وافقت على تلك الاعمال مسبقا .
وفي هذا المثال من الضروري ان نلاحظ ان ما حصل في ابو غريب حصل ايضا في اغلب السجون التي انشاها الاحتلال الأميركي ، وليس في ابو غريب فقط ، وكانت ممارسة مقرة من وزير الدفاع شخصيا دونالد رامزفيلد مثل الاغتصاب واقناع المعتقل اثناء التحقيق انه سيخنق باغراقه بالماء ...الخ . هذه اعمال عامة مقرة سلفا وعندما تنكشف تحمّل المسؤولية لافراد ويحصر نطاق الفضيحة وتحمى الادارة الاعلى والكونغرس الذي دعم الادارة من المحاسبة .
5-هناك جرائم كبرى ضد الانسانية ارتكبت في أميركا منذ نشوءها اعتبارا من ابادة 112 هندي احمر بلا رحمة ووفقا لخطة مقررة لاخلاء أميركا من سكانها الاصليين واستعمار البيض للقارة كلها ، علما ان عدد سكان كل اوربا وقتها كان 52 مليون انسان اي ان من ابيد من الهنود الحمر كان ضعف سكان كل اوربا . كما ان استعباد السود وابادة الملايين منهم بلا رحمة والاخطر استخدام الانسان الاسود والابيض ايضا في التجارب السرية على الانسان كتجربة بعض الادوية او نشر امراض معينة – مثل السفلس - لمعرفة نتائجها ...الخ ، بصفتهم Guinea Pig او حقل تجارب كل ذلك محرم وفقا للدستور الأميركي ، ولهذا عندما تفضح احدى هذه الاعمال يقوم الرئيس الأميركي او غيره بنقد ماجرى والاعتراف بانه عمل خاطئ مثلما فعل بيل كلنتون عندما انتقد اجراء تجارب على السود والتي ادت الى موت اعداد كبيرة منهم اثناءها .
هذه الاعترافت بارتكاب خطأ لا تعني التراجع عنه بل طي صفحته دون عقاب احد اما لتوفي من امر بذلك كالرؤوساء او مدراء الاجهزة ، والبدء باعمال اخرى منافية للدستور وبسرية ايضا .
6- ما نسميه نحن بالقيم الاخلاقية او الانسانية معدومة تماما على مستوى صناع القرار الأميركي ولهذا فان هناك قاعدة معروفة في أميركا تقوم على السماح بخرق القوانين او تجاهله ولكن مع التخلي عمن يكتشف وتركه يواجه مصيرة مع انه نفذ امرا وواجبا كلف به ! بهذه الاخلاق تتعامل أميركا مع من تكلفهم من مواطنيها الذين يحميهم الدستور بالقيام باعمال شنيعة مخالفة للدستور الأميركي فكيف ترحم شعبا اخرا من الابادة والتهجير والتعذيب كما حصل ويحصل للعرب في العراق وسورياو ليبيا واليمن ؟
7- هل (اسرائيل الشرقية) حقا هي المستفيد الوحيد من غزو العراق كما قال اوباما ؟ هنا نرى تضليلا متعمدا يقوم به اوباما فان أميركا و(اسرائيل) الغربية هما المستفيدان الاهم لان تدمير العراق وتقسيمه من اهم الاهداف الستراتيجية الصهيونية والتي تبنتها ادارة بوش الصغير وتاتي بعدهما (اسرائيل الشرقية) ولكنها سوف تدفع لاحقا وحتما الثمن الباهض لغزوها العراق وتدميرها له وابادتها لمئات الالاف من العراقيين بينما أميركا و(اسرائيل) الغربية بعيدتان عن العواقب المباشرة على الاقل في الزمن المنظور .
8- هل حقا ان أميركا قد تغيرت او غيرت سياستها تجاه العراق بعد الاعتراف بان غزوه كان خطأ ام انها تمارس دورا اخرا في اطار نفس الستراتجية التي ادت الى غزوه ؟ ان ما يجري الان في العراق وغيره مقدمات لخطة أميركية اخرى تختلف عن سابقاتها ميزنها انها تريد اجتذاب قوى وطنية لمحرقة الحكم بعد ان انتهى دور الجواسيس الذين نصبتهم هي واسرائيل الشرقية حكاما للعراق ، في مرحلة كان هدفها الاساس هو الحاق اكبر دمار شامل ممكن بالعراق بشرا وعمرانا ، ثم تحميل اولئك الجواسيس المسؤولية وحدهم وتقديم عملاء وجواسيس ابعدتهم أميركا عن المشهد عمدا توقعا لمرحلة اخرى مختلفة ، ليكونوا حكاما بمشاركة جواسيس من (اسرائيل الشرقية) واطراف وطنية يراد حرقها وتوريطها في بديل ملغوم .
هنا تواجه القوى الوطنية مرحلة بالغة التعقيد والحساسية تتطلب اعلى درجات الوعي والانتباه لتجنب الحرق فاخطر العاب أميركا المخابراتية تبدأ الان وليس تلك التي نفذت بالامس.